«المعلم».. حجر الزاوية والأساس في بناء المجتمع.. وتوفير (بيئة حوافزية) له سينهض بقالب التعليم ومكوناته التنموية ">
إشارة إلى التحقيق الصحفي المنشور في العدد رقم 15709 الصادر في يوم الجمعة الموافق 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2051م، تحت عنوان (أكاديميون ومثقفون يؤكدون دور المعلم.. ونداءات بتكريمه في يومه العالمي)؛ إذ تضمن هذا التحقيق الاجتماعي التربوي مكانة المعلم، ويأتي تزامناً مع احتفال الأمم المتحدة باليوم العالمي للمعلم، الذي صادف الخامس من أكتوبر.. إلخ،
وتعليقاً على هذا الموضوع الحيوي أقول من نافلة القول: إن احتفال العالم باليوم العالمي للمعلم هو صورة من صور التكريم والتحفيز والتقدير الرمزي لهذه المهنة التربوية السامية؛ فالمعلم هو حجز الزاوية في بناء المجتمع، وعنوان الإصلاح، وأساس نهضته، وأي مجتمع أو أمة لن تواكب التقدم والتطور والازدهار ما لم تعطِ المعلم الرعاية والعناية والمكانة الاجتماعية التي تتناسب مع دوره المحوري في العملية التعليمية التربوية، وتنسجم مع إسهاماته المفصلية في بناء مجتمع قوي ومتماسك ومتطور علمياً وعملياً. فالمعلم كاد يكون رسولاً من عظم شرف مهنته وقيمها السامية؛ ولذلك في المجتمعات المتحضرة والشعوب المتفتحة تتسابق في تقديم العديد من الجوائز والحوافز والمبادرات التشجيعية للمعلم، وإحاطته بالرعاية الشاملة؛ لأنه أهم العناصر الأساسية في العملية التعليمية، وبدون تأهيله وتحفيزه والاهتمام به «صحياً واجتماعياً واقتصادياً ومعنوياً» لن يستطيع أي نظام تعليمي تحقيق أهدافه المنشودة، وترجمة رؤيته التطويرية على أرض الواقع. وفي أدبيات الفلسفة والتربية كان الحكيم الصيني (كونفوشيوس) يقسِّم المجتمع إلى ثلاث طبقات: (الحكام، الشعب، المعلمون)، وأوصى بالعناية بالطبقة الثالثة؛ لأنها بصلاحها يصلح المجتمع. وفي التاريخ السياسي يذكر أن الزعيم النازي (هتلر) بعد أن أدرك حقيقة قيمة المعلم استثنى المعلمين من زجهم في الحرب، ولما سُئل لماذا؟ أجاب بأنهم هم الذين سيعيدون بناء ألمانيا بعد الحرب..!!! وعندما سئل الإمبراطور الياباني عن سر تقدم مجتمعهم في فترة قياسية قال: «إن دولتنا تقدمت في هذا الوقت القصير لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير..»! ومن المجتمعات الواعية التي وضعت مهنة التعليم ضمن المهن ذات الأولوية في الدعم والاهتمام والعناية بها (المجتمع السنغافوري) الواثب؛ إذ منحت الحكومة السنغافورية (المعلم) مسؤولية بناء جيل جديد، وتحديد مستقبل بناء المجتمع، وصياغة تطوره النهضوي.. بعد أن كان مجتمعاً ريعياً قبل ما ينيف على أربعة عقود من الزمن، لا يملك أي مقومات التنمية ومؤشراتها البنائية.. فاتجهت بوصلة التخطيط الاستراتيجي الممنهج والمبرمج إلى بناء الإنسان السنغافوري (صناعياً ومعرفياً)، وذلك بالنهوض بالتعليم العصري، فوضعت المعلم عند نقطة البداية في رحلة النهضة الوطنية وتنميةلمجتمع وصيرورته الدينامية.. فمنحت المعلم (حقوقاً مادية)، تشمل رواتب مغرية، إضافة إلى البدلات والإعانات، كما يُصرف له ألف دولار سنوياً لشراء مستلزمات تقنية ذات صلة بالتعليم المتطور، كما يُمنح المعلم السنغافوري (حقوقاً مهنية)، تتضمن برامج علمية ودورات تدريبية متقدمة، يشرف عليها متخصصون وخبراء من وزارة التعليم السنغافورية.. وتتنوع هذه الدورات (سنوياً) في المجالات التربوية والنفسية وأساليب التعليم العصرية، وتواكب متطلبات المرحلة، كما تشجع الوزارة التربوية المعلمين على اقتناء أجهزة حاسوبية وكتب لوحية إلكترونية، وتتكفل من ثمنها بأكثر من 30 %. وأخيراً، يعيش المعلم السنغافوري في قمة هرم (الحوافز المعنوية)، ويكفي أنه يحظى بمكانة واعتبار اجتماعي رفيع، ويعطَى مزيداً من الهيبة والاحترام.. وأمام هذه المعطيات من الحوافز والاهتمام والعناية بالرقم الأهم في العملية التعليمية التربوية (المعلم) انطلق (حصان) المجتمع السنغافوري في مضمار التنمية الاقتصادية بسرعة رهيبة، بعد أن تحرر من قبضة المستعمرة البريطانية في ستينيات القرن الفارط الميلادية، في حقبة وُصفت بحقبة التناقضات والصراعات والتخلف والفقر والكوارث الإنسانية، عاشها السنغافوريون بمرارتها وقسوتها.. ليتحول من مجتمع ريعي إلى مجتمع صناعي متقدم، يقوم على الاقتصاد المعرفي، بعد أن ربطت سنغافورة التعليم ومكوناته العصرية بسوق العمل؛ وأصبح بالتالي هناك شراكة متينة وواعية بين سوق العمل ومسار العلم. وانعكست هذه العلاقة الحقيقية على بناء وتنمية المجتمع، وتلبية احتياجاته بجودة التعليم ومخرجاته المؤسسية.. نعم التعليم، ثم التعليم ثم التعليم..! ولا غرو من ذلك؛ فالطالب السنغافوري يصنّف - وحسب مخرجات وبيانات منظمة اليونسكو - بأنه الأذكى من بين طلاب العالم، وأكثرهم تفوقاً في المسابقات التعليمية الدولية.. فيا ترى، ما السر في القفزة الجمبازية للنهضة التنموية السنغافورية..؟! السر -يا سادة - في حقيبة المعلم السنغافوري الذي صنع العقول المبدعة، والأدمغة المتفوقة في مضمار المسابقات العالمية التعليمية بجدارة ومهارة.. ولذلك إذا أردنا بناء مجتمع صناعي يقوم على الاقتصاد المعرفي فعلى القائمين على سنام التعليم ومكوناته في الوزارة التربوية الاهتمام بالمعلم والعناية به، ومنحه الحوافز المادية والمهنية والمعنوية.. ساعتها سيصبح لنظام تعليمنا مسار (بنيوي) مختلف تماماًن واقعه الحالي المتردي، نظام ديناميكي يواكب متطلبات العصر وتحدياته العولمية، ويحقق الأهداف المنشودة والتطلعات المعهودة.
خالد الدوس - باحث ومتخصص في القضايا الاجتماعية