د.خالد بن صالح المنيف
أصاب كثيرًا ستيفن كوفي عندما قال: «إن الشخص السعيد هو من يحمل طقسه، لا يهمه أكان الجو صحوًا أو مطرًا!» العظيم من البشر يمارس هذا المفهوم (عمليًّا) عندما يواجه ظروفًا صعبة ومنعطفات شديدة ومناطق وعرة في حياته؛ فتجده ساكنَ النفس رائقَ المزاج ريّق البال يركز على إيجابيات المشهد وزواياه المشرقة ولسان حاله يلهج بـ (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا).
وهذا (السعيد) ينثر الوردَ دائمًا، ويبث الفرح، ويشعل قناديلَ التفاؤل لمن حوله أيًّا كانت الظروف، ويعطي للحياة أجمل معاني الأنس والسعادة حتى عندما تضيق الأمور!
وهذا الشخص العظيم لا يتوقف كثيرًا للتفكير بالفشل والخيبات، ولا تجده يتلهف على ثناء الناس، ولا ينزعج من كيدهم، ولا ينشغل بحماقاتهم وتصرفاتهم السلبية؛ فالمستقبل الجميل ماثلٌ أمام ناظريه يدفعه لمزيد من التقدم ومزيد من العطاء، أهدافه واضحة وأولوياته مرتبة؛ لذا لا تجده منشغلاً بغيره، ولا تراه متطفلاً على شؤون الناس، كما أنه لا يبيح نفسه للفارغين فيخططوا عليه ويهدروا وقته! وهو أنموذج (مشرق) لا يستسلم ولا ينكسر، واثقًا بالله ثم بنفسه، راضيًا بما قدر الله، يعمل ويجتهد على تغيير ما يستطيع - فالصبر على مكروه يُستطاع تغييرُه بلادةٌ والرضا به حمقٌ- ولا يتبنى فكرة (أن النجاحَ حظٌّ) وهو كذلك لا يهدر الوقتَ في التشكي والنواح من أمور لا يمكن تجنُّبها أو في شؤون لايدَ له ولا حيلة لتغييرها، قانعًا بما وهبه ربه مستمتعًا بحاضره مطمئنًا لمستقبله، متمثلاً قول الخيام:
لا تشغل البال بماضي الزمان..
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته..
فليس في طبع الليالي الأمان
وإن أردتَ أن تكتشف شخصية أحد فتابع (لغته) فهي انعكاس لداخله الواثق المتماسك أو روحه المنهزمة الضعيفة؛ فتصرفاتك وأسلوب معالجتك للمواقف تعتمد -وبشكل كبير- على أفكارك التي تؤمن بها، ومعها تكون لغتك: فالواثق السعيد تجده دائمًا القول: (سأحاول.. القادم أجمل.. لعل في الأمر خيرة، وهكذا)، وذو الثقة العالية لا يكتفي بحلٍّ وحيدٍ، ولا يحيل الأمر للظروف؛ فهو دائم السعي لتغيير نفسه، دائم الحركة لتطوير أوضاعه، لا يتوقف عند التوافه ولا يبكي عند الأزمات، ولا يفتأ يحوِّل الآلام إلى آمال حِسان والمحن إلى مِنح مجزية؛ مدركًا أن القدرات تعظم وتتفتق من ركام الوجع والصعوبات!، أما الضعيف فلسانه لا يفتر عن تحميل الآخرين المسؤولية والتعبير الدائم عن الاستسلام وسلب نفسه الإرادة بقوله: (قدراتي لا تسمح، ومواهبي ضعيفة، والناس لا يحبونني)!
إن التحسر على ما فات والتوجع على الماضي وذرف الدمع الحار عليه مظهرٌ من مظاهر السخط والاعتراض على قدر الله، فالنهر الصافي الذي تجري فيه معاني التوكل الحق هو الذي تسيل منه معاني الشخصية الناضجة! وما أجمل منهجَ هؤلاء السعداء في التعامل مع الأزمات فلا ينكسف بالهم ولا يتغير حالهم ولا تنهد أركانهم حيث الثبات أمامها؛ فلا تراهم يجنحون لتجسميها والطواف بها يلطمون وينوحون! ولا يسمحون لألسنتهم تخوض (لاعقة) في حاضرهم المزعج أو ماضيهم الأليم من كرب، بل قنعوا ورضوا وآمنوا أن الأمر بيد الله؛ شعارهم (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا) فلم تفارق محياهم الابتسامةُ المشرقةُ وقلوبَهم حُسنُ الظن بالله، ثم أطلقوا العنان لقدراتهم الكامنة؛ فحولت الكدر والطين إلى واحات ونبع زلال! لذا تجدهم ينامون قريري العين ساكني البال، طائرهم سعيد، وطالعهم يمين، وظاهرهم جميل.
يقول أحد الحكماء: «ليست البطولة أن تستثمر مكاسبك في الحياة؛ فإن أي أبله يستطيع فعل هذا، ولكن البطولة الحقة والعظمة الحقيقية أن تحيل خسائرك إلى مكاسب، وهنا الفرق بين الشخص الفطِن والشخص الأحمق!»
ودائمًا وأبدًا كن مع الله يكن معك؛ فهو أمنع حمى وأحصن موئل، فالحبيب عندما بلغ الأمر المختنق قال: (لا تَحْزَنْ أن اللهَ مَعَنَا) وموسى قالها مدوية عندما بلغ الحال أشده: (كَلَّا أن مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)؛ فقد أدرك هؤلاء الكبارُ أنهم في الأزمات ليسوا وحدهم؛ بل لهم سند وركن شديد، وثمرة هذا شخصية قوية واثقة صلبة العود، لا يفزعها حدثٌ ولا يشتت تفكيرها صغيرٌ، ولا يستبد بها فزعٌ، ولا ينال منها دهشٌ عند الملمات، ولا تهتز مع أي ريح ولا تنكسر مع أي صدمة، استعِن بالعزيز دومًا واسأله الفرج والسداد وادعه أن يلهمك الحكمة.
ومضة قلم:
العاقل من يصنع قاربًا يعبر به النهر، بدلاً من أن يبني حوائطَ حول نفسه تحميه من فيضانه.