إن المتابع لسورة يوسف المتدبر فيها يجد أنها اتسقت في خطابها إلى أن انتصفت السورة عند قوله: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فهذه الآية توسطت سياقا متصلا لقصة سيدنا يوسف عليه السلام. ولنعلم السر في وجود هذه الآية في هذا الموضع فإننا نقول إن الدنيا إنما تزخر وتتميز بالأعمال، لكن الأجر على هذه الأعمال لا يكون في الدنيا، فالذي يصلي سيحصد أجر صلاته عند ملاقاة ربه، والمزكي يأخذ أجر الزكاة يوم الحساب.
والدم الذي يجري في عروق المؤمنين هو ذاته الذي يجري في عروق الكافرين الذين لا يصلون ولا يزكون. والأكل يعطيه ربنا للكافر والمسلم على حد سواء فهو ليس بحصر على المؤمنين دون الكافرين فالله يقول: {كُلا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} وقد سمى الله ما يعطي جميع البشر باختلاف دياناتهم وعقائدهم «عطاء» وسيدنا إبراهيم حين دعا ربه بأن يعطي من آمن بالله واليوم الآخر قال له ربنا حتى الكافر أعطيه في هذه الدنيا {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
لكن لما أراد الله أن يخص المؤمنين سمى عطاءه لهم «بركات» فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ومعلوم أن التفاحة التي يأكلها المؤمن هي نفسها التي يأكلها الكافر. لكن التفاحة التي يأكلها المؤمن يحمد الله ويشكره عليها، وإذا أراد أكلها ابتدأ باسم الله، وإذا انتهى منها حمد الله عليها، فهو يبتدئ باسم الله وينتهي به لأنه مستشعر لعبوديته له. لكن الله قضى أن يعيش الكافر فتكفل برزقه. فالمؤمن والكافر يشتركان في حلاوة التفاحة والشبع الحاصل منها لكن المؤمن يزيد عليه بالأجر مقابل الحمد.
وكلنا نعلم ما حدث لسيدنا يوسف من الأزمات ابتداء بما عمله إخوته به مرورا بمكر امرأة العزيز وانتهاء بالسجن، وهذا كله ما كان ليقدر عليه لو أنه لم يكن مؤمنا متقيا صابرا. بل ومع هذا كله كان داعيا إلى الله حتى في سجنه فقال الله على لسانه {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. وكان -صلى الله عليه وسلم- من المحسنين في حال نكبته وتمكينه، فوصفه من كان معه في السجن حين طلبا تأويل رؤياهما بما كان عليه سمات الإحسان {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. فكافأه سبحانه بإيمانه وصبره وتقواه بأن مكنه في الأرض وجعله مسؤول على خزائن الأرض فقال في حقه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
لكن الله سبحانه أوسط هذه الآية حتى ينبه القارئ إلى أن هذه الأرض صغيرة وما فيها قليل إذا قارناها بالجنة ونعيمها، فالذي رزق يوسف التمكين في الأرض مقابل طاعته فإن ما يدخره له في الجنة أضعاف مضاعفة: {وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، فهي رسالة إلى الأذكياء أن يعملوا لآخرتهم وأن يعمّروها بالإيمان والتقوى. فإنه كما ينعم سبحانه على المؤمنين المتقين في الدنيا فإنه سينعمهم في الآخرة بفضله وكرمه.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي