بنية القصيدة السردية:
لقد كرست القصيدة السردية أعرافًا جديدة في قراءة النصوص الشعرية، تستلزم بالضرورة البحث عن شعرية خاصة بها، تتخذ من السردي في الشعري نمطًا للكتابة، لا تفترض كون السرد نتوءًا زائدًا يبدو وكأنه ملصق على جسد النص الشعري، بل بوصفه مكونًا حيويًا من النص، لأن استخدامه في الشعر - على رأي أدونيس - مشروط (بأن تتسامى وتعلو به لغاية شعرية خالصة))(1).
إن هذا الجانب - السردي في الشعري - ظل مهملاً في النقد العربي الحديث، بسبب بعض التصورات والمعتقدات الخاطئة يلخصها حاتم الصكر ب:
1- الاعتقاد بغنائية الشعر العربي وحضور (أنا) الشاعر حضورًا طاغيًا، مما يلغي الجوانب الحوارية ومظاهر القص.
2- الاعتقاد بقوة الحدود الفاصلة بين الاجناس والأنواع الأدبية.
3- الاعتقاد بنثرية القص الخالصة، وما يستلزم من جماليات خاصة تقربه من (الوقائع) التي يتأسس عليها القص، فيما تتكون القصيدة (لغويًا) وتختزل الوقائع لصالح وجودها، بوصفها معادلاً شعوريًا أو عاطفيًا بهيئات أو تشكيلات صورية، ولغوية، وإيقاعية لا مجال فيها لاستيعاب الواقعة وتحديد جوانبها السردية(2)
ما بددتها حركة الحداثة العربية التي طالت ميادين الحياة من ضمنها الشعر - فظهرت اتجاهات تجاري النقود الغربية التي تدعو إلى إلغاء الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، مما أدى إلى ظهور فكرة (النص) أو ما يعرف بـ(النص المفتوح)، وصار احتفاظ كل جنس ((بحدوده المرسومة موضع شك كبير فلم يعد الشعر - مثلاً - جنسًا نقيًا مطلقًا، يمتنع على الأجناس الأخرى اختراقه أو التغلغل ضمن حدوده الخاصة به وبات النص الشعري قادرًا على استيعاب الكثير من خصائص النصوص السردية، حتى صارت الحدود بين الشعر والنثر(3) كما يقول ياكبسون»أقل استقرارًا من الحدود الإدارية للصين!»(4) كما لم يعد الهدف أو الغاية من رسالته مقتصرًا على بلاغته النصية
وحدها، أي الاحتفاء باللغة وتفجير فضاءاتها المجازية.
ومن جهة أخرى فإن النص سردي - وهو الآخر - لم يعد في معزل عن تلقي المؤثرات التي تهب عليه من النصوص الشعرية المجاورة، كما أن الرواية - مثلاً - ما عدت فنًا خالصًا(5).
إن كثيرًا من جوانب شعر صالح سعيد الهنيدي يعمل بوعيه أو لا وعيه على السرد، والقصيدة السردية لديه في بعض الأحيان، ليست سُبة أو ضعفًا كما يتوهم من يحلو له أن يتوهم، بل هي سمة إبداعية تميزه عن كثير من الشعراء العرب الذي لا يعرفون قيمة النص الشعري السردي، ففي قصيدته (مأساة جنين) يرسم المشهد المأساوي السردي بطريقة ذكية ومؤثرة: يقول صالح:
مأساة جنين
طفلة فلسطينية ولدت أثناء الغزو الإسرائيلي الغاشم على مخيم جنين فسمّاها والدها جنين
في زمان الصمت والغدر المشينْ
ولدت في لُجة الحقد الدفيْن
طفلة أرهقها الوهن
وأشقاها الألمْ
وعلى وجناتها الحلوة آثار سقمْ
ولدت والكون يحكي
قصة الإجرام في دنيا السباتْ
وزئيِر الغدر من صدر المماتْ
ولدت والعالم المشؤوم ينظرْ
بعيون الصمت يبصرْ
ويرى قصة إرهاب الخنازير
على أرض (جنين)
آه من أرض (جنين)
ولدت فاستبشر الوالد بالنصر
فأسماها (جنين)
كي تكون الشاهدَ الفعلي للمأساة
في أرض (جنين)
هذا شيء من سيرة ذاتية لجرح فلسطيني يمشي على قدميه، يحمل خشبته على ظهره أربعين عامًا ولا يجد من يصلبه عليها كم يقول (دعبل الخزاعي)، أو يمشي ويمشي بانتظار نعشه، كما يقول أدونيس (لأنني أمشي يتبعني نعشي)، هذه التفاصيل اليومية لم يكتبها شاعر فلسطيني، مع العلِمَ لا يعرفها ويحفظها عن ظهر دمع إلا أبناء فلسطين.
إن تطور النماذج البنائية للقصيدة الجديدة ارتبط منذ البداية بطبيعة استجابة النوع التشكيلي الشعري لمقتضيات هذه النماذج ومعطياتها بدليل أن القصيدة العربية القديمة لم تخضع طوال عمرها الشعري لتطور بنيوي متباين في أنموذجها باستثاء محاولات خجولة لا يعتد بها ولا يمكن إدراجها في سياق حداثي(6)
فضلاً عن أن الواقع الجديد الذي صاحب النقلة الشعرية الكبرى مطلع الخمسينيات فرض اجناسًا أدبية وفنية جديدة بتأثير الاتصال الحضاري مع الغرب فكانت الافادة متزايدة من إنجازات الفنون الأخرى ومن المعطيات النقدية االعالمية وصولاً إلى إدراك نسبي لضرورة إخضاع البناء للحاة النفسية التي تسود التجربة الشعرية ومقتضيات الموضوع الشعري(7) ومن الفنون التي تركت آثارًا واضحة في عملية البناء الشعري هي ((القصة)).
ان الشاعر صالح الهنيدي يقدم قصة أُمّة عربية من خلال قصة دولة عربية من خلال قصة طفلة عربية، فالجرح الممتد كما يقول الشعر الكبير لوركا (من السرّة حتى الرقبة) مكتوب عليه الإقامة الأبدية في جسد الأمة، أمة
العرب، أمة الأمجاد والتاريخ والحضارات.. ما الذي أصابها حتى تتكالب عيها الدنيا من كل حدب وصوب؟!.. يتكلم.. يحدثنا.. ولا يصمت.. وكأن قَدَرَهُ.. الرفض والصراخ بوجه الظلم والباطل أينما حلاّ..عروبي الدم واللغة واللسان، صالح سعيد كما يقول المتنبي، يحكي لكم قصة شعرية أو قصيدة سردية، قد لا تسمعوها كل يوم:
يحاول هذا السواد
العظيم
إذابة نورك
السرمدي..
بشمس الظلام..
تجيئين.....
في كفك النور.. يروي الأمل
وفي كفك الثانية..
تقبضين
على جمرة الحق
حتى انقضاء الزماااان...
وتشتغل نصوص الهنيدي على سردنة الشخصية وسردنة المكان وفق حسابات أن الزمن في الحرب مفقود لاقيمة معنوية أو إنسانية له، بل له قيمة حربية وقتالية، فعندما تقول (فلان قُتل في المعركة الفلانية) فالمهم هنا هو الإنسان والمكان، فيسمها إذا قتل فجرًا، أو ظهرًا، أو عصرًا أو غير ذلك من الليل والنهار، هذه التفاصيل يعرفها ويسأل عنها العسكر وأهل القتيل فقط، لذلك يمكننا في هذه القصيدة القصة أو النص الشعري السردي، أن نناقش الشخصيات والمكان والرؤية من وجهة نظر المؤلف:
قتلوك يا ياسين أي مصيبة
نزلت علينا كالشهاب الواقدِ
قتلوك يا ياسين أي جناية
جنتِ اليهود على الكريم العابدِ
قتلوك يا ياسين أي بلية
حلَّتْ بنا من كف نذلٍ حاقدِ
قالوا بأنك مقعدٌ يا شيخنا
ليس الذي رفع الجهاد بقاعدِ
لك روح شعبٍ كاملٍ متوثبٍ
جُمعت على طهر بجسم هامدِ
لك نور إيمان يشعُّ بهاؤه
حتى أنار على الجبين الساجدِ
المكان:
يأتي التماسك البنيوي في النص من خلال جملة من العلائق النصية التي تُنسج مع عناصر هذا النص من (زمن) و(مكان) و(شخصية) و(حدث) و(رؤية)، وقد أصبح المكان (مفتاحًا من مفاتيح إستراتيجية النص بغرض تفكيكه واستنطاقه، والقبض على جماليات النص المختلفة)(8)
وقد صرح افلاطون بأول استعمال اصطلاحي للمكان، إِذ عده حاويًا وقابلاً للشيء، فأخذ أهميته في البحث الفلسفي بعد هذه الإشارة، وقسم أرسطو المكان على قسمين: عام، وفيه الأجسام كلها، وخاص لا يحتوي أكثر من جسم في أن واحد(9)، ولدينا عدد كبير من تقسيمات المكان:
1- قسم مول ورمير المكان أربعة أنواع حسب السلطة(10)
أ- عندي.
ب- عند الآخرين.
ت- أماكن عامة.
ث- المكان المتناهي.
2- وقسم بروب المكان على ثلاثة أنواع هي:
أ- المكان الأصل.
ب- المكان الذي يحدث فيه الاختيار الترشيحي وهو مكان عرضي ووقتي.
ت- المكان الذي يقع فيه الإنجاز والاختيار الرئيس وقد سمّاه غريماس باللإمكان.
وتجاوزنا عددًا من تقسيمات المكان التي ذكرها(غالب هلسا وياسين النصير وشجاع العاني وغيرهم) أما بسبب تشابهها مع الأقسام السابقة أو تكرارها أو لا تخدم دراستنا هذه (أي: شعرنة المكان)، والشعرنة هي تطوير لمفهوم الجمالية كما نادى بها جاكبسون، أي سحر الوصف وجمالية اللفظ، ودقة التعبير.
وإذا جئنا إلى تقسيم بروب، فإن الشاعر الهنيدي في قصيدته المكانية، نجده يشتغل قبل كل شيء على شعرنة (المكان الأصل)، حيث الانتماء المصيري (اللذيذ المؤلم) للجذور الأولى، حيث الإحساس بالمواطنة وإحساس آخر بالزمن.. فكان.. وكان: رمزًا، وتاريخًا قديمًا وآخر معاصرًا، شرائح وقطاعات، مدنًا وقرى، وأخرى أشبه بالخيال كيانًا تتلمسه وتراه (11) حيث يشكل المكان في النص سلسلة تفاصيل جبل الجرح العربي مع هضبة الألم الأعظم ومستنقعات الجوع والحرمان لا المستنقعات الضوئية التي كتب عنها قبل أقل من نصف قرن روائي نصفه كويتي ونصفه عراقي هو الروائي الكبير اسماعيل فهد اسماعيل أقصد مستنقعاتنا الآن التي لا يرتضيها أو يقبلها إنسان ولا حيوان:
ما بالُ أقصانا يلُوك جراحَه
ويدُ الفساد تخوضُ في بغدادِ
ما بالُ أرباب السخافةِ أيقظوا
فتنَ العَداء وموجةَ الإفسادِ
رسموكَ يا رمزَ الجمالِ مشوهًا
ومدادُهم حبرٌ من الأحقادِ
رسموكَ واجترؤوا بعينِ طباعِهم
وتناولُوكَ بمنطقِ الحسَّادِ
ما زلتَ تكبُر في العيون مهابة
والحاقدونَ تسفُّهم برمادِ
الكونُ أشرقَ مذ سكنتَ مشيمة
وهفا الزمانُ لساعةِ الميلادِ?
ان المكان في السير ذاتي (للأنا أو للآخر) أحد الأركان الرئيسة التي تقوم عليها العملية السردية حدثًا، وشخصية، وزمنًا، فهو الشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته(4) ولكن هذه المركزية التي يتمتع بها المكان لا تعني تفوقًا أو رجحانًا على بقية المكونات السردية الأخرى وإنما هي ناجمة في الأساس عن الوظيفة التأطيرية والديكورية التي يؤديها المكان(12) وتميل قصائد الشاعر صالح سعيد إلى تمثيل حالات إنسانية وأخرى وجدانية خاصة، تستمد فضاءاتها من الواقع العربي المعيش أخلاقيًا وإنسانيًا ووجدانيًا من الشاعر وتنمو فنيًا باتجاه بنية الإيجاز والتركيز، وعلى الرغم من ثراء قاموسه اللغوي وخصبه وتنوعه إلا أنه يبدو شديد الاقتصاد في اللغة، وحريصًا على انتقاء مفرداته وتركيزها وشحنها بالدلالات الكبيرة والاستعارات الجميلة:
ويرى قصة إرهاب الخنازير
على أرض (جنين)
آه من أرض (جنين)
ولدت فاستبشر الوالد بالنصر
فأسماها (جنين)
كي تكون الشاهدَ الفعلي للمأساة
في أرض (جنين)
ولدت تبصر آلامًا وتقتات الأنينْ
ولدت والموت يهذي
وعلى أصواته رجف المدافع
وعلى نغماته حزن السنينْ
ويبقى الشاعر صالح هنيدي ملتصقًا بحاسة المكان، سواء كان المكان (عندي) أو (المكان الأصل)، بحيث أماكن (الآخرين) التي نمر بها ونعيش فيها قليلاً أو كثيرًا، لكنها في الواقع أماكن مؤقتة وليست أماكن (أصلية)، فهي فضاء عرضي لا يلبي حاجاتنا الإنسانية البريئة في الانتساب إلى الجذور الأولى والوطن الأول، والآخر هو الفضاء المكاني الحقيقي القادر على تشكيل ملامحنا الثقافية وأصالتنا التأريخية، وحين أدرك العلماء والفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وأخوان الصفا وأبو على المرزوقي حقيقة أن المكان جوهري وليس عرضيًا، وكشفوا مبكرًا العلاقة بين الإنسان والمكان، وبالإشارة إلى اتصال المكان بالحركة كالانتقال من مكان إلى آخر، واتصاله بالزمن بوصف الأخير سيالاً بحركة الجسم بينما غيره ثابت وغير متحرك(13)
لقد مارس الشاعر الصدق الشعري في أقواله الشعرية، عندما صدق بوصف (الأماكن الأصيلة الأصلية) أي الوطن العربي من (القدس) إلى (بغداد) بأدق جزيئات المشاعر الوصفية.
الشخصيات:
حشد الشاعر كمًا ونوعًا من الشخصيات في قصيدته هذه محاولاً بكاميرا باصرته وبصيرته الذكية تشكيل مشهد كامل للزمن المأساوي الذي تمر به أمتنا العربية الآن، وكما أَلّبَ عقولنا وضمائرنا للسفر إلى جنين ومعايشة أوجاعها وآلامها وآمالها، كذلك استطاع صالح أن يأخذ القارئ من كل شبر في الوطن العربي بسفينة الأمل إلى عباب الألم، حيث تعد الشخصية من أكثر العناصر فاعلية في بناء القصيدة كونها العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده العناصر الشكلية(14) وتتأتى أهميتها المتزايدة من قدرتها بفعل مبدعها على الكشف عن الصلات العديدة بين ملامحها الفردية، وبين المسائل الموضوعية العامة، بمعنى تمكنها من خلق فضاء واصل بين ما هو ذاتي وموضوعي، أو خاص وعام، فتبدو مشكلتها انعكاسًا لمشكلة إنسانية.
وعلى الرغم من اختلاف تعريفات الشخصية، فإن شبه إجماع من الوجهة النفسية يشير إلى أن ((الشخصية هي بناء فرضي، بمعنى أنها تجريد يشير إلى الحالة الداخلية أو البيئية للفرد)(15) ويختزل محمد عزام الشخصية في القصيدة القصة العربية إلى ثلاثة أنواع(16)
- الشخص الإيجابي: الذي يعمل من أجل تغيير المجتمع نحو الافضل(الشخص المفلس في النهاية) رغم جهوده ومحاولاته التغيير.
- الشخص السلبي: الذي يعمل من أجل تأييد السائد، واستغلال الوضع إلى أقصى حد، إنه (الشخص الفهلوي) الأناني الذي يدوس على القيم لتحقيق كموحاته الشخصية.
- الشخص الإشكالي: الذي يؤمن بقيم إيجابية في عالم منحط لكنه لا يجابه كالشخص الإيجابي ولا يخوض في فساد الواقع، كما يفعل الفهلوي، وإنما يكتفي بالرغبة بالإصلاح(17)، وفي ضوء النظر إلى الشخصية من خلال هذه النظرية يقدم ادوين موير أنماطًا من القصص، منها قصة (الحدث)، وقصة (الشخصية) والقصة (الدرامية)(18).
فـ(قصة الحدث): تصف وقائع غير مألوفة بطريقة تهدف إلى الامتاع، حيث الحبكة فيها تتماشى مع رغباتنا لا عقولنا، وكما تخطط الشخصيات في قصة الحدث بطريقة ملائمة للحبكة، فإن الحبكة في (قصة الشخصية) تهيأ لتوضح الشخصيات، أما (قصة الدراما) فإن الهوة فيها تختفي بين الشخصية والحبكة، فالسمات المعينة للشخصيات تحدد الحدث، والحدث بدوره ينمي الشخصية(19)
فالرؤية الاستقصائية:
أولاً: التي تسمى بـ(المسح التتابعي)(20) وتنهض على قيام الشاعر - القاص بإجراء عملية مسح واستقصاء لمعالم المكان الذي ستواجه الشخصية قبل كل شيء.
وهكذا عرض (الواصف - السارد) للمكان دفعة واحدة أمام القارىء من التركيز على مكان معين، لأن الرؤية هنا فوقية، مما لا يسمح له بأن يثبت غير الملامح الخارجية العامة للمكان، وهذه الطريقة تتطلب وضع آلة التصوير على محور عمودي أثناء التصوير (21) وبما يؤمن للقاص تقديم منظر شامل لهندسة الفجيعة:
الليل يشعل في
ترانيم المدى
لغة الكآبة
والأفق يرسم
لوحة للحب
متقنة الرتابة
**
ما لي أرى
وجه الجمال محطمًا؟!
كإطار صورة عاشق
ترك الكتابة
من خلال جدليات السارد مثل تقنية (الأنا الساردة بوصفها فاعلاً سرديًا نائبًا عن السارد في ميدان العملية القصصية المركز البؤري الأساس والجوهري، الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي إجراء قرائي يغامر باقتحام وبين المرئي والمتخيل، تكمن حركية النص، ومن تداخلها ينشأ فضاء مشحون بالحركة والصورة، يثير المتلقي ويستفزه للأبحار في لجج النص لمعرفة وكشف أسراره وصولاً إلى الغاية المتوخاة من كل ذلك والمتمثلة بالاستمتاع بلذة النص التي تسجل هنا مذاقًا خاصًا، نابعًا عن شعرية مغايرة تتفاعل فيها اللغة الشعرية للسرد على آليات التصوير لتثمر عن ذلك طاقات جديدة مكتسبة تستجيب لمقاصد الرؤية البصرية، وضرورات اللغة السردية على النحو الذي يتيح للمتلقي قرصة تلق مزدوجة، تنهل من جمالية التصوير ذي الرؤية البصرية المباشرة، وجمالية السرد ذي الرؤية التخيلية(22)
الرغبة) التي تنهض على تقانات العدسة السرد تصويرية، على نحو يسمح بتسيّد الصورة بكل ما تحمله من خصوصيات تشكيلية داخل فضاء السرد، تاركًا للأخير مهمة تركيب مكوناته على صعيد التأليف، ومهمة قيادة القارئ أو توجيهه داخل النص على صعيد القراءة.
وتمتاز قصص الشاعر صالح الهنيدي الشعرية باهتمامها النوعي بالتفاصيل وحساسية الحياة اليومية عبر الاحتفاء بعناصر القص التقليدية المعروفة بمسارها القائم على حضور العناصر وفي مقدمتها الحكاية، إِذ تستأثر قصصهُ الشعرية كثيرًا بعناصر الحكاية التي تعد لدى الكثير من القصاصين زينة القصة وجوهرتها، فعلى الرغم من كل أساليب التحديث والتجديد التي حظيت بها.
القصة القصيرة في السنوات الأخيرة، إلا أن الحكاية ظلت عنصرًا مغريًا وفعالاً لتحقيق أكبر قدر من التداولية لفن القصة في مجتمع المتلقي، فمثلاً هذه حكاية يومية من من حكايات الجرح العربي الذي لا يلتئم على الرغم من استنجادنا بالتاريخ والجغرافية:
أو ما قلتِ وعيناك غزاها الدمع:
ما هذي المهازل؟!
أين قومي؟!
أين صوت الحق في هذي النوازلْ؟!
أين هم؟
أين صلاح الدين؟!
أين المسلمون؟!
مالكم لا تسمعون؟
ما لكم هل تجزعون؟
وقد تنوعت دراستنا لمجموعة قصص الهنيدي الشعرية على مسارات تشتغل بين الرؤية الفنية، والتقانية المتعلقة بالأدوات، والآليات المتعلقة بحرفية وفنية كتابة القصة، والمواقف والقضايا والثيمات التي اشتغلت عليها التجربة، ومن ثم الجماليات التي حظيت بها على صعيدي التشكيل السردي والتعبير.(23)
ان الفاتحة النصية هي أهم العتبات النصية ولا سيما فيما يتعلق بالقصة الشعريةلذلك تُعد (واحدة من أهم عتبات الكتابة القصصية لم لها من دور بارز في حسم توجه القصة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها)(24):
شاعرٌ
أغسل وجه الشمس
بالشعر
فتنثال القصيدة
وتثور الآه
في صدري
وتغتال أمانيَّ البعيدة
شاعرٌ
أغزل بالحرف
تعابير السعادة
وأصوغ الحبَّ
أنهارًا وأحلامًا سعيدة
وعلى هذا الأساس تعمل الفاتحة النصية على الكشف عن مقولات القصة الشعرية والتمهيد لأحداثها فهي بذلك تكشف عن شعرية خاصة تشتغل على فاعلية التركيز الإعلامي وتبئيرها في منطقة حيوية مركزة(25)، وعلى اختزال الفاعلية الأدبية للرموز في ظلال هذه المنطقة وضخها بطاقة إشعاع كثيفة تشتغل في منطقتها وتمتد إلى الأعلى حيث عتبة العنوان (شاعر وشجن).
وإلى الأسفل حيث طبقات المتن النصي، لذلك تعد عتبة الفاتحة النصية أخطر عتبة بنائية من عتبات الكتابة، كونها تقرر مصير النص(26)، إِذ إنها المحرض الرئيس لسحب القارئ إلى منطقة النص، وتحرضنا العتبة النصية في قصة (جنين) الشعرية في هذه القصيدة للانسحاب إلى منطقة النص واستكشاف مفاصله ومفاتنه وخباياه، الفاتحة النصية لهذه القصة ليست أكثر من (قصيدة كتلة) سحبتنا باتجاه الشعر، في الوقت الذي كنا نتمنى فيه أن تسحبنا باتجاه القصة...
إن حاسة التشيئن في قصص صالح الهنيدي الشعرية من خلال أمثلته الإنسانية مرورًا بالكثير من شخصيات المجموعة المثالية في التصوير والواقع هي شخصيات عربية حقيقية يعرفها صالح من خلال وجدانه الشعري وضميره الإنساني وذكائه الفذ كما يعرف نفسه، يكفي شعره شرفًا أن يلوذ بحب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك رثائه الرمز الفسطيني الشيخ ياسين، أضف إلى ذلك ما عالج في شعره من رموز فلسطينية وعربية كان لها الأثر الكبير في إثراء قصصه الشعرية..لقد نجح الشاعر صالح سعيد الهنيدي في سرده الشعري وأبدع!
** ** **
الهوامش والمصادر والمراجع
1- القصيدة السير ذاتية واستراتيجية القراءة، د.خليل شكري هياس، : 11711
2- مرايا نرسيس: 62
3- القصيدة السير ذاتية: 153
4- قضايا الشعرية، جاكبسون: 104
5- الدلالة المرئية.
6- عضوية البناء في القصيدة الجديدة، د.محمد صابر عبيد، مجلة عمان، ع(142): 16
7- دراسات في النقد الأدبي، أحمد كمال زكي، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1980، : 133
8- شعرية المكان في الرواية الجديدة: 6
9- الشخصية الإشكالية في خطاب أحلام مستغانمي الروائي: 35
10- مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان: 81
11- الرواية والمكان، ياسين نصير: ج1، : 5
12- مقاربة الواقع في القصة المغربية القصيرة، نجيب العوفي: 149
13- م.ن: 153
14- الشخصية الإشكالية في خطاب أحلام مستغانمي الروائي: 35
15- الشخصية الإشكالية في خطاب أحلام مستغانمي: 10
16- الإنسان من هو؟: 13
17- أنظر: كتابه: البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة: 8
18- فضاء النص الروائي - مقاربة بنيوية في أدب نبيل سليمان: 86
19- بناء الرواية، ادوين موير: ت: إبراهيم الصيرفي: 67
20- الوجيز في دراسة القصة، لين أولتبنير، ت: عبد الجبار المطلبي: 132
21- قضايا الرواية الحديثة، جان ريكاردو، ت: صباح الجهيم: 128
22- شعرية طائر الضوء، محمد صابر عبيد: 45
23- السرد بالتصوير الحكائي في قصة (صور)، د.خليل شكري: 80
24- بلاغة الاستهلال القصصي، جميلة العبيدي: 39
25- توصيف الكتاب النقدي المشترك (بلاغة القص)، بقلم: د.محمد صابر عبيد: الغلاف الأخير
26- العتبات النصية في قصص كمال عبد الرحمن النعيمي، زهراء الشرابي: 9
- كمال عبدالرحمن
Kamalismaeel6@gmail.com