مقاربة نقدية في مجموعة (عناق) القصصية!! ">
مدخل: لي صديق حميم.. وزميل دراسة وعمل قديم من القرية التي ينتمي إليها صاحب هذه المجموعة القصصية التي نقرأها اليوم.. إنها قرية «رغدان « في منطقة الباحة الغالية - صديقي المقصود هو: الأستاذ الشاعر المتواري « صالح الخمري»!!
ذات عيد قديم، كنت للتو تخرجت من الجامعة، وعملت مدرساً في جدة، واشتريت سيارة جديدة.. فدعاني هذا « الخمري « لزيارته في» رغدان « وقضاء بعض الأيام العيدية في تلك البلدة الغارقة في الجمال القروي، والأوجاع القروية!!
دبرت الأمور.. واستأذنت الوالدين الذين وافقا على مضض فالسيارة جديدة والطريق طويل وقدرتي القيادية لاتزال تحت التدريب،أقنعتهما أن معي صاحبان، يؤنسان وحشة الطريق، ويحلان مشاكل القيادة!! إنهما ابن رغدان (أيضاً) المقيم في الطائف الأستاذ يعن الله الغامدي، الدكتور حالياً والكاتب في صحيفة الشرق. والأستاذ سعد العكش من بني سعد، المعلم المتقاعد حاليا!!
أصبح العيد.. فاجتمعنا.. وبدأت الرحلة.. ساعتان.. ثلاثة..أربعة، وها نحن شارفنا مدخل « رغدان « وإذا بصاحبنا ومضيفنا يستقبلنا ويوصلنا إلى داره العامرة ونتناول إفطارنا مما لذ وطاب: أكلات غامدية حتى شبعنا وتهيأنا وكان القرار الشاي في غابة رغدان!!
خرجنا إلى السيارات وانقسمنا فريقين: أنا ويعن الله في سيارتي الجديدة، صالح وسعد في سيارة صالح التي سبقتنا وسارت أمامنا ونحن خلفها نتأمل الطريق وجمال المزارع على الجهة اليمنى حيث وادي الزرقاء، وعناقيد العنب، وثمار الحماط والرمان والفرسك... وتشاء القدرة الربانية، والقدرالإلهي أن أغفل عن القيادة مع تلك التأملات فيقطع الطريق طفل صغير دون السبع سنوات، ويحصل المحظور، اصطدام شديد بالطفل، وفقدان للسيطرة على السيارة.. ولا راد لما قدره العليم الحكيم!!
يا فرحة ما تمت!! جاء الإسعاف والمرور.. الطفل المصدوم إلى المستشفى.. والسائق (أنا) إلى التوقيف بمرور شرطة الباحة، والزملاء انشغلوا بالحادث وترتيب الأمور الجديدة وساطات وزيارات و.. و.. و....
شهران – تقريباً – من عمري قضيتها فالباحة.. فمن التوقيف إلى المشفى في بلجرشي، ثم إلى السجن العام حتى تنازل أبو الغلام وخرجت عائدا ً إلى الطائف بلا سيارة ولا زملاء إلا مرافقة والدي (رحمه الله) وإخواني حفظهم الله!!.
تذكرت ذلك كله.. فذكرت زملائي المعلمين من بلجرشي: سعيد فازع، سعيد حشرة، وغيرهما وموقفهم الإنساني الأخوي فقد ظلوا بقربي في مشفى بلجرشي حتى تشافيت وتعافيت!!
تذكرت يعن الله وصالح الخمري ومتابعتهما للقضية حتى توصلا إلى والد الغلام المصدوم واقنعاه بالتنازل.
تذكرت والدي ومؤذن من المسجد وجماعته الغمد الذين حاولوا إقناع والد الغلام حتى تنازل عن القضية بعد الاطمئنان على ولده، وأنه بخير والحمد لله.
تذكرت الغلام/ المصدوم آنذاك والكهل الآن وأتمنى أن القاه لأعتذر إليه!!
هذه قصة « رغدان « وقصتي معها ومع أوجاعها القروية، ذكرني بها ابن رغدان (جمعان الكرت) صاحب المجموعة القصصية « عناق « الصادرة عام 1429 هـ، التي نتداخل معها في هذه المقاربة النقدية!!
***
(2) «تجوال» إحدى القصص القصيرة جداً في هذه المجموعة ص ص 111-112، وفيها تلخيص لقصتي السابقة مع رغدان بكل تشابكاتها وإشكالاتها المفصلية / حادث سيارة واصطدام بطفلة بريئة انفلتت فجأة من يد امرأة بجوارها لتقطع الطريق والسيارة المسرعة لم تستطع تحاشيها فوقع المحذور:» كانت السيارة منطلقة، طعنتها برأسها الحديدي تدحرجت.. نزف دمها على الأسفلت «!! في هذه القصة تتنامى جماليات ال (ق. ق. ج) من حيث الإيجاز، والتكثيف اللغوي، والدهشة والبنية الحكائية، والتي تستوعب الحدث والزمان والمكان وأبطال القصة!!
إذاً «الموت « نتيجة و»السيارة « أداة القتل والجريمة وها هما يتماهيان في مجموعة من القصص القصيرة في هذه المجموعة فمثلاً القصة التي تحمل في عنوانها مفردة الموت ص 107 « لعبة الموت « تتكئ على جماليات ال (ق. ق. ج) فالبنية المكانية (بحره) والبطولة يتقاسمها كل من (عادل – محمد – خالد) ضحايا حادث السيارة. ويجيء الأب والأم ومدير المدرسة كشخوص ثانوية تكمل المشهد المأساوي، ثم نجد الوصف والتصوير واللغة المكثفة. أما الدهشة فتشكلت منذ مطلع القصة « تشظت عصافير الفرح، فغدت أشلاء من لهب « لتتأكد في مشهد ختامي « تناثرت أجسادهم أشلاءً.. أصوات مشروخة تئن من هنا وهناك.. الحزن استحال إلى أشجار سوداء متفرعة.. « لكن بيت القصيد أو ا لمفارقة التي تعطي للقصة جمالياتها قول الطفل الناجي من الموت /الشاهد الأخير الذي تحدث للصحافة:» شاهدت رفاقي يحلقون في الفضاء بأجنحة ذهبية «!!
ومثلاً قصة « اشتهاء « ص61، والتي تتماهى مع « الموت « بصورة جديدة، صاغها القاص على هيئة حلم (فانتازيا) « عصفور أزرق يحلق وعلى جناحيه تمطى ثور عملاق، وراحا في جولة علوية شاهدا فيها الكون مختلفاً عما عهداه: الجبل أصبح مخدة من قطن بال الأشجار الباسقة أزارير خضراء مثبته في جسد الأرض /الوادي عقد لؤلؤ يسير بغنج /الرجال عيدان ثقاب محترقة /الأفق خيط هلامي رفيع.. إلخ، ثم يهبط هذا الكائن الحلمي ليلقى حتفه / موته على يد شهوة بشرية للقتل والموت!!
هنا يمكن قراءة الموت كمعادل للحياة التي يعيشها الكاتب / القاص / المبدع، فيحاول اقتناص ماهيتها وحركيتها ليصوغ منها ذلك النقيض في لغة وصور وجماليات تغري بالتناول النقدي!!
***
(3) للجمادات، والنباتات،والكائنات اللابشرية، موقع متميز من القصة (الجمعانية) – إن صحت النسبة – فهو يؤنسمها، ويجعلها ذات روح / تحس.. تشعر.. تتشيء.. تقول.. تعبِّر.. فالجبل – مثلاً – في قصة (البقعة ص 9) هذا الجماد الصخري، يخلق له – جمعان الكرت – عيوناً فهو ينظر إلى ما حوله بشيء من الزهو، ويخلق له نحراً فهناك بقعة سوداء التصقت في نحره، ويجعل له أنفة وقدرة على الإرعاد والإمطار، وضعفاً بشرياً يجعله في حنق واحتقان وحزن، مثله مثل أي إنسان عاقل مميز.
وتتكرر هذه الأنسنة مع (قصة الشجرة ص 37) فها هي تتحاور مع عجوز لقطته الحياة وتشكو إليه رجلاً شتمها وبصق في وجهها، وتسر إليه بأخبار بعض بني البشر الوصوليون /المنافقون اللذين تزكم الأنوف روائحهم، واللذين يتغلغلون في احشاء المدينة..!!
كما تتكرر هذه الأنسنة في قصة (الزمن اللدن ص 95). حيث يتماهى القاص مع الساعة وعقاربها. مع الساعة وثوانيها ودقائقها التي «تسير وتسير كأرنب بري عشقه القفز على نبات الخزامى..»
وكذلك تتكرر الأنسنة مع البذرة التي انفلقت في (قصة جنوح ص117) وغرست رأسها في الطين وبزغت رقبتها في حزيران ثم زادتها رسوخاً وطولاً. بجوار شجرة كبيرة أبت ضمها والحنو عليها!!
إن هذه الأنسنة للأشياء والنباتات والجمادات وعقلنتها في هذا الحيز القصصي له دلالة المعايشة الحدثية واستكناه الواقع البيئي واستئناس هذه المشتركات الحياتية مع بني الإنسان وتجسيد الفجوة التواصلية بين هذه الحيوات.. وبالتالي رصد الحالة المجتمعية من خلالها إيحاءً وإضماراً، والتوق إلى ما يسمى ب (الخلاص) و(الصفاء) أو (اللنقاء والمثالية) في واقع يشي بالنرجسية والاعتباطية والعبثية!!
***
(4) تبدو (القرية) دالاً ورمزاً استثنائياً في هذه المجموعة القصصية وذلك منذ عتبة الإهداء ص 3، التي أسرف القاص في التعريف بها – في 12 سطر:
- القرية وذاكرتها / القرية ونجومها وقمرها وشمسها../القرية وأهداب عينيها../ القرية وسكانها الطيبين../القرية التي تمنح الكاتب وهج الحرف../القرية ونبضها الراعف../القرية والمخزون الثقافي /القرية وعيونها..
وهذا في نظري – بذخ لغوي.. وطول تعبيري.. لا تحتاجه المجموعة القصصية لا سيما وأنها تنتمي اكثرها إلى مجال ال (ق. ق. ج) التي تقوم على الإيجاز والتكثيف اللغوي!! فما بالك بعتبة الإهداء!! كان يمكن الاختصار والاكتفاء بدلالات القرية ورمزيتها فيما لا يتجاوز الأسطر الثلاثة مثلاً!!
نجد (القرية) في قصة (عناق ص5) من خلال شجرة الحماط وجمالها الأخاذ عندما بدأت (أسطورة السماء تفجر فيض بهجتها ضحكاً متواصلاً)
ونجد القرية في قصة (الخبر ص11) من خلال الحرث والزرع والحصاد (والسحب تهمى بمطرها والوادي يشدو بشفيف الماء).
كما نجدها في قصة (انكسار ص 31) حيث سوق الخميس الشعبي، والمدرسة التي يقسو معلموها على الطلاب أبناء القرية ويصفوهم بحيواناتها.
ثم تتجلى القرية أكثر في قصة (علوم الديرة ص 65-88) وهي أطول قصة في هذه المجموعة – وأعتقد أنه ليس مكانها هنا فنحن أمام مجموعة (للقصة القصيرة جداً).
(علوم الديرة) تحمل ثنائية القرية /المدينة، وكيف تكون المدينة أملاً للخلاص والسمو، ولكنها تتحول إلى تهلكة واستهلاك وفجيعة!!
تبدو القرية هنا من خلال سنابل القمح وتغريد العصافير والنباتات العطرية وبراءة الوجوه.. والفقر المادي!! كما تبدو المدينة من خلال فالح الأخ الذي رحل للمدينة، ومرزوق بن لافي الذي تسيد قومه لامتلاكه العقارات والفلوس, ومن خلال فرص العمل الوظيفية، والبحر, والرطوبة، والشوارع الطويلة, والسيارات الكثيرة، لتنتهي هذه الثنائية لصالح القرية التي تعود إليها الأسرة « امرأتان وأربعة صبية ورجل فقد عقله.. «. وهذه نهاية سوداوية فيها هزيمته، وعودة سلبية، ولكن فيها رجحان قروي لأنها الملاذ الأخير رغم كل الإحباطات!!
تبدو (القرية) في نصوص هذه المجموعة (قرية سطحية، قشرة ظاهرية، لم يستبطن القاص شموخها وعزة أهلها.. وعاداتها وتقاليدها.. لم تظهر صورة المجتمع القروي وتعالقاته مع الأرض والناس والحياة بشكل تكاملي. بل كانت دلالات القرية بعيداً عن العمق المتوخى والمنظر والذي أوحت به إلينا العتبة الإهدائية. وظني – النقدي – أن ذلك يعود لانشغال القاص بفضاءات ال(ق. ق. ج) فهذه النسخة الجديدة من نسيجنا السردي، بنت المدينة، بنت عصر السرعة، بنت التقنية، بنت التشذيب والتهذيب اللغوي، بنت الإيجاز والإطناب، ولذلك غاب النص القروي في هيمنة النص المدني، وجاءنا القرية خفرة.. حيية « المزارع أكل الجدب أطرافها وتحولت إلى مساحات غبراء.. عدا أشواك نبتت بعد أن اعتصرت التربة ماءها الشحيح «!!
***
(5) وقبل أن أختم هذه المقاربة، سأقف عند شيء من الجماليات التي تنمح هذه المجموعة أحد أسرارها القرائية، وفضاءاتها النصَّية، وكينونتها السردية..وهي تلك اللغة الطازجة الممهورة بالبلاغة التصويرية، والإبداعات التعبيرية مما يشي بامتلاك القاص / المبدع (جمعان الكرت) ناصية اللغة وحروفها الأبجدية، وقدرته على صهرها في الموسيقى الكتابية، والصور الشاهدية لتتلقفها الأذن القارئة، والذهنية المستوعبة للجمال وحسن الخيال، وصور الإبداع.
لنرى أولاً هذا المقطع التصويري:» وقتها كانت الحماطة تبكي بحرقة، أما أسطورة السماء فقد فجرت فيض بهجتها ضحكاً متواصلاً.. وتساقطت بلورات لامعة من فمها الكرزي.. شهاب خفق كجناح أسطوري كان وميضه خاطفاً وسريعاً.. رقصت التربة بلهفة « ص7.
ثم نتأمل هذا التصوير الجميل « غدت أحلامها كصوف مغزول على رؤوس أشجار متناثرة، أوجعها سؤال نبت صباح اليوم.. هل تنكثين مع الرطوبة الدبقة؟ أم تهجرين قبراً يمثل لك نصف الحياة؟ « ص81.
أو هذه الصورة الأجمل « أيها ال...... جئت الآن بعد أن تاهت الغيمة وفقدت ذاكرتها في الفضاء الواسع، هل تستطيع لم شتات الغيوم المنسربة منذ عشرين عاماً.. « ص100.
أو هذه الصورة الجديدة « شاحت الشجرة بوجهها، وظل الغصن يمد بصره باشتها، الغضب يرقص بعنفوان.. لملمت أطرافها بحنو..» ص117.
لنتأمل هذه الصورة البديعة « ثمة ملامح تنبئ عن طفولة مرحة بهيجة كسحابة بيضاء محملة بخير عميم.. دققت النظر في المرآة.. رأت امرأة كتفاحة شهية، فمها كرزي صغير، عيناها تشعان بيرق أخاذ، ضوء ينبعث من وجهها البدري.. « ص 121.
وأخيراً نقف عند هذه الصورة الأخاذة « الليل نسي موعده، والظلام تسرب في مفاصل الليل، بينما البرودة اللاسعة أحكمت قبضتها على الجسم المسجى..» ص135.
أعتقد أنني أمام نصوص شاعرية بامتياز، فاللغة شاعرية، والبلاغة التصويرية حاضرة، والمفردات غنية ومكتنزة بمعانيها ودلالاتها أين منها الجناس والطباق، وأين منها التشبيه والمشبه، وأين منها كل ميادين البلاغة العربية في منظورها القديم؟!
إنها لغة ذات جاذبية، فيها رسم وتصوير، وفيها بلاغة ادبية، وفيها معاني مورقة، وفيها تفتيق لمعالم الجمال اللغوية وكل ذلك يحسب للقاص /المبدع /جمعان الكرت الذي تربى – معرفياً – في أحضان الجغرافيا كتخصص، لكن تسامى نحو اللغة السردية الموشومة بالثراء والفتنة والشاعرية، فجاءت مجموعته القصصية (عناق) معبرة أصدق تعبير عن هذه المقدرة اللغوية والسردية. فهنيئاَ لنا به قاصاً ومبدعاً . ومؤملين من نقادنا مواصلة النبش في مجموعاته القصصية (فضة، سطور سرويه، بوارق) للكشف عن فضاءات التخييلية، والقروية، فهي تشكل منجزاً سردياً قابلاً للمداخلة والتعليق.
د. يوسف حسن العارف - جده