د. فهد بن منصور الدوسري ">
بعد مضي سنواتٍ على انطلاقِ الثورات والمظاهرات في بعض الدول العربية، استرجعتُ بعضاً من مشاهدها الأليمة على شعوب أُمتِنا العزيزة، فحمدتُ الله على فضله الذي حفظ هذه البلادَ المباركة، وحماها من أعداءِ الحق، ومثيري الفتنة، ودُعاةِ المظاهرات، الذين خيَّبهُم اللهُ وردَّ كيدَهم وأذلهم، لقد شاهتْ وجوههم، واحترقتْ قلوبُهم بما رأوه من اتِّحادِ صفٍ، واجتماع كلمةٍ.
وأمام هذه النعمة العظيمة جلستُ أتأملُ وأبحث عن العامل الرئيس الذي كان سبباً في تلك اللُّحْمَة العظيمة بين القيادة والعلماء وأفرادِ الشعب، وحرصِهم الكبير على أمنِ الوطنِ واستقرارهِ أثناء وقوع تلك الثورات، وما صاحبها من تهييجٍ مثير، وصَخَبٍ إعلامِيٍ كبير.
وكان هدفي هو استحضارُ ذلك العامل العظيم في مستقبل حياتنا، وتذَكُّرَه كُلِّ وقت، والثباتُ عليه مهما كلَّف الأمر، فما ينتظر العالم من فتنٍ ونوازلَ أقوى وأشد مما مضى.
وخلال البحث والاستقراء كانت هناك آراءٌ كثيرة، وتحليلاتٌ متنوعة، لعلَّ أقربَها: القولُ إن العامل الأساسي في فشل حدوث ثورة داخل المملكة العربية السعودية هو رؤية الشعب السعودي لعواقِبِ الثورات السابقة، وما أعقبها من نتائجَ مدَمِّرةٍ في تلك الدول التي ثارت شعوبها، وهذا القول له وجاهته، إلا أنه لا يمثل سوى نزرٍ يسيرٍ من الحقيقة، وذلك أنَّنا رأينا بعضاً من الدُّول استشرفت للثورات، واستحسنت الخروج على الحاكم، مع عِلمِها ومشاهدَتِها لنتائج وعواقبِ الثورات السابقة. إذاً ما العاملُ الرئيس الذي حمى الله به بلادنا، وحفظها من الفوضى؟
إن العامل الرئيس الذي تعمَّد البعضُ إخفاءه، وإهمالَ ذكرِهِ، مع يقينهم بأنَّه هو الحق، ذلك العامل الأساسي هو مشروعُ أمَّةٍ عظيم أرساه ورعاه الإمامُ المؤسس الملكُ عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل - رحمه الله - قبل أكثرَ من (100) عام، وسار عليه أبناؤه من بعده، فحمى الله البلادَ وحفظها من الفوضى، وزادها قوةً وتلاحُماً أرعَبَ الأعداءَ، وأفرح المسلمين.
وسأبين هذه الحقيقة، من خلال رؤية الملك عبد العزيز الثاقبة، واستشرافه للمستقبل، وبيان كيف سعى لتحقيق هذه الرؤية، بما قام به من خطوات موفقة، وجهود جبارة، وقرارات حاسمة، على مدى عقود طويلة، فأقول مستعينا بالله:
بعد أن تمت البيعةُ المباركة بين الإمامين الجليلين، الإمام محمدِ بنِ سعود والشيخ محمدِ بنِ عبد الوهاب رحمهما الله، بمدينة الدرعية في عام (1157هـ-1744م )، أضاءت شبه الجزيرة العربية بنور الإِسلام العظيم، وفي تلك البيعة المباركة تعهَّدَ الإمامُ محمدُ بنُ سعود بأنه سينصر دعوةَ الإمامِ المجدد، الذي يهدف من خلالها لتنقيةِ التوحيد مما شابه في ذلك العصر من البدع والخرافات والشركيات، وبتحكيمِ شريعة الإِسلام، وإِقامةِ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فكان قيام الدولة السعودية على أساسٍ من البناء الراسخ.
وابتدأت المسيرةُ المباركة، وتعاقب الأئمةُ الأماجد من آل سعود على حمل الراية، يعضدهم ويؤازرهم أبناءُ وأحفادُ الإمام محمد بن عبد الوهاب، واتسعت رُقعةُ الدولة السعودية، وقويت شوكتُها، لكنَّها مرَّتْ بفتراتِ ضعف؛ نتيجةً لتكالب قوى الشرِّ، وتحالُفِ أعداءِ التوحيد، الذين استهدفوا عاصمةَ الدولة مراتٍ عديدة، للقضاء على هذه الدعوة، حتى جاء اليوم الخامس من شهر شوال من عام 1319هـ، الموافق للخامس عشر من شهر يناير من عام 1902م، وهو اليوم الذي وفق اللهُ عز وجل فيه الملكَ عبد العزيز من استرداد الرياض، والعودة بأسرته إليها، ليبدأ رحمه الله صفحةً جديدةً ناصعةً من صفحاتِ التاريخ السعودي المشرق، حيث اكتمل في عهده المبارك توحيدُ المملكة في عصرها الحديث، وذلك في (17-5-1351هـ) الموافق (19-9-1932م)، وصدر أمرٌ ملكيٌ بإعلان توحيد البلاد، وتسميتها باسم ( المملكة العربية السعودية)، اعتباراً من يوم الخميس (21-5-1351هـ) الموافق (23-9-1932م)، وكانت هذه الخطوة الأولى في مشروعه العظيم.
وكان من أعظمِ الخطوات التي أعقبت توحيد الأمة في وطن واحد هو الإعلان بأن دستور المملكة العربية السعودية هو القرآن الكريم والسنة المطهرة، على فهمِ سلف الأمة، فكان الملكَ عبد العزيز رحمه الله يقول ( أنا داعيةٌ لعقيدةِ السلف الصالح، والتي تقومُ على التمسُّكِ بكتاب الله، وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الخلفاء الراشدين )، وكان يُكرِّر في كلِّ مناسبةٍ بأنه سيبقى على ذلك حتى الموت، كما في قوله ( دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دينُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإِمَّا حياة سعيدة على ذلك، وإِمَّا موتة سعيدة )، وقد أعلن ذلك على الملأ، بمسمعٍ من العالمِ كلّه، فحين طلبت الأُممُ المتحدة من الدول التي في عضويتها أن ترسلَ إِليها بنسخةٍ من دستورها، أجاب رحمه الله بقوله ( إن القرآنَ الكريمَ هو دستورُ البلاد، وقـانونُها الوحيد).
لقد جاء الملك عبد العزيز رحمه الله ليكمل مسيرة أجداده، وينهض بالأمة، لكنَّه وجد قبائلَ مفككة قد مزَّقتها الحروبُ والنزاعات القبلية، وظلَّت حبيسةً في الصحراء قروناً طويلة، حتى ساد فيها التخلفُ في أمورها الدينية والدنيوية، لقد وجدهم منشغلين عن المهمة العظيمة التي خُلقوا لها، والتي كان عليها أسلافهم، فاستطاع رحمه الله بما وهبه الله من الحكمة، وبُعْدِ النظر أن يجمع القبائل ويوحِّد صفَّها، وأن يُحوِّل مهاراتِ الحروب الجاهلية، وعادات الغزو الظالمة، وغارات السلبِ والنَّهبِ الآثمة، إِلى فروسيةٍ عسكريةٍ، لكن في دائرةِ وطنٍ كبير، يضُمُّ الجميعَ على هديٍ من القرآن الكريم والسنة المطهرة، بعيدا عن عصبية القبيلة واللون والجنس، وما كان ذلك الاتحاد والاجتماع ليتحقق مع اتساع الوطن، وترامي أطرافه لولا توفيق الله، ثم إيمان الملك عبدالعزيز العميق بالله عز وجل، ثم ما تميز به من خصال حميدة، وسجايا كريمة.
ولأنَّ الملكَ عبدَ العزيز قد حباه الله عزَّ وجلَّ عِلماً شرعياً عميقا، ورؤيةً ثاقبة، ووهبه فراسةً فطرية، وقدرةً قويةً على تحليلِ الأحداث، واستشرافِ المستقبل، فعلم أن حماية هذه البلاد المباركة في حاضرها ومستقبلها من استهداف الأعداء، ومكرِ المنافقين، وتجنيبَها الفوضى والفتن والقلاقل، ومنعَها من الانزلاق في النزاعات والاختلافات المؤدية للفشل لن يتأتَّى إلا بالاعتصام بالكتاب الكريم والسنة المطهرة، وهذا لن يتحقق في مجتمعٍ يسودُهُ الجهلُ، وتنتشرُ في أوساطِهِ الخُرافاتُ والبِدَعُ، وتقوده وتؤثِّرُ فيه العواطفُ والعصبيات، فكانت خطوته القادمة في مشروعه العظيم، عندما اتخذ قراره الحكيم، وبدأ جهاده العظيم، بالعمل الجاد الدؤوب لرفع الجهل عن الناس، وتحصينِهم بالعلم الشرعي، فبادر بإرسال الدُّعاةِ لمختلفِ الحواضر والبوادي؛ لنشر عقيدة السلف، وإزالةِ مظاهرِ الشركِ والبدع، وتجديدِ ما انطمس من معالمِ السُّنَّة، وتنقيةِ التوحيد مما علِقَ به من شوائب، وإعادتِهِ لصورتِهِ الناصعةِ الصحيحة، وكان أول عملٍ نفَّذَه الملك عبدالعزيز قبل بعثِ الدعاة قيامه بتأسيس الهِجَرِ في قلب التجمعات القبلية، حتى قاربَ عددُها المائتين، لمختلف بطونِ القبائل، ومن العلماء الذين أرسلهم الملكُ عبدِالعزيز رحمه الله للقيام بهذه المهمة العظيمة: الشيخ عبدالله بـن سعدي العبدلي الغامدي، وقد أرسله إلى مناطق بلاد غامد وزهران ورجال الحَجر، وبلاد عسير وقحطان وشهران وسراة وتهامة، وأرسل الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ إلى هجرة الأرطاوية، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي إلى بلدة الغطغط، وأرسل عدداً آخر من العلماء والدعاة إلى مختلف الحواضر والبوادي، وإلى بعض الدول المجاورة، وزوَّدَهُم بما يحتاجونه، كما أن الملك سعود بن عبدالعزيز رحمه الله سار على خطى والِدِهِ المؤسس، فأرسل الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي إلى منطقة جازان وذلك في عام 1373هـ، فتأثر الناسُ بما حملَه إليهم أولئك العلماء - الذين اختارهم الملك عبد العزيز رحمه الله - فتعلموا التوحيد بعد ضَياعِ كثيرٍ من معالِمِه، وأُميتتْ البدعُ، وطُمِستْ الخُرَافاتُ، وتحولت حياةُ الناس من التعاسة إلى السعادة، ومن الذِّلةِ إلى أسمى مراتب العِزَّة، وارتقى المجتمع، وتغيَّر وجهُ الجزيرة العربية، فبعد أن كان الناس متفرقين متنازعين، جمعتهم عقيدةُ الإسلام بعد تمزُّقٍ، وأعَزَّتهُم بعد ضعفٍ، وأغناهم اله بعد فقرٍ، وألَّف بين قلوبهم بعد عداءٍ، فأصبحوا بنعمته إخوانًا.
كما كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يولي اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم، وكان يشجع على حفظه، وكان أبناؤه من أوَّلِ الناس عناية بالقرآن الكريم، وتوالى فتح حلقات التحفيظ، وأقيمت دروس العلماء في طول البلاد وعرضها، وانتشر العلم، وفقه الناسُ أُمورَ دِينِهم.
واستمر هذا النهجُ السديد، وواصل أبناء المؤسس مسيرة والدهم رحمه الله، فافتُتِحت مكاتبُ الدعوة والإرشاد، تلاها استحداث وزارة خاصة بالشئون الإسلامية، فانتشرت الدروس العلمية والمحاضراتُ انتشاراً كبيراً في مختلف المناطق، في فنون العلم المختلفة، فتصدى بعض العلماء لتدريس كتب العقيدة، وآخرون في التفسير، ومن العلماء من برع في كتب الفقه، وكانت تلك الدروس تجد الاهتمام والرعاية والدعمَ الكبيرَ من لدن ملوكِ وأمراءِ البلاد، بل قد رأينا بعضاً من ملوكها من يحْضُرُ بعضَ دروس العلماء، يسأل ويناقش ويحاور، والمؤكد أنَّ من ضِمن ما تعلَّمهُ المجتمعُ في تلك المجالس العلمية، وما استمعوا له من خلال المحاضرات والخطب المنبرية أحكاما عظيمة، مثل: (الاجتماع ووحدة الصف، خطورة الاختلاف والتنازع، العلاقة بين الحاكم والمحكوم، خطورة مفارقة الجماعة - الخروج على الحاكم - الاعتصام بالكتاب والسنة - السمع والطاعة في غير معصية - بيعة الحاكم - ضوابط مناصحة ولي الأمر - الدعاء للحاكم...).
ومع تعاقب السنين تضاعف انتشارُ حلقاتِ تحفيظِ القرآن للجنسين بشكل واسع، وتخرج من تلك الحلقات عشرات الآلاف من حفظة كتاب الله، ويكفي أن أوَّلَ ما تقرأَهُ في سيرةِ ملوكِ هذه الدولة المباركة هو ذكرهم لالتحاقهم بحلقات التحفيظ في المساجد، لتلاوة القرآن وحفظه.
ولإدراك الملك عبد العزيز لأهمية التعليم، ودورِهِ العظيم في بناء شخصية الفرد؛ ليكون مواطنا صالحا، ينفع وطنه، ويحمي أُمَّتَه، فقد حرص رحمه الله منذ الأيام الأولى من دخوله مكة المكرمة إلى عقد أولِ اجتماعٍ تعليمي في تاريخ المملكة العربية السعودية، حينما دعا العلماءَ في مكةَ المكرمة إلى اجتماعٍ عام، وذلك في جمادى الأولى من عام 1343هـ، حثَّهم في هذا الاجتماع على نشر العلم والتعليم، وكانت هذه المبادرة هي المنطلق والأساس لبناء السياسة التعليمية في المملكة، حيث نصت وثيقة سياسة التعليم عند كتابتها على الثوابت التي أرساها رحمه الله ومنها أنَّ:
- السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية تنبثق من الإسلام الذي تدين به الأمة، عقيدة وعبادة وخلقا وشريعة وحكما ونظاما متكاملا للحياة...
- الرسالة المحمدية هي المنهج الأقوم للحياة الفاضلة التي تحقق السعادة لبني الإنسان.
- العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي بفروعه.
- غاية التعليم فهم الإسلام فهما صحيحا متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا.
وفيما كانت المملكة العربية السعودية تسير على هذا النهج السديد المستمد من الوحيين، تعيش في أمن وأمان ومحبة ووئام، تمتلئ مساجدُها بالمصلين، وتضِجُ الحلقاتُ بأصواتِ التالين، ويتحلق آلافُ الطلابِ حولَ العلماء الراسخين، في هذه الأثناء كانت بعضُ الدول يُسجنُ فيها العلماء، ويُحققُ فيها مع المصلين، ويُضيَّقُ على الشباب الملتزمين، وتُمنعُ فيها مجالسُ العلم.
وفيما كانت المملكةُ العربية السعودية تفاخر بالقرآن دستورا لها، وكلمة التوحيد تعلو رايتها، كان مسئولو بعض الدول الأخرى يتسابقون في رفع رايات القومية، والمفاخرة بالنظريات الاشتراكية، والتباهي بالرأسمالية، والاجتماع على ولاءات حزبية.
وتمرُّ الأيام ويرحل الملكُ عبد العزيز إلى ربِّهِ، بعد أن أرسى مشروعه العظيم القائم على الوحيين، وسلَّم الرايةَ لأبنائه من بعده، رحل رحمه الله والناس يرفعون أكفهم يدعون له، لما قام به من جهاد عظيم، بتوحيده البلاد، وإزالة الجهل، ونشر العلم، وربطِ الناس بكتاب ربهم، وسنة رسوله صلى، رحل رحمه الله والأمة تعيش هانئة مطمئنة، قد اجتمعت كلمتها، واتَّحدَ صفها.
- خطيب جامع المؤسس الملك عبدالعزيز (رحمه الله) بمحافظة الخرج