نورة مروعي عسيري ">
خلال مراحل دراستي المختلفة كنت احمل وثيقة نجاحي لوالدي الذي يغمرني بحبه وبسعادته عن هذا المستوى الذي يشعره بالفخر، كنت بيني وبين نفسي اطمع في هدايا ثمينة فكل مرحلة من عمري كانت تختلف نوعية ما اطمح له من هدايا، ولكن والدي كان يأخذ قلمه الفاخر من جيبه ويقدمه لي مباشرة، كنت آخذ القلم من يده ولكني اطلب المزيد، وبالفعل يحضر لي ما أتمناه ولكن القلم الذي في جيبه كان أول هدية يقدمها لي في كل مره اقدم له فيها نجاحي.
مرت السنوات ولم أكن اعرف قيمة هذا القلم إلا بعد أن بدأت اسطر بين الحين والآخر ما يجول بخاطري في أي انفعال إيجابي أو سلبي.. لم يكن والدي يخبرني عن «سر القلم « ولعله كان يرى شيئا يختلف عما أراه..
ومع الأيَّام أصبح للقلم عندي قيمة فكلما جلست بمفردي تناولت ورقة وبدأت بالرسم والكتابة بأنواع مختلفة من الخطوط فكنت لا اشتري إلا القلم ذا الرؤوس المتعددة حتى اجمل خطي واقتني علب الحبر لاستمتع بالتعبئة.. واكتب كل ما يدور بذهني حتى وان كانت كلمة واحدة وإذا لم أجد ما اكتبه بدأت رسم دوائر متعددة ومكعبات قد يكون لما يجول بعقلي وما يخطه قلمي مدلولات نفسية ما... لا اعلم ولكنها كانت وسيلة ترمز عندي للحالة التي أعيشها.
لم اكن اعلم انه سيقدر لي في يوم من الأيَّام ان أكون في مجال الإعلام أو الكتابة ولم اكن اعلم ان هذا القلم الذي كان يقدمه لي والدي هو السلاح الذي سيجعلني أدافع عن نفسي أو عن غيري أو يمنحني السعادة حين ينساب مع قطرات مداده مكنوناتي كـ» إِنسان «.
ان التعبير عن الذات من اصعب المهارات الإنسانية وتحويل هذه الذات لشيء محسوس أمر ليس بالسهل، إلا لمن يصقل ذاته بخبرات متعددة تجعله قادرا على التحكم في عواطفه والكتابة بمنطق بعيد عن التحيز وفي نفس الوقت صعوبة التحكم في خط سير هذا القلم، وخصوصا عندما يكون ما تكتبه مشاعا أمام الناس عرضة لاحتمالات العقول وتوجهات الأفكار المتطرفة حينا والمتحررة حينا آخر « والغشيمة غالبا «.
في مرحلة من مراحل عمري كان قلمي مندفعا لاذعا - جارحا - لا يكتب إلا ما يقتنع به ـ دون مراعاة أحيانا لثقافة بعض المجتمعات المنغلقة ـ فهذه المجتمعات بعقليتها تعتقد ان كل ما تكتبه موجها بالضرورة لهم بغض النظر عن ما قد يحمله عقل الكاتب ـ من أفكار وتوجهات قد تكون ذاتية لا تمس إلا وجدانه.
كان والدي يقرأ ما اكتبه ويبدي إعجابه به رغم علمه انه قد لا يروق للمحيط الذي أعيش فيه ـ ولكنه كان يبدي إعجابه به ـ حتى محاولاتي الشعرية الفاشلة كان يثني عليها ويعتز بها كثيرا ، فكلما كتبت أبياتا مكسورة أثنى عليها تشجيعا لي .
وفي بعض المقالات التي كنت اكتبها ويجد بها نقدا لاذعا لم يكن والدي يلتفت للنقد ولكن ينظر لمضمون المقال ويناقشني في قناعاتي، ولم يزعجه ما كتبت إلا مرة واحدة عندما ذيلت مقالي باسم شبه مستعار .
أحسست حينها بأني كنت بنتاً عاقة، فأقلامه التي كان يقدمها لي شاهدا على عقوقي لعلي أسأت التصرف بحرصي على إخفاء اسمه - ولكن ما يشفع لي أنني أردت ان أجنبه نقد مجتمع ـ لا يحترم من تصرح باسمها - .
وظل القلم رفيقا لي خلال سنوات حياتي يستفزني واستفزه يعاتبني كثيرا عندما اهجره ويعاقبني مرات كثيرة، فلا يجعل فكري أحيانا ينساب من مداده على أوراقي التي اختارها واعدها بعناية استعدادا لطقوسي الخاصة حين انوي الكتابة... ولكنه حين نتصالح يصبح مطواعا لي فيعبر عني ويذكرني دائما بأنني كنت معه قبل التحاقي بصفوف الدراسة، في إحدى الليالي جلست مع نفسي لأتذكر أول مرة أمسكت فيها بالقلم لاكتب فتذكرت أنني تعلمت الكتابة قبل دخول المدرسة، وكنت أتحدى النظام لألتحق بالطابور الصباحي بالحي الذي أعيش فيه ولا آبه لقلق أمي وخوفها علي حين كنت اهرب من المنزل في الصباح الباكر واقتحم المدرسة التي تدرس فيها شقيقتي ، فتلتف حولي معلمات المدرسة اللاتي ينظرن لهذه الطفلة الغريبة التي دخلت باحة المدرسة فيضحكن لبراءتي عندما يحتوينها ويتقبلن وجودي الذي فرضته عليهن، ويطلبن مني الوقوف مع طالبات الصف الأول رغم أنى دون السن النظامية لحين حضور والدتي وتسليمي لها، فارفض الوقوف إلا مع طالبات الصف الثالث فيتقبلن إصراري. وعندما تحضر والدتي لاستلامي لا تتردد في عقابي لهروبي من المنزل في هذه السن الصغيرة.. كان عقابها شديدا ولكن هذا العقاب لم يكن يمنعني من الجلوس على دكة بيت جارنا «الكسيح ومتابعة الطابور الصباحي لمدرسة الأولاد المجاورة لمنزلنا... واحاول دائما بعد كل هروب صباحي أن آخذ قلم والدي لكتابة ما أجيده من كلمات... ولكن النور الذي كان يبعثه لي والدي عندما يعود من عمله يجعلني أنسى ما وقع علي من عقاب ويرضيني بقلمه كعادته... لأستمر في خربشاتي مصرة على عدم قبول القلم الرصاص.... لقناعتي انه للأطفال وليس لي.
وأنا اليوم بعد مرور هذه السنوات بدأت افهم ما تحمله أقلام والدي من رسائل وكم أتمنى العودة للماضي لجمعها قلما قلما.. لعلي اجمع شتات ذكرياتي الماضية واكتب على كل صفحة منها رسالة « لهذا الوالد الفطن الذي استطاع بقلمه ومداد روحه ان يبعث في قلبي وعقلي إصرار أكثر لمعرفة سر القلم في حياته وسر إهدائه لي في كل مراحل حياتي «.