-1-
تسعى الدول المتقدمة إلى استثمار الأحداث ذات الطابع السلبي (أو التي تثير الرأي العام الداخلي والخارجي) لصالحها وصالح قيمها الثقافية العليا ومشروعها السياسي بالدرجة الأولى؛ لإيمانها بأنّ الحدث مظنّة التفات العالم كلّه،
بداية من الإعلام الجادّ المسكون بالبحث والسؤال، وانتهاءً بالإنسان العادي الذي تسيطر عليه البنية الحَدَثية، وتدفعه إلى اتخاذ موقف عاطفي سريع، يتصل بصورة الحدث وتفاصيله أكثر مما يتصل بقراءته وتحليله!
لأجل ذلك وضعت الدول المتقدمة الإعلامَ في جميع حساباتها السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والاجتماعية، واعتمدت عليه اعتماداً كبيراً في مرحلة اتخاذ القرار، ثم في تسويقه وإقناع الناس به. ففي الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت وثائق وزارة الخارجية (بحسب دراسة علمية حديثة) كيف ترَكَّزَ اهتمامُها بالعامل الإعلامي في النصف الثاني من القرن الميلادي الماضي، خاصة في علاقتها مع العالم العربي، ولم يكن الإعلامُ في أمريكا عامل دعم أو مساندة للقرار وحسب، بل كان جزءًا من القرار نفسه؛ فقد كانت وكالة الاتصال الدولي الأمريكية تضع دوائر صنع القرار الأمريكي أمام صورة كاملة عن اتجاهات الرأي العام الخارجي، بل عن ردود الفعل المتوقعة على السياسات التي تفكر في اتخاذها.
وقد نتجت عن هذه الرؤية فيما بعد برامج متنوّعة تعمل وفق هذا المنطق، ويكفي أن أشير - على سبيل المثال - إلى جملة البرامج المرتبطة بمكتب (ECA) التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، بصفتها جزءًا من المهمة الإعلامية، وغاياتها الكبرى في تغيير الصورة السلبية عن أمريكا أو المحافظة على صورتها الإيجابية في العالم، خاصة في ذهنية الواعدين من السياسيين والمثقفين.
وقد رأينا - قبل أيام - كيف استطاع الفريق الإعلامي التابع للبيت الأبيض تحويل الانطباع السلبي عن أمريكا بسبب قصة الطفل المخترع (من أصول سودانية) إلى انطباع إيجابي، وذلك بعد أن وجّه إليه الدعوة باسم الرئيس الأمريكي لزيارة البيت الأبيض.
لقد استطاع هذا الفريق أن يقلب في ساعات معدودة الحدث المحسوب على أمريكا إلى حدث محسوب لها، ومن هنا يمكن أن نفهم الهدف البعيد لتوجيه الدعوة إلى الطفل باسم الرئيس الأمريكي، وعبر حسابه الخاص في موقع تويتر الذي شهد ملايين التغريدات المنتقدة لتعامل المدرسة وأجهزة الأمن مع الطفل!
وقد نجح الفريق في هذه المهمّة، إذ كسر حدّة النقد، وحوّل مسار التفاعل الإعلامي مع الحدث.. ظهر هذا من خلال تسابق وكالات الأنباء والحسابات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي إلى عرض تغريدة الرئيس، وتصريح الطفل بقبولها، واستعراض الصورة الإيجابية (المنمّطة) عن حقوق الإنسان في أمريكا!
وإذا كانت أمريكا تؤكد بكل ما سبق حاجتها إلى الإعلام في جميع المحطات التي يمرّ بها القرار الداخلي والخارجي، وفي جميع الوقائع والأحداث التي تفاجئها، فإننا في العالم العربي أكثر حاجة إليه، وربما كانت بلادنا من أكثر الدول العربية إلى الإعلام في هذه المرحلة الصعبة؛ لموقعها المهمّ من خريطة الاقتصاد العالمي الذي يمرّ اليوم بحالة اضطراب مخيف، ولتأثيرها الكبير في مجرى الأحداث التي تشهدها الدول العربية (كما في حالة البحرين، ومصر، واليمن)، ولامتلاكها القدرة على إطلاق المبادرات، ولنشاطها في المجال الإنساني (كما في الحالة السورية)؛ ولتعرّضها منذ بداية الربيع العربي لحملة تشويه مفتوحة من وسائل إعلامية عربية وعالمية. هذا بالإضافة إلى التنمية التي شهدتها في السنوات العشر الأخيرة، وتنوّع مناسباتها (السياسية، والاقتصادية، والدينية، والعلمية، والثقافية)، وكلها كما نرى تتطلب جهداً إعلامياً قادراً على تشكيل الرأي العام، أو محاورته، أو اختراقه، أو التصدي له.
-2-
ربما لم يتنبه بعضنا إلى الدعم المعنوي الكبير الذي حظي به الإعلام في بداية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله -، ويمكن أن أوجزه هنا في نقطتين مهمتين:
الأولى: إسناد حقيبة الإعلام إلى شخصية إعلامية، جربت العمل الإعلامي في أكثر من سياق، وحققت فيه نجاحاً لا يخفى.
والثانية: (وهي الأهمّ): تعيين وزير الإعلام عضواً في مجلس الشؤون السياسية والأمنية، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية؛ الأمر الذي يشفّ عن استحضار واضح من القيادة العليا لأهمية قرب الإعلام من دائرة اتخاذ القرار (السياسي والأمني والاقتصادي والتنموي)، بل أهمية مشاركته في صناعة القرار.
وأحسب أن إعلامنا وفق هذه الرؤية معني بثلاث مسؤوليات:
الأولى: مواكبة المشاريع التي تقوم بها الدولة على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي والتنموي. والمواكبة هنا يجب أن تكون فاعلة وقادرة على كسب قناعة المتلقي.
والثانية: متابعة الرأي العام الداخلي والخارجي حول هذه المشاريع، ونقلها إلى دائرة القرار، ومن ثمّ التفاعل معها بالشكل الإعلامي المناسب.
والثالثة: استغلال المناسبات التي تحتضنها بلادنا لتقديم صورة مشرقة عن رؤيتها الثقافية والحضارية.
وما من شكّ في أنّ هذه المسؤوليات تحتاج إلى تغيير جذري في بنية المؤسسة الإعلامية، تتحول معه إلى الانفتاح الذي يضمن تحقيق أكبر قدر ممكن من الجرأة والشفافية، وإلى الكوادر المؤهلة والشراكات المفتوحة مع الإعلام السعودي الخاص لضمان تحقيق أكبر قدر ممكن من الجذب والانتشار.
-3-
إنّ بلادنا اليوم تتعرض لحرب إعلامية، يمارس فيه تشويه غير مسبوق لجميع مواقفها ومبادراتها؛ ولن نستطيع إطفاء هذه الحرب إلا بعمل إعلامي مؤسسي عالي المستوى، وإذا كان الدعم المادي والمعنوي متوفراً، والإمكانات البشرية والتجهيزات متاحة وقريبة، فإنّ المتطلب الأهمّ في هذه المرحلة هو دعم العمل الإعلامي بعمل توثيقي ومعلوماتي كبير، يصنع الفارق، ويتخطى بنا جميع الوسائل الإعلامية ليضعنا في المقدمة، في كلّ ماله علاقة بوقائع وأحداث ومسؤوليات هذا الوطن.
وهذا يستلزم - من وجهة نظري - التوجه السريع إلى إنشاء غرف فاعلة للإعلام الأمني، والإعلام السياسي، والإعلام الثقافي، والإعلام الاقتصادي، والإعلام الاجتماعي، وإعلام التنمية، وإعلام الحرب..إلخ؛ لنضمن أن يكون إعلامنا بمستوى نشاط الدولة، وتطلعات الشعب، وتحديات المرحلة!
- خالد الرفاعي