د.فهد بن دخيل العصيمي
بتاريخ 15 صفر لعام 1427 للهجرة، كتب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، وكان حينها أميراً لمنطقة الرياض، مقالة ضافية في صحيفة الوطن، عنوانها (الإنسان إذا لم يكن وفياً لمسقط رأسه، لا يكون وفياً لوطنه)،
دافع فيها بحرارة عن برنامج الطبيب الزائر التطوعي الذي دشنه أكثر من 30 طبيباً من أبناء محافظة الزلفي في مستشفى الزلفي العام، بمباركة واحتفاء من محافظ الزلفي في حينه. وأتت هذه المقالة الكريمة، رداً منه حفظه الله على أحد كتاب الصحف، الذي انتقد هذا البرنامج بحجج واهية من أهمها بحسب زعمه، أنه يشجع المناطقية! وعلاوة على ذلك فقد استقبل أيده الله، وفداً من أطباء الزلفي، وأثنى على مبادرتهم بكلمات أبوية حانية، وحضّهم على تطويرها.
ومن الجدير بالذكر، أن فكرة برنامج الطبيب الزائر هي إحدى إبداعات الدكتور محمد المفرح سلمه الله، وعدد من الرجال المخلصين، الذين رعوا برنامج الطبيب الزائر في مستشفى الزلفي العام منذ بواكيره.
وقد نبعت فكرة برنامج الطبيب الزائر، بسبب ضعف الإمكانات الطبية في المحافظات الصغيرة ومنها محافظة الزلفي. ولأن كثيراً من أبناء هذه المحافظات من الاستشاريين في التخصصات الطبية المختلفة، يعملون رسمياً في مستشفيات العاصمة والمدن الرئيسية الأخرى؛ لكنهم غالباً، يزورون مسقط رؤوسهم بشكل دوري، فلم لا يتطوعون ببضع ساعات من أوقات زياراتهم، لتقديم الخدمة الطبية التخصصية لمراجعي مستشفى محافظتهم العام! وغني عن القول، أن هذا البرنامج له مميزات جمة، أجملها فيما يلي:
- تقليل معاناة مرضى المحافظات الصغيرة في السفر للمدن الكبرى لتحصيل الخدمة الطبية الاستشارية، وما يترتب على ذلك من معاناة ذويهم من المرافقين، وجهات عملهم التي تتضرر من غيابهم.
- تقليل تزاحم المرضى على أبواب المستشفيات الكبرى والتخصصية، كما ستقل شهور الانتظار للحصول على موعد في عيادة تخصصية.
- سهولة التنفيذ، وذلك لأن زيارات الأطباء الزائرين الدورية تتم غالباً في إجازات نهاية الأسبوع، فلا تزاحم بحال، عيادات وعمليات أطباء المستشفى الدائمين.
- المساهمة في تطوير الخدمات الإكلينيكية والإدارية في المستشفيات الصغرى، وذلك عندما ينقل الأطباء الزائرون خبراتهم لها، مع تكرار احتكاكهم بالكوادر الفنية والإدارية العاملة في تلك المستشفيات. كما أنهم يقدمون محاضرات وورش عمل معتمدة من الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، تسهم في التعليم الطبي المستمر للأطباء العاملين في تلك المستشفيات النائية، ويشق عليهم حضور المؤتمرات التي تُعقد عادة في المدن الكبرى.
- برنامج شبه مجاني، فالأطباء الزائرون متطوعون. أما موظفو المستشفى من الأطباء والتمريض، المرافقون للأطباء الزائرين وقت الزيارة، فيتم تعويضهم بإجازات نظير عملهم الإضافي وقت العطل الأسبوعية، ناهيك عن الفوائد العلمية والمهارية التي يجنونها من تلك الزيارات. وقد يوضع لهذا البرنامج، صندوق من تبرعات الموسرين، لشراء بعض الأدوات اللازمة لإجراء بعض الفحوصات الطبية، والعمليات الجراحية الدقيقة.
- وفي المجمل، فهذا البرنامج يقلل التكلفة الصحية والنفسية والاجتماعية والمادية للمجتمع بشكل عام.
وقد بدأ برنامج الطبيب الزائر في مستشفى الزلفي العام بداية قوية، وضم في بدايته أكثر من ثلاثين طبيباً استشارياً، يغطون معظم التخصصات الطبية الدقيقة. واستطاع عشرة منهم على الأقل، الانتظام في هذا البرنامج لبضع سنوات، مقدمين الخدمة لما يقارب من مائة ألف من سكان محافظة الزلفي وما جاورها من المحافظات.
ورغم عظم الجهود التي بذلها رواد هذا البرنامج منذ بدايته، لكنها بقيت مبادرات شخصية، ولا يخفى على كل إداري حصيف، أنه لن يكتب لعمل تطوعي التطور والاستمرارية، ما لم يكن مؤسسياً، ومدعوماً بشكل رسمي من كل الجهات ذات العلاقة. ولذلك فللأسف الشديد، فقد هذا البرنامج وهجه تدريجياً، بل يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة هذه الأيام. وبالنقاش مع بعض رُواد هذا البرنامج منذ بدايته، فقد اتفقوا على أن السبب الرئيس لاحتضار هذا البرامج الرائد، هو عدم احتضان هذا المشروع من وزارة الصحة. فلم يوضع له هيكل تنظيمي، ولم يوفر له الدعم اللوجستي اللازم من كل الجهات ذات العلاقة.
ولا يخفى على كل المهتمين بالقطاع الصحي السعودي، حجم الصعوبات الجمة التي يواجهها المسئولون في توفير الخدمة الصحية الكافية لبلد بحجم قارة كالسعودية. وأعظم هذه الصعوبات باتفاق الجميع، هي توفير العنصر البشري، وبخاصة الأطباء الاستشاريون في التخصصات الطبية المختلفة. فعلاوة على شح الأطباء السعوديين، وعمل معظمهم في المستشفيات التخصصية في المدن الكبرى؛ فإن هناك إحجاماً من الأطباء المتميزين من غير السعوديين عن القدوم للعمل بالسعودية، لأسباب فصلتها في مقال سابق عنوانه (لماذا أصبح بعض أطبائنا جبناء؟). وهنا تأتي أهمية بعث الحياة مرة أخرى في برنامج الطبيب الزائر، وتعميمه ليشمل أكبر عدد ممكن من مستشفيات المحافظات الصغيرة في مناطق السعودية المختلفة. ولإنجاح هذا البرنامج، أقترح ما يلي:
- احتضان وزارة الصحة لهذا البرنامج بشكل رسمي، ووضع الأطر التنظيمية له. ومن ذلك، تكليف المستشفيات المحتضنة لهذا البرنامج بتشكيل إدارة مستقلة لرعاية هذا البرنامج، وتقديم الدعم اللوجستي الكامل له. وليس بالضرورة توفير كل التخصصات، فلو نجح البرنامج في أحد المستشفيات الصغيرة في توفير استشاري سعودي واحد، يقدم خدمة تخصصية، دورية، طويلة المدى، لكفى ذلك نجاحاً، ولسد خلّة مئات الضعفاء من المرضى على مدار السنين.
- تسهيل إنشاء صندوق لدعم هذا البرنامج من تبرعات الموسرين، تستخدم موارده لشراء بعض الأدوات اللازمة لإجراء بعض الفحوصات الطبية، والعمليات الجراحية الدقيقة.
- تشجيع الأطباء الزائرين المشتركين في هذا البرنامج بكل الطرق الممكنة. ومن ذلك، أن يكافؤوا ببدل التميز، وغيره من البدلات المناسبة. ولا أبالغ إن قلت، إن معظم الأطباء السعوديين لن يتوانوا عن التطوع بالمشاركة بهذا البرنامج، بل سيتسابقون للانضمام له، فقط إن توفر الدعم الفني والإداري المتكامل لهذا البرنامج. وما قلته آنفاً، يمتد ليشمل كذلك المختصين السعوديين في التخصصات الدقيقة في المجالات الطبية التطبيقية المختلفة كالتمريض والصيدلة والأشعة والمختبرات والعلاج الطبيعي.. إلخ. فهؤلاء أركان رئيسة في الخدمة الطبية، ويتكاملون مع الأطباء في تقديم الخدمة الصحية المتكاملة.
- إشراك أهالي المحافظات المشتركة في هذا البرنامج في رعايته، وتوفير الزخم الشعبي المجتمعي اللازم لإنجاحه. ومن ذلك، تشكيل لجان دائمة تضم في عضويتها ممثلاً من المجلس البلدي، وممثلاً لمستشفى المحافظة، وممثلاً عن الأطباء الزائرين، فتجتمع هذه اللجان بشكل دوري، لتذليل الصعاب، وتطوير البرنامج.
وأختم مقالتي هذه بنداء حار لمسؤولي وزارة الصحة... لديكم أطباء متبرعون بأوقاتهم، ومرضى ضعفاء بحاجة ماسة لخدمات هؤلاء الأطباء، وبرنامج رائد أثبت نجاحه فيما مضى في تنظيم تقديم هذه الخدمة. فيا ترى متى ستعلقون الجرس؟!.
والله من وراء القصد.