عبير بنت سعود بن محمد آل سعود
عند دراسة الاقتصاد ونهضة المجتمعات خلال القرون السابقة نلاحظ أن لكل عصر عنصرا يحدد معايير التطور والنجاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فمثلا وباختصار في العصر الثامن عشر بدأت الثورة الزراعية مع تطور الأجهزة المستخدمة في الحراثة والزراعة. ثم تلتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر التي اعتمدت على الآلات والإنتاج الهائل.
ليأتي بعدها العصر المعلوماتي حيث أصبح وجود المصانع ثانويا لسهولة الأجهزة ووفرة العمالة وأصبحت المعلومات العامل الأساسي الذي حدد معيار التطور سواء على الصعيد الفردي أو الدولي، ومن إنجازات هذا العصر الأجهزة الذكية، الاتصالات اللاسلكية، الطاقة النووية والرحلات الى الفضاء، وغيرها من الإنجازات المشابهة. واليوم نطوي صفحة العصر السابق لنفتح فصلا جديدا يسمى بالعصر التفاعلي الذي يعتمد على مهارات الابتكار والتطور لا على الذكاء التحليلي والمنطقي.
و هنا أيضا أود أن أتطرق الى نقطة مهمة على الصعيد العلمي وبالتحديد فيسيولوجيا الدماغ، يوجد في الواقع في دماغ الإنسان مهدان، واحد على الجانب الأيسر الذي من أهم خصائصه التحليل والمنطق والأرقام والترتيب، أما بالنسبة للمهد الآخر
من الدماغ فهو على الجانب الأيمن ويعمل على الإبداع والابتكار وتحريك المشاعر والتقمص العاطفي.
اتسم العصر المعلوماتي وركز بشكل هائل على مهارات الدماغ الأيسر مما أدى ذلك الى إضعاف اعصاب الدماغ الايمن وبالتالي ضعف في مهارات الابداع والابتكار. تلك كانت بداية. بعد هذا الاكشاف العلمي، بدأت الفترة الانتقالية بالتدريج في بداية هذا القرن من الحقبة المعلوماتية الى التفاعلية.
وعلى عكس العصر الذي تلاه العصر التفاعلي يتطلب مهارات الجانب الأيمن من الدماغ. والجدير بالذكر ان أكثر باحث قام بدراسة هذا العصر الناشىء هو دانيبل بينك الذي سلط الضوء في كتاباته على تنمية مهارات الدماغ الايمن وحدد ستة معايير لتصل الى ذروة التطور في هذا العصر الا وهي: 1) التصميم 2) القصة 3) التناغم 4) المعنى 5) الحس الفكاهي 6) التقمص العاطفي.
إذا نظرت الى الدول المسيطرة كالولايات المتحدة، اليابان، الصين، استراليا وبعض دول أوروبا ستلاحظ انه هناك توجه ملحوظ وبشدة يميل إلى الإبداع والابتكار وتطبيق هذه المعايير الستة، ولا تنحصر هذه الوسائل على مجالات محددة بل تجد ان هذه الشعوب تحرص على تطبيق هذه الآليات على كل القطاعات. ومع بزوغ هذا الاهتمام لإيقاظ مهارات الدماغ الأيمن وتنمية الإبداع لم تستغن تلك الشعوب عن الوظائف التي تعتمد على المهارات التحليلية المنتمية إلى الدماغ الأيسر ولكنهم أصبحوا يوظفون العمالة من دول آسيا غير المتقدمة الذين لديهم الكفاءة العالية لخدمتهم، بينما هم يكرسون وقتهم لاختراعات جديدة.
أخشى أن نكون مهمشين في هذا العصر الابتكاري الصاعد وبأن وجودنا فقط له معنى واحد وهو تمويل مشاريعهم وتنمية اقتصادهم وبأن نظل نعتمد على مهاراتهم ومصادرهم. فيبدو لي أن نظرتهم للعرب كأمة نظرة المستهلك غير المنتج. أن المسألة تبدو كالهرم، بالمقدمة تجد الدول الأقلية المبدعون لتليها الدول التابعية العاملة ليأتي بعدهم الشعوب المستهلكة غير المنتجة والتي نندرج تحتها وعلى آخر الهرم تجد الدول النائية غير المستهلكة وغير المنتجة.
إن التطور ومحور التنمية يبدأ بالتعليم فكل فرد يعكس هوية الدولة على الصعيدين الثقافي والفكري. والأجيال المقبلة هم من سوف ينحتون مستقبل الدولة. في وقتنا الحالي للأسف نظام التعليم عندنا قائم على التلقين ومن ثم التفريغ والنسيان وبالتالي حصر ذكاء الطالب واعتماده فقط على الجانب الأيسر من الدماغ مما يؤدي الى عدم ثقة الطالب واهتمامه في ان ينتج شيئا جديدا ومبتكرا ويستخدم مواهبه الابداعية التي تندرج تحت مهارات الدماغ الايمن. وأرى ان الدولة بدأت في مبادرات لتنمية هذه المواهب استعدادا لتحديات المستقبل كإنشاء مشاريع تعليمية بمعايير عالمية ومدروسة كمدارس مسك غير الربحية اللتي سوف تفتح ابوابها ابتداء من السنة القادمة والتي هدفها ورؤيتها المستقبلية هي استقطاب عدد قليل من الطلاب لتنمية وصقل مهاراتهم العقلية لبناء أجيال مواكبة لتحديات معايير المستقبل العالمية العالية. وفي مجال التعليم العالي، هذا التوجه لدمج المنطق والابداع ملموس في جامعة الملك عبدالله في ثول وقد تلاحظ بصماته من خلال اهتمامهم بتزيين وزخرفة المباني من الداخل والخارج بعدد من الفنون وتوفير بيئة جمالية مما يعزز من إبراز اهمية الابداع والجمال حتى في البيئات العلمية.
ومن هنا أوضح من خلال معرفتي المتواضعة في مجال التعليم أهمية مواكبة وميول واتجاهات الدول المنتجة وأتمنى من صميم قلبي ان تؤخذ المشاريع الناشئة التي هي تحت الإنشاء في كل المجالات وبالتحديد في قطاع التعليم على محمل الجد على أصعد التنمية الفردية، الاجتماعية في التعليمي خاصة وفي القطاعات الاخرى المدنية، الاقتصادية والدولية ايضا. وأتمنى أن نرى مشاريع جادة اكثر في مجال التعليم تحذو حذو مدارس مسك وجامعة الملك عبدالله.
لأن المحيط والإنسان جزء لا يتجزأ، ولأن تعليم الأجيال القادمة هو الذي سيحدد مستقبل الدولة، وأتمنى أخيرا أن تكون المبادرات غير المرئية الناهضة في كل المجالات في تطور مع الأخذ بعين الاعتبار تطبيق الستة معايير التي ذكرتها سابقا وبالتالي تشغيل جميع مهارات العقل، المهد الأيسر للتحليل والمنطق والمهد الأيمن للإبداع والابتكار لنرتقي ونصبح مواكبين للدول الأقلية الذين سبقونا في تطبيق استراتيجيات النجاح. ولا تكون المبادرات محدودة على الدولة فقط بل كل فرد في المجتمع يمكن ان يضع بصمة عالية باتباع طرق ووسائل متعددة لتنمية مواهبنا الإبداعية والابتكارية باتباع أساليب محددة لتقوية عضلات الدماغ الأيمن.. لنطلق له العنان في الإبداع والابتكار والارتقاء والتطور والمواكبة.. بما ان مهارات العصر المعلوماتي أصبحت مهارات لا بد منها وثانوية يجب أن نواكب ما هو جديد ونتقن المهارات الاساسية لهذا العصر... نحن في الغالب سنتبعهم لأنها صرعة عالمية فلنفعل ذلك آنيا وعاجلا لا لاحقا.