قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} إن حركة البدن بانتقاله من مكان إلى مكان، تحتاج إلى استعدادات وإلى وقت كافٍ وقد تكون الرحلات بعيدة فتحتاج إلى زمن طويل بحسب توفر الأدوات المعينة، ولكن انتقال الروح عبر طيات الزمن بالاستشراف في الماضي وفي المستقبل وفي الحاضر لا تحتاج إلا إلى ثوانٍ قليلة، وحينما تسترد شريط الرؤية وما فيها تجده طوى كثيراً من التفاصيل التي لا لزوم لها، لأنه يضع الاعتبار لمركز الدائرة وهي مركز الرؤية وما فيها، ثم يأتي التفسير أو بالأصح التأويل مخالفاً لنفس الرؤية بما يفتح الله - سبحانه وتعالى - به على قلب المؤول، وترى أن عمل المؤول ليس بدنياً محضاً وإنما هو استشراف كاستشراف حركة الروح في الرؤية.
فقد يرى الإنسان شيئاً ويؤوله المؤول بشيء آخر في غاية البعد، وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام وما قصه من تفصيل الرؤيا بعد عن تفسيرها، غير أن نبي الله يعقوب عليه السلام فسرها بما فتح الله عليه في نفسه ولم يبينها ليوسف و لا لغيره ومع وجود عنصر المرأة في الرؤيا المذكور مع الذكر وهو زوجها إلا أنه يكن لها أثر في الرؤيا وانحسرت الرؤيا في أولاد يعقوب ويوسف، وذكرت الوالدة في تفسير بسيط في قوله ورفع أبويه هكذا هي مواضيع الرؤيا بتفاصيلها.
وفهم يوسف - عليه السلام - هذه الرؤيا بكاملها في نهايتها كما قال: ( هذا تأويل رؤياي من قبل).
وقد منّ الله تبارك وتعالى على بعض عباده بشفافية روحية غريبة ويبثون بها طرقاً صحيحة لتأويل الرؤيا، وتأتي كفلق الصبح، وقد يكون فيهم من لا يحسن هذا وهو أمر مأنوس، والأولى بالإنسان أن يعالج الرؤيا بمفهوم توجيه السنة بحملها على أركز الاحتمالات.
وإن فزع لشيء منها فلينفث عن شماله أو الجنب الذي كان نائماً عليه وليذكر اسم الله وليغير موضع نومه إلى الجنب الآخر فإنها لا تضره - بإذن الله - هذا ما نرجو أن يكون موضحاً لمعاني الرؤيا من الناحية العلمية والعملية.
{قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} آداب الأبوة تظهر جلية في شكل الخطاب الذي وجهه سيدنا يعقوب عليه السلام لولده، فكلمة (يا بني) ترسم صورة لجانب من جوانب الأبوة وهو جانب الحنان فحينما تقول: يا ولدي أو يا بني هناك فرق معنوي في رسم هذه الصورة، والحقيقة أن هذه الكلمة تقودنا إلى سيدنا يعقوب الذي هو خير يسري في أسرته، ويرسم لنا صورة جميلة لهذا الشيخ الكريم؛ إذ كل صورة جميلة في الكتاب نستشف منها بعض المعاني الروحية في بعض المواطن، وهذا الموطن عجيب وهو موطن الأسر التي يفترض ألّا تكون المشاحنات فيها.
ويأمره أبوه أن لايقصّ رؤياه ويقول له: (يا بني) ونلاحظ أن الليونة تبلغ ذروتها حينما تنطق بهذه الكلمة وكأنها قطعة من القطن فتمسكها بيدك فتعصرها عليها ثم تتركها فتعود إلى حالتها الأولى و لهذه الكلمة سحر بلاغي تتفرد به، وهو و إن وُجِّه لسيدنا يوسف عليه السلام خاصَّة فإن القرآن جاء إلى الأمة كافة، وفيها أدب جميل يقدمه هذا النبي الكريم وينقله القرآن لأمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - لكي تتعامل به إذ ليس كل الكلام المعلوم عندك يمكن إذاعته ونقله إلى الآخرين، فمن الكلام المعلوم ما يجلب الضرر نقله ويعود على صاحبه بالخسارة. أي: أن هناك أدباً في التحدث بما تعلم أمام الآخرين وهذا درس يقدمه الوالد الشفوق سيدنا يعقوب لولده الكريم يوسف - عليه السلام - وتأخذ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه النصيحة مغنماً من مغانم الأدب وليعلم كل إنسان أن للمجالس تبعات، ورب كلمة لا يبالي بها صاحبها تورده المهالك من حيث لايدري.
ويبقى دائماً الاحتفاظ بالشر أولى من إذاعته. وفي قوله: (لا تقصص رؤياك على إخوتك) أي: لا تقصصه على إخوتك وعلى غيرهم، وأبقِ هذا سراً لنفسك فأنت أحوج الناس إليه وقوله: (على إخوتك) إنما هو تقديم لما فيه الخطر الزائد فإن الإخبار بالرؤيا أقل ضرراً لمن لم ترتبطت بهم بمواثيق الأخوة وكلما اقترب الإنسان من خارطة الأخوة تعقدت الأمور.
وطلب سيدنا يعقوب من ولده الإمساك عن نشر خبر الرؤيا بين إخوته هو من منطق الحفاظ على كيان الأسرة حتى لا تتفرق ويقع فيها مالا يسر.
هكذا إذن جرت الأمور في نصح الوالد الكريم يعقوب عليه السلام إلى ولده يوسف - عليه السلام -.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي