عبدالعزيز سليمان القرعاوي ">
الإنسان منذ طفولته يميل إلى التواصل مع الآخرين. فمن طفولة بريئة، لا يعنيها ولا يؤثر عليها ما قد يحدث بينها وبين أقرانها من نزاعات وتعدٍّ بفعل أو قول؛ فهي قلوب لا تزال نظيفة، غير قابلة للظنون والشكوك والتأويل والتفسير؛ لذا سرعان ما يزول أي خلاف بينهم. وعندما يكبر هذا الإنسان وينمو جسماً وعقلاً يزداد تواصله مع الآخرين، وتكبر دائرة علاقاته الاجتماعية، منها المستديمة كالزوجة والأولاد والإخوان والأقارب، ومنها العلاقات الأوسع كالجيران وجماعة المسجد والأصدقاء وزملاء العمل، ثم عامة من يقابله في الشارع أو في محل أو في مناسبات. في هذه المرحلة العمرية يبدأ أثناء تواصله مع الآخر يتأثر ويؤثر إيجاباً أو سلباً؛ فتبدأ عملية الرصد للحركات والإشارات والتقولات والتصرفات للآخرين وسلوكياتها، ويتلقفها بالظنون والشكوك والتفسيرات؛ فتجد كثيراً من الناس يشغل نفسه بأمور تافهة، تُحدث له الهموم والغموم والضغط النفسي.. هذا لم يبتسم لي، وهذا لم يرد السلام، وهذا مقطب في وجهه، وهذا سلامه ومقابلته باردان، وهذا كتفي بكتفه ولم يسلم.. وكثير من الكلمات والتصرفات والأخطاء التي قد تكون غير مقصودة وباباً ومنفذاً لشيطان ينزغ بها، وينفخ بها، ويفرق بين المسلم وأخيه، والزوج وزوجته، وبين الأقارب والأصدقاء وعامة الناس.
إن التغافل أيها المسلم وأيها الزوجان وأيها الأصدقاء وزملاء العمل وأيها الأقارب من أفضل الأمور في هذا الزمن الذي كثرت فيه المنغصات، وضعفت فيه الأنفس في تحملها للآخر؛ فالتغافل سمة القلوب الطيبة الطاهرة، ودليل الحكمة والتأني والتروي في ردود الفعل. أن تتغافل أي أن (تعديها وأنت فاهمها). يقال إن معاوية بن أبي سفيان قال لابنه يزيد وهو يدربه على الحُكْم «إنما يسود الناس الذكي المتغابي». أي المتغافل.
فليس من الذكاء تصيُّد الحركات والزلات بين الزوجين؛ فتكثر النزاعات والخلافات بينهما، ويسود الجفاء والعناد، وقد يتطور إلى ما لا تُحمد عقباه.. أو تتبُّع هفوات صديق أو زميل في العمل.
وجميل أن نتحمل ونحتسب في تفسيرات المواقف بنوايا حسنة، ونُرجع ذلك إلى احتمال أن هذا أسلوبه، أو هذه طريقته إذا كان هذا الموقف لا يمس الأخلاقيات، وليس فيه إهانة واضحة.
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: «تسعة أعشار حسن الخلق التغافل».
إن التغافل دليل نضج وكمال عقلي. قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: «الكيس العاقل الفطن المتغافل». قال تعالى {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِه وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ...} سورة يوسف (77)؛ إذ تغافل عليه السلام ولم يرد على ما يسمعه من إخوته من غمز ولمز رغم ما سبق له من الأذى من إخوته والتآمر عليه ورميه في البئر.
التغافل يعطي الإنسان مساحة وفرصة للمراجعة والتأني وعدم التسرع في الرد الذي قد يؤدي إلى شحن النفوس وانفلات اليد أو اللسان بما لا تحمد عقباه. فكم ضيّع فَقْد التغافل من حسن خلق وتصرف لائق وعودة إلى الصواب وتأنٍ في الرد.
فيها أيها الزوجان تغافلا، وأبعدا عنكما التدقيق وتصيد الأخطاء التي من شأنها إحداث شروخ في عش الزوجية، وتنافر وجفاف عاطفي بين الزوجين، وقد ينعكس هذا التنافر والتشاحن على بقية الأسرة.
أيها الصديقان، أيها الزملاء، أيها الأقارب، أختي المسلمة، أخي المسلم.. التغافل يعني الكثير لك؛ ففيه العفو والصفح والتسامح والحكمة.. فيه راحة النفوس وعدم انشغالها بالأمور التافهة.. فيه الأريحية في العلاقات الطيبة ومحبة الناس، وهو صمام أمان، يغلق منافذ الشيطان إلى النفوس.
اللهم أسألك أن تبعد عني وإخواني المسلمين همزات الشيطان ولمزاته، وأن ترزقنا القلوب الطاهرة والنوايا الحسنة والتغافل عما قد نتعرض له من قول أو فعل محتسبين لَمّ الشمل وحفظ الود وصلة الرحم. والله ولي التوفيق.
- عنيزة