لا زالت جدلية التراث العمراني حاضرة عندما يكون الحديث عن إدارة المدن وتنميتها، فهناك من لازال ينظر إلى التراث العمراني على أنه مجرد حزمة من المباني والحرف القديمة خلّفتها عربة التاريخ في عصور مضت، وأن المسئولية تكمن في مجرد المحافظة على ما تبقى منها وتحويلها إلى متاحف مفتوحة تعبّر عن ماض كان.
والحقيقة أن مثل هذه النظرة يمكن أن تقصي كل جهود المدن المبذولة لاستعادة هويتها وشخصيتها العمرانية المفقودة، وقد تُشكل فهماً خاطئاً لماهية التراث العمراني كمرجع رئيس في إدارة تلك المدن ومايتطلبه ذلك من نظرة أكثر شمولية تمكّن من توظيفه باحترافية في بناء مستقبلها. لقد أثبتت التجارب العالمية أنه لا يمكن التخطيط لمستقبل أي مدينة دون ربط ذلك «عملياً» باستراتيجية فاعلة للمحافظة على ما تحتويه من مواقع تراث عمراني وخطط لإعادة تأهيلها.
وخلصت معظم تلك التجارب إلى أن إدارة تلك المواقع لا يمكن أن تتم دون أن يكون المجتمع المحلي هو المحرك الرئيس لتلك العملية مهما بذلت مؤسسات الدولة من جهد وتنظيم ومبادرات.
في رأيي الشخصي أن الحدث الأهم في مراحل نمو المدينة السعودية حضر مع تأسيس صندوق التنمية العقاري عام 1975م.
في تلك المرحلة تم تنظيم مخططات سكنية جديدة خارج الكتلة العمرانية القائمة، وشرع في إقامة وحدات سكنية وفق ضوابط بناء مختلفة تماماً عن تلك التي نشأت عليها المدن في مراحل نموها التي سبقت ذلك التاريخ، وهنا كانت مرحلة الانفصال عن النسيج العمراني التقليدي السائد والتحول الجذري في نمط العمران، و توجيه أولوية التنمية للتجمعات العمرانية الجديدة تلبية لمتطلبات السكّان من مرافق وخدمات وبنى تحتية، ولاستيعاب مخرجات الطفرة الاقتصادية آنذاك الأمر الذي أدى إلى الهجرة من أواسط المدن والقرى التاريخية والتراثية وتعطل وظائفها، ومن ثم تدهور حالتها العمرانية فترة من الزمن، خاضت المدن السعودية بعدها مرحلة بناء هوية جديدة غير مرتبطة بتلك التي تشكلت إبّان نشأتها.
ومع بدء انتقال المدن من مرحلة النمو إلى مرحلة التنمية بدأت تظهر الحاجة إلى البحث عن مرجعية عمرانية محلية تحاول العودة إلى الأصالة في مرتكزات بناء المدينة، فبدأت مظاهر الاهتمام بالنسيج العمراني من خلال إعادة تأهيل أواسط المدن والقرى التاريخية في مبادرات قادتها المجتمعات المحلية و الهيئة العامة للسياحة والآثار ووزارة الشؤون البلدية والقروية ممثلة في الأمانات والبلديات وغيرها من الشركاء.
ودخلت المدن السعودية مرحلة عودة «الحياة إلى المكان» تحت عنوان «المحافظة على التراث العمراني»، وهي في نظري «مرحلة حرجة» في تاريخ تنميتها العمرانية، إذ إن مسيري المدن أمام تحدٍ كبير يتمثل في القدرة على التعامل مع مواقع التراث العمراني كعنصر رئيس - وليس ثانوياً - في منظومة تطوير المدينة، ومرتكز أساسي في فلسفة تخطيطها وإدارتها.
لا بد أن يكون هناك إيمان كامل بأن التراث العمراني بات المنطلق الرئيس لأي مدينة تبحث عن «مستقبل» واعد يجسد العلاقة المثالية بين الإنسان والمكان.
وباتت الحاجة ملحّة أكثر لبناء صورة ذهنية جديدة عن مواقع التراث العمراني، فإذا ما أردنا أن نُقنع المجتمع المحلي بأن يتفاعل مع منظومة تأهيل تلك المواقع التراثية العمرانية فيجب علينا ألا ننظر إليها وكأنها متاحف مفتوحة أو مشاريع استثمارية ولا حتى قطع وأماكن أثرية تُدرج في قائمة الفعاليات أو البرامج السياحية، بل يجب أن نتعامل معها على أنها «قلب المدينة الطبيعي» والنابض بكل مكوّناته ومفرداته وعناصره الوظيفية والمعمارية.
وهذا يستوجب التعامل مع تلك المواقع على أنها وجهة تطوير وحاضن رئيس للأنشطة الحياتية اليومية، ومصدر لثقل المدينة وصناعة القرار، ومكان ملهم لانتماء السكان لمدينتهم ومجتمعهم.
إن مواقع التراث العمراني ليست بحاجة «عطفنا» لمجرد إعادتها للواجهة من جديد، بل بحاجة «مسئوليتنا» لكي نضمن لها نموا طبيعيا - غير مصطنع - يمكّنها من ممارسة دورها «الذي كان»، وأن تعود لها الحياة من خلال تحفيز المجتمعات المحلية وتمكينها بكل الوسائل المتاحة لقيادة تنميتها وتشغيلها وإدارتها.