إن كثرة التوجهات والتيارات والمدارس في الفلسفة الهندية، بلغتْ حدًا قلّما نجد له نظيرًا في فلسفات الشعوب الأخرى، ولذلك يصعب جدًا استخراج القواسم المشتركة بين تلك التوجهات والمدارس الفلسفية الهندية.
ولكننا -بالرغم من ذلك التعدد الكبير- سنحاول، حيث نجد في الدراسات بعض المميزات العامة التي تتميز بها الفلسفة الهندية في الجملة، ومنها ما ظهر من الفقرة السابقة، أي أنها فلسفة متعددة المناهل والمشارب، فهي ثرية شاملة لكل ما يؤرق الإنسان ويشغله في هذه الحياة، فقد خاض فلاسفة الهند وحكماؤها قديمًا وحديثاً في غالب ما يمكن الخوض فيه بلا مبالغة.
كما تمتاز الفلسفة الهندية بأنها (ذات طابع عملي) في كثير من نواحيها، إلى درجة جعلتْ بعض الباحثين يصل إلى نتيجة مفادها أن الفلسفة في الهند نشأتْ أصلاً في بداياتها نتيجة حرص ورغبة حكماء الهند الأوائل على (تحسين حياة البشر)، والوقوف والتغلب على ما يكدر عليهم الراحة والاستقرار والسعادة.
ومن الملامح العامة لتيارات الفلسفة الهندية، أنها فلسفة روحية في جملتها، باستثناء التوجه المادي الإلحادي.. ومن سماتها الواضحة أيضًا أنها فلسفة تطبيقية، تحمل رسائل إنسانية واقعية، ففلاسفة الهند غالبًا ليسوا نظريين فحسب، بل يسعون دائمًا إلى تطبيق الفلسفة كممارسات حياتية، هدفها الإنسان قبل أيِّ شيء آخر، فعملهم يهدف بالدرجة الأولى إلى استئصال (أسباب معاناة الإنسان) وتحقيق أفضل حياة ممكنة له.
وقد ظهر لي من غالب تيارات فلسفة الهند أنها فلسفة تؤكد وتدعو دائمًا إلى ضرورة ضبط الإنسان لرغباته، وتشدد على أن الانضباط الذاتي والسيطرة على النفس هو الشرط الأول للسعادة والحياة في خير وسلام، فضبط النفس والابتعاد عن المبالغة في إشباع الرغبات هو سبيل الراحة الأول وسبيل القضاء على معانيات الإنسان.
كما أن الحكماء الهنود يشتركون في الغالب في التأكيد على أن الممارسة العملية هي المحك النهائي للحقيقة في كثير من الأحيان، فميزان الممارسة عندهم هو الفيصل عند الحكم على صحة الكثير من الأقوال والنظريات والرؤى الفلسفية.
كما يهتم فلاسفة الهند بـ”الذات” جدًا، ويصرّون على ضرورة فهم الإنسان لذاته أولاً، ليستطيع السيطرة عليها بعد ذلك، وكبح جماح نزواتها ورغباتها المشتعلة، التي تبعده عن السعادة وتقرّبه من الهم والشر، إذا عجز عن السيطرة عليها.. ومن هنا ركّزت الفلسفة الهندية على (ردع النفس وترويضها) وتحجيم طلباتها الطامعة التي لا تنتهي، فذلك عند غالبهم هو الطريق إلى كل خير، ولا يمكن للإنسان تحقيق ذلك إلا بفهم ذاته فهمًا صحيحًا عميقًا.
ولكي يكون المرء فيلسوفاً فإنه يتوجب عليه عند الهنود أن يضع الوسائل أو يبتكر الطرق التي تحقق للإنسان الحياة السعيدة الخيّرة، ولا يكفي أن يتكلّم وينظّر لذلك فقط، بل لا بد من امتحان ما يقوله ويطلبه ويطرحه امتحانًا تطبيقيًا على أرض الواقع.. فإن ظهر أن كلامه ومنهجه ومواقفه ورؤاه الفلسفية تزيد أو تسهم في تحقيق السعادة والخيرية للإنسان، وفي تخفيف آلامه وأتراحه، دخل في دائرة الفلسفة والتفلسف، وإذا عجز عن تطبيق واختبار نظرياته وإثبات صحتها بالممارسة، فشل في عمله وفي سيره نحو الفلسفة الحقة.
إن الفلسفة الهندية جمعتْ بين الفضول التأملي ومتعته من ناحية، وبين محاولة التغلب على عذابات الإنسان من ناحية أخرى، فكثير من فلاسفة الهند وحكمائها –فيما ظهر لي- أحبوا الحكمة وتلذذوا بالتفلسف لذاته، ولديهم فضول تأملي كبير؛ ولكن ما يميزهم أنهم وجهوا كلَّ ذلك غالبًا في سبيل حل مشكلات البشر والاجتهاد في القضاء على متاعبهم وهمومهم المختلفة.
وقد استخلصتُ من قراءاتي في تياراتهم المتعددة، أن فلسفات الهند شبه متفقة على أن الشقاء الإنساني سببه (الرغبات) التي يعجز المرء عن تحقيقها، كالفقير الذي تدفعه رغباته الجامحة للثراء، ولكنه يعجز عن ذلك.. أو كالإنسان الذي لا يريد الموت؛ ولكنه يدرك في أعماقه أن الخلود في الدنيا مستحيل، وأن مصير البشر المشترك هو الفناء والرحيل.. ومن هنا اتفقوا تقريبًا على الحل أيضًا، فغالب فلسفات الهند ترى أن السعادة وانتهاء معاناة الإنسان لا تتحقق إلا إذا أدرك الإنسان بداية أنه ينبغي أن تتوافق رغباته مع الواقع، أو مع ما يمكن تحقيقه مستقبلاً، ولن يتمكن الإنسان من ذلك إلا إذا فهم نفسه وقدراته وإمكاناته ومؤهلاته ومرحلته العمرية أولاً، ثم فهم ما يحيط به في واقعه وفي الحياة بشكل عام.
والخلاصة هي أننا كما وجدنا “الدهشة” هي الباعث الأساسي على الفلسفة عند أرسطوطاليس، وكما وجدنا “رهبة الموت” مثلاً هي الدافع أو السبب الأساسي الذي حمل على التفلسف كما يقول الألماني بوخنر.. فإننا -بكل بساطة وتلخيص- نجد أن (قهر المعاناة) هو الدافع الأقوى الذي وُلدتْ بتأثيره الفلسفة في الهند، إن صح تعبيري.. وفي الحقيقة أني احترمتُ هذه الفلسفة كثيرًا، فقد نجحتْ إلى حدٍ كبير -بشهادة كثير من باحثي الهنود وغيرهم من الذين اطلعتُ على بعض كتاباتهم- في تخفيف معانات البشر ومتاعبهم المختلفة في هذه الدنيا العجيبة.
ويرى بعض مفكري الهند وخصوصًا القدماء، أن الإنسان خلق للمأساة، وأن دور الفلسفة هو (التخفيف من هذه المأساة) فقط، ويوردون في ذلك كلامًا لافتًا، من ضمنه أننا مهما حاولنا فلن نستطيع القضاء النهائي على معاناة البشر ومآسيهم؛ لأن كل إنسان لا بد أن يعيش شيئًا من المأساة في حياته، وليس لهذه المآسي والمتاعب أيّ حل كامل في الفلسفة إلا موت هذا الإنسان في نظرهم؛ ولكنهم يرون أن الفلاسفة مطالبون بوضع الحلول الجزئية، التي تساعد الإنسان على شيء من التأقلم مع طبيعة الحياة الشاقة التعيسة، وعلى ضخ جرعات من السعادة فيها.
ونختم الحديث عن سمات الفلسفة الهندية بنقطتين مهمتين، الأولى أن الفلسفة الهندية أحيانًا تلقي علينا كبشر المسؤولية الكاملة عن الوضع الإنساني الذي وصلنا إليه بالأمس أو اليوم، أو الذي سنصله غدًا، وهذه المسؤولية مقسمة –عند بعض حكماء الهند- على كلِّ فردٍ من أفراد الجنس البشري، فنحن مسؤولون عمّا نحن فيه الآن، وعمّا سنؤول إليه مستقبلاً، فقد صنعنا بأنفسنا كبشر ماضينا، ويجب أن نتعلم من دروس الماضي لصنع مستقبلنا بشكل أفضل، سواء على الصعيد الفردي أو الصعيد المجتمعي في أوطاننا، أو على الصعيد الأشمل الأكبر، أعني صعيد الإنسانية كلّها وتقدمها وتطورها، من خلال تأمل سيرورتها التاريخية لتجنب السلبيات السابقة.
والنقطة الأخيرة المهمة، هي أن هناك شبه إجماع واسع عند كثير من فلاسفة ومفكري الهند، حول “اللا تعلق” بوصفه الدواء الناجع لكل عذابات الإنسان، فغالب متاعب هذا الكائن المسكين -في تصورهم- تنشأ وتتضاعف إما بتعلقه فيما لا يملكه ويعجز عن امتلاكه، أو عن تعلقه بما لا يمكنه تحقيقه من طموحات وأهداف أكبر من قدراته وإمكاناته.. مع ضرورة الانتباه هنا إلى أن إعجابي بكثير من توجهات هذه الفلسفة في هذا الشأن، لا يعني تأييدي لقتل الأحلام ووأد الآمال الطبيعية كما قد يفهم البعض؛ وإنما يعني اقتناعي بضرورة “التوازن” ودراسة الجدوى ومدى إمكانيّة تحقيق أيّ طموح أو هدف، أو نيل أيّ مطلب، قبل إضاعة الأوقات فيه وفي السعي نحوه.
ورغم أن تصوري الإجمالي لغالب فلسفات الهند، هو أنها فلسفات لها قاسم مشترك بيّن، هو أن جل اهتمامها ينصبُّ على (الإنسان في دنياه)، وبذلك فهي بعيدة -فيما ظهر لي- عن النظر إلى الآخرة بالصورة السائدة في الأديان السماوية وغيرها. إلا أن المؤكد هو أنهم لامسوا مصير الإنسان بعد الموت بطريقتهم الخاصة، فمصير الإنسان عند غالب حكماء الهنود مرتبط بسلوكياته في حياته. ويظهر هذا بوضوح من خلال عقيدة (تناسخ الأرواح) التي يؤمن بها كثير من الهنود البوذيين والهندوس وغيرهم، مع وجود فروقات بينهم قد نفصّل فيها في مقالات لاحقة خاصة بمسألة التناسخ.. ويكفينا الآن في هذه النبذة العامة أن نعلم أن خلاصة هذه العقيدة هي أن الروح تلقى جزاءها حسب أعمال صاحبها من خير أو شر أثناء انتقالها من جسم إلى آخر، فالإنسان الخيّر تتنعم روحه في أجسام حسنة، والعكس صحيح بالنسبة للإنسان الشرير حيث تنتقل روحه بالتناسخ إلى أجسام شقية سيئة بعد موته.
نتوقف هنا بعد أن اجتهدنا في استخلاص شيء من السمات العامة للفلسفة الهندية، ونواصل الحديث في الجزء القادم عن أبرز المدارس الفلسفية في بلاد الهند.
- وائل القاسم