رواج الفتاوى التكفيرية خطر عظيم لما تسببه من فتنة تراق فيها الدماء وتسلب الأموال وتنتهك فيها الأعراض ">
الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
حذّر متخصّصون في العلوم الشرعيّة من خطورة رواج الفتاوى التكفيرية في المجتمعات الإسلامية، والسّير خلف هذه الأفكار الضالة التي يطعن بها البعض في عقائد المسلمين.
وأجمعوا على أنّ مقام الفتوى مقام رفيع القدر لا يناله إلا علماء بالكتاب والسنّة علماً دقيقاً، وأنّ رواج الفتاوى التكفيرية خطر عظيم لما قد تحدثه من فتنة كبيرة تأكل الأخضر واليابس، وقد يترتّب عليها إراقة الدماء والمساس بأموال الناس وأعراضهم، وهي أمور جرّمها الإسلام الحنيف.
وبيّنوا في أحاديثهم لـ»الجزيرة» كيفيّة مواجهة الفتاوى التكفيرية من قبل ذوي الاختصاص.. وفيما يلي نص رؤاهم الشرعية.
دعوة أقسام العقيدة
بدايةً يوضّح الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحيى أستاذ الفقه بجامعة القصيم أن داء الغلو والتكفير إنما تمثل الفتاوى التكفيريّة منه حلقة من حلقاته، لذا فمعالجته ينبغي أن تكون معالجة شمولية وأدعو أقسام العقيدة في الجامعات إلى توجيه بعض رسائل الماجستير والدكتوراه لتناقش هذا الفكر وهذه الظاهرة بشكل علمي موضوعي.
وأود التنبيه إلى ما يلي:
أولاً: أنه لا يعرف عالم أو طالب علم يؤيد هذا الفكر وهذا التنظيم إطلاقاً؛ بل حتى من قد يُعَدّ من منظري فكر الجهاد قد تبرأوا منهم وحاربوهم وردوا عليهم، فمن معهم إذن؟ ومن يفتي لهم؟
وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وصفهم: «حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» متفق عليه، وقوله: «سفهاء الأحلام» إشارة إلى أنهم بسطاء في التفكير قد يستغلهم الماكرون للإسلام وأهله.
ثانياً: إن فتاوى تلك الفئة غالباً مصدرها جهلة ومجاهيل، فهم بين جاهل بالدين أو مجهول لا يُعرف، ومن كان هذا شأنه فكيف يمكن محاورته ومناقشته؟! إلا أن الشبهات التي قد يُلقيها أولئك يجب الرد عليها؛ مع أنهم في الكثير الغالب يعسر على طالب العلم إقناعهم لأسباب كثيرة من أهمها انطلاقهم من أصول وقواعد ليست مما يعرفه أهل العلم.
وأشبه ما لديهم بشبكة من حبال اختلطت وتعقدت فإن جررت منها طرفاً انقطع، فليس لك إلا أن تحل منها عقدة عقدة وإن طال بك المجلس، فهكذا ما تشرّب أولئك من بعض الشّبهات يحتاج عدة مجالس يتم فيها تفكيك خطابهم وشبهاتهم. ومثل هذا الصنيع لا يتم إلا بجو آمن للطرفين.
ثالثاً: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}.
في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية ثم قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، قال المفسرون: المحكم هو الواضح في معناه والمتشابه بضد ذلك.
فالأخذ بالمحكم الواضح هو سبيل الراسخين في العلم وأما من يتبع المتشابه ويتشبث بالمحتملات من النصوص فقد أخذ بمنهج أهل الزيغ وثمرته التطرف إفراطاً أو تفريطاً.
وهكذا من يأخذ ببعض النصوص معرضاً عن النصوص الأخرى، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. وإنما منهج أهل السنّة الأخذ بجميع النصوص ما أمكن والجمع بينها على أكمل الوجوه وأقربها إلى إعمالها دون إهمال شيء منها وكل حمل للنصوص على تفسير وتأويل ناقص يؤدي إلى تفسير وتأويل معاكس له في الاتجاه.
رابعاً: قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، فالعدل هو العلاج الأمثل للميل وليس علاج الميل ميلاً يقابله، وقد جنح البعض في معالجة الغلو فوقعوا في الغلو، ففكر الخوارج حين ظهر في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- قاوموه بالصراط المستقيم وليس بالانقلاب على مبادئ الدين العظيم.
المناهج التعليمية
وأضاف الدكتور اليحيى قائلاً: من الغلو اتهام المناهج التعليمية وهي تهمة خرقاء حمقاء فأول اثنين عدهما العالم على قائمة الإرهاب أحدهما خريج كلية التجارة والآخر طبيب جراح، فأين مناهج التعليم الشرعي منهما؟!
والخوارج الجدد أغلبهم صغار ممن تعلموا بعد تعديل المناهج في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر فكان ينبغي اتهام تعديلها وليس العكس.
والذي يطالبنا بتعديل المناهج سواء من الغرب أو من يتحدث نيابة عنهم عليه أن يبدأ بتعديل المناهج الإسرائيلية التي تكرس العداء للعرب قبل أن يتحدث إلينا ينظر على سبيل المثال:
كتاب (الصراع الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية الإسرائيلية) للباحث الإسرائيلي إيلي بوديه، وكتاب (القتل والتحريض عليه في المناهج الإسرائيلية) لـ د.عبدالله اليحيى، وكتاب (تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية) للباحثة صفا محمود عبدالعال.
وإن تأصيل العلم الشرعي هو العاصم -بإذن الله- من الفتن والغلو، فما أصبنا بمثل الجهل، ولن تجد في مثل هؤلاء الخوارج من طلب العلم الشرعي على أصوله وتربى عليه؛ وإنما هم ينتزعون الشبهات انتزاعاً كما فعل أوائلهم وهذه لعمر الله آية الجهل.
خطر الفتوى
ويؤكّد الدكتور نايف بن عمار بن وقيان الدوسري أستاذ الفقه وأصوله المشارك بجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز إن مقام الفتوى مقام رفيع القدر لا يناله إلا عالم بالكتاب والسنة علماً دقيقاً، متضلعا من علم أصول الفقه، ولغة العرب، عارفا لمقاصد الشريعة، وهذه صفات لا يبلغها إلا آحاد الأمة ليست سهلة المنال، ثم إن نصوص الشريعة حذرت أشد تحذير من الخوض فيها بلا علم فقرن الله القول عليه بلا علم بأعظم ذنب وهو الشرك، لأن المفتي موقع عن الله.
والفتوى في هذا العصر -هناك للأسف الشديد- من تسلقها واقتحمها بلا علم ولا دراية، وأصبحت كلأ مباحا وحمى مستباحا من جهلاء بأبسط أحكام الشريعة، فتصدّر لها: جاهل في الشريعة لم يصل للحد الأدنى من العلم. ومجهول العين لا يعرف حاله، متسترا عبر وسائل إعلامية، فيصدر الفتاوى العامة في قضايا مصيرية خطيرة، ومن العجائب التي تحار فيها أذهان العقلاء تلقف بعض شباب الأمة لفتوى هؤلاء المجاهيل، المتسترين بأسماء مستعارة وصور كاذبة، يدغدغون عواطفهم بعبارات براقة، يظهرون الغيرة على الدين والحمية للمسلمين.
ويعظم خطر الفتوى حينما تمس أصول الدين وعقيدته فيفتون في قضايا كبيرة متعلقة بعموم الأمة ترتبط بمصير الشعوب والأمم والحضارات، وهذا يجعل الضرر عاما فتؤثر سلبا على علاقة الدولة بغيرها من الدول، وتنتشر الفتنة بين المسلمين فالنتيجة الحتمية لهذه الفتوى التكفيرية سفك دماء الأبرياء.
ومتصدر هذه الفتاوى التكفيرية تجده يحرص على حشد الأدلة الشرعية، وتنزيلها على الواقع وهذا في نظري مكمن الخطر حيث يظن هذا الشاب أو غيره صواب قوله وقوة حجته وهذا بلا شك مزلة أقدام كثير من أهل البدع وعلى رأسهم الخوارج.
ونصوص الشريعة منها المحكم والمتشابه وأهل الأهواء يتبعون ما تشابه منها، والمفتي لا يتعامل مع النصوص مجردة عن معانيها ومدلولاتها بل منها العام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ وغيرها وهذه لا يفهمها إلا الراسخين في العلم الذين ذهبت أعمارهم في حلقات الدرس والعلم، وأنّه لا بد من فهم مقاصد الشريعة والموازنة بين المصالح والمفاسد، وأقول إن عدم فهم مقاصد الشريعة والجهل بأحكام السياسة الشرعية هو في نظري من أهم أسباب الفتاوى التكفيرية.
تنظيم الفتوى
وشدّد الدكتور نايف الدوسري على أنه من الواجب حيال هذه الفتاوى التصدي لها بالآتي:
* تتبع مروجيها خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي وحجبها عبر مراكز تقنية متطورها.
* الحجر على من علم منه هذه الفتاوى -مع أن الغالب مجهول أو خارج البلاد- حيث قرر الفقهاء وجوب الحجر على المفتي الماجن، لأن هذا المفتي أضر على الناس من الطبيب الجاهل الذي غاية جهله ضرر الجسد بينما هذا المفتي غاية جهله الضرر على الدين والنفس والعرض والمال فالمكفر يلزم منه قتل الأنفس وهتك الأعراض بسبي نساء المسلمين بناء على كفرهن وسلب الأموال وغير ذلك من المفاسد العظيمة المستلزمة لتكفيرهم.
* قرر الفقهاء -رحمهم الله- وجوب الاحتساب على الفتوى سئل ابن تيمية -رحمه الله- أيحتسب على الفتوى فقال: أيكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب. فيخصص جهة تراقب وتشرف على هذه الفتاوى الضالة.
* تنظيم الفتوى واجب على إمام المسلمين كما فعل خلفاء بني أمية وهذا قد صدر فيه قرار لكن أرى أنه لم يفعل وينظم فلا بد من تشكيل لجنة أو مجلس مختص بتنظيم وتفعيل هذا القرار بحيث يصدر له مواد تنظيمية ولوائح تفسيرية من قبل مختصين من الفقهاء.
* هذه الفتاوى التكفيرية تعد من قضايا الأمة الكبيرة وجهة إصدارها لا تكون فردية بل عبر مجامع فقهية تشمل أكثر أهل العلم خصوصا من لهم قبول وتأثير في أوساط الشباب، وقد صدر إنشاء مجمع فقهي سعودي لكن للأسف لم ير النور بعد، فيفعل هذا القرار ويعاد هيكلة هيئة كبار العلماء ويستقطب فقهاء وأكاديميين وخبراء في سائر التخصصات ذات العلاقة بهذه الأفكار التكفيرية المتأثرة بتلك الفتاوى من مختصين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد وتوسع مهامها عبر مظلة هذا المجمع الفقهي وينبثق منه عدة لجان ومراكز بحث ورصد لهذا الفكر ومنظريه، كما أن محاربة الفكر التكفيري ومفتيه ومنظريه لم تبذل فيه حتى الآن إلا جهودا متواضعة فردية مبعثرة، مع أنه من أخطر ما يواجهنا في هذا العصر.
توجيه الإعلام
ويقول الدكتور راشد بن محسن بن عبدالله آل لحيان أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز عضو الجمعية الفقهية السعودية إن مما ابتليت به الأمة منهج التكفير الذي يتبعه التفجير وسفك الدماء المعصومة، والإفساد في الأرض، والصد عن دين الله، ولعل من أهم ما تواجه به هذه القضية الخطيرة في تقديري الأمور الآتية:
1- رجوع الناس إلى ربهم والإقلاع عن الذنوب والتوبة من المعاصي فإنه ما وقع بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك موجب للعقوبات العامة والخاصة.
3- الأخذ على يد أهل الفسق والفجور الذين يطعنون في العقيدة ويسخرون بالدين وبشعائر الإسلام ويهدمون ما بناه ولاة أمرنا -وفقهم الله- وما قامت عليه هذه الدولة المباركة التي جعلت القرآن والسنة دستورها ومرجعيتها العليا.
4- توجيه الإعلام ليكون صوتا للمواطن وممثلاً لهذا الوطن في دينه وثقافته وعقيدته. ولا يكون وسيلة هدم للقيم والأخلاق.
5- تركيز العلماء والدعاة على بيان منهج أهل السنة والجماعة في باب التكفير فإن تقرير الحق يمنح الشاب حصانة في مواجهة الشبهات.
6- إبراز دور العلماء وربط الشباب بهم ومنع السفهاء من النيل منهم أو التقليل من شأنهم.
7- الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي فإنها مجال خصب لانتشار شبهات التكفيريين وفتاويهم بأسماء مستعارة.
8- استخدام وسائل الإعلام المؤثرة كالقنوات الفضائية في رد شبهات التكفير.
9- بيان الآثار الخطيرة لفتاوى التكفير وما يترتب عليها من سفك الدماء المعصومة والتخريب والإفساد في الأرض والسعي في خراب بيوت الله وترويع المصلين.
10- دعم المحاضن التربوية التي تستوعب الشباب وتحفظ أوقاتهم ويقوم عليها الثقات المشهود لهم بسلامة المنهج وحسن القصد.
11- أن يتولى الرد ومناقشة الفتاوى التكفيرية المختصون من طلبة العلم ممن لهم خبرة واطلاع بشبهات التكفير ولديهم الحجة والأسلوب المناسب في رد الشبهات بالحكمة والموعظة الحسنة.
12- حل مشكلة البطالة والفراغ فإن بقاء الشاب عاطلا ربما يجعله ضحية لمثل هذه الفتاوى التكفيرية.
13- فضح الجهات الإقليمية والجماعات الحاقدة التي تقف وراء هذه الفتاوى وتسخرها للنيل من هذه البلاد المباركة والإفساد فيها وزرع الفتنة والفوضى في ربوعها.
14- الوقوف في وجه نزعة الإرجاء لدى بعض المنتسبين لمنهج السلفية حيث إن ذلك يسبب ردة فعل بفتاوى تكفيرية مقابلة لها.
والحق هو منهج أهل السنة والجماعة فهو وسط بين الخوارج الغلاة وبين المرجئة الجفاة.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وأن يوفق ولاة أمرنا لما يحبه ويرضاه ونسأله تعالى أن يؤيد خادم الحرمين وولي عهده وولي ولي عهده وينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته، إنه سميع مجيب.