عبد القادر بن عبد الحي كمال ">
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الخشية على ولاته، يخشى عليهم إقبال الدنيا وعجب الولاية، وخيلاء السلطة وفتنة الإمارة، لهذا كان يتعقب أعمالهم ويسأل عن أحوالهم ويحاسبهم على أفعالهم، وكانت رقابته تستمد قوتها من أمانته، ومراقبته تستمد استمرارها من إحساسه بمسؤوليته، ذلك الإحساس الذي أجرى على لسانه قوله المشهور (لو عثرت شاة على شاطئ دجلة كنت مسؤولا عنها).
لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخشى إقبال الدنيا على ولاته حسدا لما في أيديهم، ولكنه كان يخشى أن يكون في ذلك ظلم للرعية، أو استغلال للمنصب أو خيانة للأمانة، فالوالي (أي وال) مطلق الصلاحية في عمله لا يرجع لأمير المؤمنين إلا في جلائل الأمور، ولكن الفاروق بحسه وإحساسه، بأمانته وحرصه، بقوته في الحق وللحق كان يطلب من ولاته أن يكتبوا له بما اتخذوه وفعلوه، ليتخذ من الرقابة اللاحقة ما يقوم به المعوج ويهدي الضال، وتسكن نفسه العادلة أنه أدى الأمانة واستوفى مسؤوليته.
ولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عميرا بن سعد الأوسي الأنصاري إمارة حمص، كانت مؤهلات عمير رضي الله عنه عند الفاروق ورعه وصدقه، وهي المؤهلات التي ينشدها عمر ويرتضيها، وسار عمير إلى حمص وقضى فيها حولا يسوس أمرها ويرعى أهلها ويباشر مسؤوليته برقابة ذاتية من زهده وورعه، لم يكتب لأمير المؤمنين عن أموره ولم يخبره عن أحواله، ولم يبعث له دينارا ولا درهما من الفيء، ولم يكن الفاروق في حاجة إلى فيء أو تطلع إلى مغنم، ولكنه رضي الله عنه بحكم مسؤوليته وأمانته يخشى أن تعصف الدنيا بولاته فيغل أحدهم ويستأثر بشيء من مال المسلمين، وهو المسؤول عنهم أموالا وأعراضا ودماء.
بعث الفاروق إلى واليه على حمص عمير بن سعد أن أقدم علي، أخذ عمير جرابه ووضع فيه قصعته وربطه في عصاته وحمله على عاتقه وسار راجلا يحث خطاه نحو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عمير على الفاروق وسلم على أمير المؤمنين، فرأى عمر رجلا شاحب اللون هزيل الجسم على قسمات وجهه يبدو تعب السفر ووعثاء الطريق، لم يتخذ عمير رضي الله عنه من الخزينة راحلة يركبها، ولم يسوغ لنفسه من مال المسلمين نفقة طريق كبدل انتداب في مهمته الرسمية هذه.
صعد عمر بصره في عمير وكأنما أفضى إلى دخيلة نفسه، ولكنه أراد أن يتأكد فقال: ما شأنك ياعمير؟ فأجابه: شأني كما ترى صحيح البدن طاهر الدم، جئتك يا أمير المؤمنين أحمل الدنيا معي وأجرها من قرنيها. نظر عمر فإذا الرجل لم يقدم بشاة ولا بعير ولا يحمل سوى زوادته وقصعته وعصاه، قال عمر: وما معك من الدنيا؟ قال عمير: معي زوادتي أضع فيها طعامي وقصعتي آكل فيها وأغسل وأتوضأ والدنيا كلها تبع لمتاعي هذا.
صدق عمير بن سعد فمع القناعة تكون الدنيا تبعا، ومع الزهد تكون زهيدة، تابعة لا متبوعة، قال عمر: أجئت ماشياً؟ قال عمير: نعم، فقال عمر: أو لم تجد من يعطيك دابة تركبها؟ فاجابه عمير: إنهم لم يفعلوا ولم أسألهم، فسأله عمر عن بيت المال، فقال: لما وليتني حمص جمعت أخيارهم وصلحاءهم ووليتهم جمع فيئهم، واتخذت منهم مستشارين أستشيرهم في إنفاقه على المستحقين منهم ( فأهل حمص أولى بفيئهم من غيرهم، لم يوزع عمير الفيء على أتباعه إن كان له أتباع، ولم يخص أحدا من قرابته بشيء من ذلك، ولم يتخذ له أعوانا يسوغهم الفيء ويحبوهم به، لكنه اتخذ من خيار أهل حمص وصلحائها مستشارين يدلونه على المستحقين من أهل حمص، غفر الله لك يا عمير وأحسن إليك؛ فقد وليت فعففت وأحسنت).
يقول: فوضعت المال في مواضعه وليس فيه من فضلة حتى آتي بها معي أو أبعثها إليك، لا حاجة لعمر بن الخطاب وهو الشديد في الله والقوي في الحق أن يرجع لدفاتر الحسابات ولا أن يدقق في أوجه الصرف، فأمامه رجل طلق الدنيا فلم تنل منه، وأعرض عنها فلم تتغلب عليه، زين نفسه بالزهد فغادر به الإمارة زاهدة فيه.
أراد عمر بن الخطاب أن يجدد العهد لعمير ولكنه استعفاه واجتهد في ذلك حتى أعفاه، ثم ذهب إلى حيث أهله غير بعيد عن المدينة، وبقي في نفس عمر رضي الله عنه شيء أراد أن يتيقن، فقد أحسن الظن بعمير فهل ظنه في محله ؟ وعمر لا يركن إلى هواه ولا يصغي إلى حدسه بل يطلب على ذلك بينات ودلائل، وإن نفسه لتحدثه عن صدق وزهد وتقوى عمير، ويحدثه يقينه عن أمانة وإخلاص عمير، ولكنه لم يستمع إلى حديث نفسه ولم يصغ إلى تأكيدات يقينه، فأرسل ثقة إلى عمير يستوثق أمره ويستخبر حاله ودفع له صرة بها مئة دينار، وقال له: انزل عليه ضيفا فإن رأيت آثار نعمة فعد إلي، وإن وجدت حالا شديدة فادفع له الدنانير ليصلح حاله، وقد كان عمر على يقين وثقة من صلاح عمير، ولكنها أمانة المسؤولية ومسؤولية الأمانة تجعل عمر متتبعا ومتابعا.
يقول الرجل: انطلقت ونزلت ضيفا على عمير وأقمت في ضيافته ثلاثة أيام، يخرج لي في كل يوم رغيفا من الشعير، فلما كان اليوم الثالث جاءني رجل من جيران عمير وقال لي: أصلحك الله لقد أجهدت عميرا وأهله، فما له علم الله غير هذا الرغيف الذي يؤثرك به، فتحول عنه، فقلت سأفعل إن شاء الله، ثم استأذنت من عمير ودفعت له الدنانير، فقال عمير: ما هذه؟ قلت هذه دنانير بعث بها إليك أمير المؤمنين، قال لا حاجة لعمير بها، فصاحت به زوجته خذها يا عمير فإن احتجت إليها وإلا وضعتها في مواضعها، فأخذها عمير وقسمها من ساعتها أقساما ولم يبت ليلته تلك إلا وقد وزعها على ذوي الحاجات.
وعاد الثقة إلى عمر رضي الله عنه وأخبره بما رأى وشاهد، فلما سمع ذلك أرسل إلى عمير أن أقدم علي، فلما قدم عليه سأله ما فعلت بالدنانير؟ فلم يجبه، قال عزمت عليك أن تخبرني ما صنعت بها؟ قال ادخرتها ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، فأمر له عمر بوسق من طعام وثوبين، قال عمير أما الطعام فلا حاجة لي به، فعند أهلي صاعان من شعير فيهما الكفاية والحمد لله، أما الثوبان فلا بأس آخذهما لأم فلان (يعني زوجته) فقد بلي ثوبها.
نشأ عمير بن سعد في كنف أمه بعد وفاة والده، وقيض الله سبحانه وتعالى فتزوجت من الجلاس ابن سويد، فكفله الجلاس وأحبه وأحسن إليه، ولم يتعرض الفتى اليافع لما يسوؤه، حتى كان في يوم سمع من الجلاس كلاما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك السكوت عنه، ورغم محبته للجلاس وتقديره لكافله ومربيه إلا أنه قال له: يا جلاس والله ما على الأرض بعد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي منك، وأنت آثر الناس عندي وأجلهم يدا ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك وإن أخفيتها خنت أمانتي، ولقد عزمت أن أخبر رسول الله بما قلت فكن على بينة من ذلك، ومضى عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بمقالة الجلاس، فلما استدعي الجلاس أنكر مقالته وكذب عميرا وأقسم أنه لم يقلها ولم تصدر عنه، نظر الصحابة إلى عمير وكأنهم مالوا إلى تصديق الجلاس، فضاقت الأرض بعمير وجرى دمعه على خديه فليس معه من الخلق شاهد، وما هي إلا برهة حتى غشيت رسول الله صلى عليه وسلم غاشية الوحي، فلما سري عنه تلا قوله عز وجل ( يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الآخرة من ولي ولا نصير).
نزلت الآية الكريمة مصدقة لعمير بن سعد وانبرى الجلاس يقول: بل أتوب يا رسول الله، وعاش عمير ما عاش صادقا مع نفسه وصادقا في اعتقاده وصادقا في أمانته، مثالا للوالي الصالح الأمين، حتى قال عنه عمر بن الخطاب: وددت أن لي رجالا مثل عمير ابن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين. رضي الله عنهم وأرضاهم.