ركب طائرة البراق، وربطوها بالحبال كيلا تنقلب ">
رجل لا يعرف سوى الإنجاز، حيثما حَل وعمل ترافقه إنجازاته، وما أكثرها. ضرب فيه المثل في الأمانة والنزاهة. فارس وقت الحرب، وإداري ناجح وقت السلم. شارك في حروب التوحيد تحت قيادة المؤسس، وبعد التأسيس عمل إدارياً بأمر المؤسس، الذي عينه نائباً لأمير القصيم أخيه الأمير عبدالله عام 1354هـ، ثم أميراً للظفير (منطقة الباحة) عام 1356هـ، ثم عاد مرة أخرى إلى القصيم نائباً لأميرها حتى عام 1366هـ
فهد بن فيصل بن تركي بن سعود بن إبراهيم بن عبدالله بن فرحان بن سعود، الأمير الأمين، النزيه، أول أمين لمدينة الرياض، والذي ولد عام 1330هـ، وتوفي عام 1418هـ.
بدأت بالتعرف على شخصيته عن كثب حين ألّفت كتابي «يوم بكت الصحافة»، الذي يتحدث عن سيرة الأديب والصحفي الراحل علي العبداني (ت 1379هـ)، وهو معروف بنقده الحاد لكثير من المسؤولين، مطالباً إياهم بالإصلاح والاهتمام بشؤون المواطنين، ولفت نظري ثناؤه الكبير على الأمير فهد الفيصل، في جده بالعمل وحرصه الشديد على الإنجاز، وسرعة استجابته لصوت الجمهور ومطالب الناس. ومن يومها وأنا أسأل عن الأمير الأمين، فما سألت أحداً من العارفين إلا كال له الثناء كيلاً، ورأيتهم جميعاً متفقين على نزاهته وكفاءته، وعلى إنجازاته الكبيرة.
بحثت في الصحف والكتب القديمة، فوجدت لماماً من أخباره، ورأيت مقابلة أجرتها دارة الملك عبدالعزيز معه، ونشرت مختصرة في عدة صفحات. لكن نما إلى سمعي أن للأمير الأمين مذكرات صوتية مسجلة، فبحثت عنها حتى استطعت الحصول عليها بمساعدة ابنه الأمير عبدالعزيز مشكوراً.
أخذت في سماعها وكتابتها، والعَجَب يأخذ مني مأخذه، لما فيها من المعلومات النادرة الهامة، ومن تاريخ حافل بالعمل والإبداع لهذا الرجل.
المذكرات الصوتية:
ما وصلني من التسجيلات الصوتية في حدود عشرين ساعة، وبلغت هذه المذكرات المسجلة صوتياً قرابة 300 صفحة بعد تفريغها وكتابتها. وهي عبارة عن حوار مطول يجريه معه باحث أو صحفي مصري، لم أتمكن من معرفة اسمه، ويبدو أنه كان ينوي تأليف كتاب عن الأمير فهد الفيصل. والمواضيع تتداخل عبر أشرطة متفرقة، بسبب طريقة طرح الأسئلة، التي لم تكن منضبطة بشكل دقيق ومركز، لهذا جاءت أحاديث الأمير متفرقة حول موضوع واحد في أشرطة مختلفة، مما استلزم مني جمعها والمؤالفة بينها.
وتشمل أحاديثه فترات حياته المختلفة، منذ طفولته حتى سنوات عمره الأخيرة، على أن تركيزه كان منصباً على الفترات التي تولى فيها عملاً للدولة، خاصة فترة تأمره في الظفير، وفترة توليه رئاسة بلدية الرياض، ثم أمين مدينة الرياض، والأخيرة هي التي أخذت الحيّز الأكبر من مذكراته، وبالتأكيد فإن ما سجله في مذكراته من معلومات عن هذه الفترة (1373- 1386هـ) هو الأهم.
وقد تحدث عن عائلته آل فرحان، كما تحدث عن والديه، وعن جده لأمه الأمير ناصر بن سعود بن فرحان، وذكر أن الملك عبدالعزيز وأفراد الأسرة ينادونه بالعم، وأنه أكبر آل سعود سناً حينها، وهو من ضمن الذين دخلوا الرياض عام 1319هـ مع الملك عبدالعزيز. ويصف في مذكراته مدينة الرياض القديمة بأبراجها وسورها، وهي المدينة التي عاش فيها طفولته، ويبين متى تم هدم السور. كما تحدث عن المعارك التي شارك فيها كمعركة السبلة عام 1347هـ، وهي أول معركة يشارك فيها، ويذكر أنه دخل على الملك عبدالعزيز وعنده الأمير سعود الكبير (ت 1378هـ)، فبكى عنده، وسأله الملك عن سبب البكاء، فقال له أريد الغزو معكم، فمسك الملك يده، وقال للحاضرين: «اسمعوا اسمعوا يبي يغزا»، وأمر بتجهيزه للغزو. كما تحدث عن مشاركته في حرب اليمن تحت قيادة الأمير فيصل بن سعد (ت 1417هـ) عام 1352هـ. وفي ذكرياته يتناول سفراته الخارجية، ومقابلاته للملوك والرؤساء والزعماء، ومن بينهم الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي قابله قبيل العدوان الثلاثي عام 1376هـ/ 1956م، وأعطاه خطاباً وشَيكاً من الملك سعود، فقرأه الرئيس المصري، ثم قال لفهد الفيصل: «الملك سعود الله يحفظه أرسل لي مبلغ 15 مليونا، لشعب كبير، وأنا محاصر»، يقصد أن المبلغ لا يكفي، والشعب المصري كثير العدد. ثم يذكر أن الرئيس عبدالناصر ركب الطائرة في مساء اليوم نفسه، وذهب لمقابلة الملك سعود، الذي أعطاه مبلغاً آخر، ومن المعروف أن الرئيس عبدالناصر زار السعودية في يوم السبت 17 صفر 1376هـ، وقابل الملك سعود.
ومن الصعب في مقالة صحفية تغطية جميع ما ورد في هذه المذكرات، لكني سأعرض للقراء الكرام بعض الفقرات التاريخية منها، على وعد بإكمال العرض لاحقاً.?
الإمام عبدالرحمن والعقال المقصّب:
يذكر الأمير فهد الفيصل في مذكراته أن الإمام عبدالرحمن الفيصل (ت 1346هـ) هو أول من لبس العقال المقصّب، ولم يكن معروفاً قبل ذلك في نجد، ويفسر ذلك بأن الإمام عبدالرحمن تأثر ببعض حكام الخليج الذين كانوا يلبسونه، أثناء حياته هناك بعد رحيله عن الرياض ونجد، ثم يضيف أن الإمام طلب من ابنه الملك عبدالعزيز أن يلبس العقال المقصب، وألح عليه في ذلك، فلبسه الملك ومن بعده أولاده الملك سعود والملك فيصل، ولم يلبسه الملك خالد حين أصبح ملكاً. وقد تحدث الأمير الأمين في مواضع أخرى عن الإمام عبدالرحمن، وذكر أنه متواضع وأنه على معرفة جيدة بالفقه والأدب، وأورد بعض ذكرياته معه، وتكلم عن أدب الملك عبدالعزيز معه وبره فيه.
أحاديث عن المؤسس:
يرد ذكر الملك عبدالعزيز في المذكرات عشرات المرات، وفي بعضها حديث مطول عنه، وعن بعض مواقفه السياسية والإدارية والإنسانية والعائلية، وفيها أخبار نادرة ومهمة لم تنشر من قبل، حسب علمي، وسأتناول في حلقة مستقلة إن شاء الله هذه الأحاديث لأهميتها.
العملات المستخدمة:
يذكر أن من بين العملات المستخدمة في نجد زمن طفولته وبدايات شبابه الريال الفرانسي، ويبيّن أنه نمساوي، لكن الناس يسمونه فرانسي، وأن صورة الملكة النمساوية ماري تيريزا منقوشة عليه، وهي عملة فضية كبيرة الحجم. كما يذكر عملة أخرى صغيرة الحجم تستخدم وتسمى البيزة، وهي نحاسية وصغيرة، ومنقوش عليها اسم الإمام فيصل بن تركي (ت 1282هـ)، جد الملك عبدالعزيز، ويبيّن أن الملك عبدالعزيز بعد ذلك سك عملة الريال، ثم سحبت البيزة من السوق.
مع الزهرانية في الظفير:
من طرائف ما رواه الأمير فهد الفيصل: أنه عندما جاء أميراً على منطقة الظفير، وجد في السجن رجلاً قد قتل أحد أعيان قبيلة زهران، وأخت المقتول تطالب بالقصاص، وفعلاً حكم لها القضاء بالقصاص، وأرسلت إلى الملك عبدالعزيز ترجوه أن يسمح لها أن تنفذ القصاص وتقتل غريمها بيدها، وفعلاً جاء أمر الملك عبدالعزيز إلى فهد الفيصل بتمكينها من ذلك كي تقتل قاتل أخيها بيدها، لكن الأمير فهد رغب في أن تتنازل كيلا يقام عليه الحد، فطلب حضورها إلى مكتبه أمام شهود، وعرض عليها التنازل مقابل دية مضاعفة، فرفضت، فضاعف الدية أربع مرات، وأيضاً أصرت على الرفض، فعرض عليها أن يتزوجها مقابل التنازل، فقالت له: أنت كفو، لكنك ستطلقني بعد أن أتنازل، فعاهدها ألا يطلقها، وأن يكتب لها ورقة تضمن بقاءها زوجة له ما دام حيّاً، ولكنها أيضاً أصرت على الرفض إصراراً شديداً، وطالبت بتمكينها من غريمها كي تقتله، وإلا ستذهب إلى الملك عبدالعزيز في الرياض، وأمام إصرارها على القصاص الذي حكم به القضاء، اضطر فهد الفيصل إلى تسليمه لها فقتلته بيدها. ويبدي الأمير فهد الفيصل إعجابه بهذه المرأة وطريقة كلامها.
إلى البحرين فوق حمار ثم قارب شراعي:
يورد في مذكراته قصة سفره إلى البحرين للعلاج عام 1352هـ، بعد حرب اليمن مباشرة، فيذكر أن الملك عبدالعزيز أرسل معه خطاباً للأمير عبدالله بن جلوي (ت 1354هـ)، وذهبوا من الرياض إلى الأحساء بالسيارات، وأقاموا مدة عند الأمير عبدالله بن جلوي في الأحساء، ثم ذهبوا من الأحساء إلى ميناء العقير، ويقدّر المسافة بمائة كيلومتر، ويذكر أنها صحراء رملية لا تقطعها إلا الحمير، ويصف الحمير التي ركبوها بأنها كبيرة الحجم، وقد اعتنى بها أصحابها عناية كبيرة، ثم يصف الطريق، وتوقفهم في قرية الجشة، ثم مواصلتهم الطريق إلى العقير، ويصف الميناء ببضائعه، ثم يذكر أنهم ناموا وارتاحوا إلى أذان العصر، وبعد الصلاة تناولوا طعام العشاء، وركبوا بعدها سفينة شراعية تأخذهم إلى البحرين، وهي أول مرة يركب فيها سفينة، ويصف الرحلة، فيذكر أن الأمواج داهمتهم، ودخلت المياه إلى سفينتهم، فتوقفوا في عرض البحر، وأخذوا بغرف الماء كيلا يملأ السفينة، وبعد تفاصيل أوردها عن هول ما حدث لهم عقّب مازحاً: قررت ألا أركب سفينة شراعية بعدها، وهو يقول ذلك مازحاً، وإلا فقد عاد من البحرين بسفينة.
طائرة البراق:
الأمير فهد الفيصل من أوائل السعوديين الذين ركبوا طائرة، ويذكر هو القصة في مذكراته، إذ كان في زيارة علاجية إلى مصر عام 1356هـ، وبعد نهاية العلاج أراد العودة إلى السعودية، وكان رجل الاقتصاد المصري الشهير طلعت حرب (ت 1360هـ)، وأحد مؤسسي بنك مصر، وشركة مصر للطيران، قد خطط لقيام رحلات جوية مدنية لنقل الحجاج بين مصر والسعودية، وشرع في ذلك، وكان من بينها طائرة صغيرة أسماها البُرَاق، تتسع لعدة أشخاص، فعلم بذلك فهد الفيصل من الشيخ فوزان السابق (ت 1373هـ)، الوزير السعودي المفوض في مصر، ففاتحه برغبته في ركوب هذه الطائرة، وأبرق للملك عبدالعزيز يستأذنه، فأذن له، وفعلا تم ذلك، فركب الطائرة من مطار ألماظه، ويصف هذه الرحلة التي كان فيها أربعة أشخاص وهو الخامس، ويذكر أنها استمرت يومين توقفوا خلالها في الطور لتعبئة الوقود، ثم واصلوا طريقهم إلى أن نزلوا في مدينة الوجه السعودية، ثم استمروا بعدها في الطيران حتى وصلوا مدينة ينبع، فباتوا فيها، وبعدها أقلعوا إلى مدينة جدة فوصلوها بعد ست ساعات. ويذكر أنهم يربطون الطائرة بالحبال عند توقفهم، خشية أن تقلبها الرياح، وأن هذه الطائرة بمروحة واحدة، وكان ذلك في شهر رمضان من عام 1356هـ، ويصف في مذكراته ردود أفعال الناس وانبهارهم وتعجبهم من الطائرة، كما يذكر أنه زار الأمير فيصل (الملك) في مكة بعد وصوله بيوم، وتحدث معه عن هذه الرحلة. وتذكر الرواية أنه قابل بعد ذلك الملك عبدالعزيز، وحدثه عن هذه الرحلة، وقد أعجب الملك بجرأة فهد الفيصل وجسارته. ولعل الأمير فهد الفيصل هو أول سعودي يسافر جواً من مصر إلى السعودية. ونشرت جريدة أم القرى في عددها 677 بتاريخ 22 رمضان 1356هـ/ 26 نوفمبر 1937م، خبر وصول طائرة البراق التابعة لشركة مصر للطيران، وعلى متنها الأمير فهد بن فيصل إلى السعودية، وذكرت الجريدة أن الطائرة وصلت إلى مدينة جدة يوم الجمعة 15 رمضان 1356هـ، وأوردت اسماء الطيار والثلاثة الذين من معه.
موظف بلا راتب:
يذكر الأمين فهد الفيصل أثناء حديثه عن عمله في أمانة مدينة الرياض أنه عمل بدون راتب، وأنه هو الذي طلب ذلك طيلة فترة عمله، كما يذكر أنه لم يأخذ أي منحة من الأراضي، وأمام تعجب محاوره من ذلك، أجاب الأمير فهد: أنا أطبق قول الشاعر امرئ القيس بحذافيره:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ
وقد يُدركُ المجدَ المؤثلَ أمثالي
وصدق -رحمه الله-، كما يذكر أنه طلب من الملك سعود صلاحيات مطلقة لأداء عمله، فأعطاه الملك هذه الصلاحيات. وسيأتي في حلقة لاحقة دوره في بناء حي الملز وبعض الأحياء الجديدة والوزارات في مدينة الرياض، وما عمله من مشاريع وسدود وطرق وحدائق ومصانع وشركات في الرياض.
- سليمان الحديثي