من المعروف أن صوت «الجرس» هو من أدوات التنبيه الفعّالة، التي تصل إلى الأسماع، متخطّيةً المسافات تبعاً لقوة الرنين، فهناك الأبواق والزمامير وما يعادلها الصادرة عن البواخر والقطارات والمركبات وسيارات الإسعاف، وهدير صفّارات الإنذار التي تحذّر المواطنين من خطر داهم أو من غارة جوّية.. هذا إلى جانب أصوات النواقيس وأجراس المدارس. فمنذ البدء كانت الإشارات الصوتية ضرورية في حياة الإنسان للتواصل وشرح المراد.
وانطلاقاً من الحاجة تدرَّج «الجرس» من الصيغة اليدوية إلى الأجراس الكهربائية وصولاً إلى تشغيله بواسطة أشعة الليزر، حتى أصبح لكل أمر في حياتنا «جَرَسْ» منها: الهاتف الثابت والجوّال، البوتاغاز أو الأفران الكهربائية.. إلخ... وكأن هناك منافسة شديدة بين «السمع» وبين «البصر» على كيفية استنفار التيقّظ وتحفيز الانتباه بواسطة الصوت الذي لا ترى «العين» مصدره!
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر فقد أثارت أطروحة جامعية حول «الأجراس» التي تُعلَّق حول رقاب الأبقار - أحد رموز سويسرا – جدلاً واسعاً في الأوساط الزراعية، وذلك على خلفية اقتراح يقول باستبدال تلك الأجراس الرنّانة، التي تدل وترشد على أماكن المواشي حين تغيب عن أعين الرعيان بأجهزة «جي. بي. إس» الإلكترونية تحدد الموقع الجغرافي للقطعان خصوصاً تلك التائهة منها، ولقد تجرأت كلية «البوليتكنيك» الفدرالية في «زوريخ» على التعرّض والمساس بتقليد فولكلوري عمره قرون في سويسرا وذلك بإلغاء تلك الأجراس التي يملأ رنينها السهول والوهاد والمرتفعات، ويضفي جواً من الإيقاعات المتفاوتة عندما يصدر صوت من هنا وصوت من هناك مع ما يتخلّل هذا الرنين من «خوار» و»ثغاء» متعدد الطبقات والنغمات ليشكِّل بمجموعه جوقةً في الهواء الطلق لشبه أوبرا أو أوبريت عمادها العجول والجواميس والأبقار والأغنام، عندما تطلق فيما بينها لغة التواصل والحوار عن طريق «الخوار»!
اعترض اللوبي الزراعي في المجلس الوطني «البرلمان» محتجّاً على إلغاء الأجراس الذي يطعن بوقاحة التراث السويسري، ويحطّم التقاليد والأعراف، إلى جانب أن تركيب جهاز «جي. بي. إس» عوضاً عن الجرس، هو فكرة سخيفة، فكيف يمكن العُثور على المواشي التائهة في مناطق لا تحظى بالتغطية من شبكة الاتصالات اللا سلكية؟ بالمقابل تَمَسَّكَ المجلس الفدرالي «الحكومة» بحرّية إجراء الأبحاث وتطوير الأجهزة التقنية وطالب البرلمان بعدم التدخل في تلك القضيةّ وكان الرد من المجلس الوطني أن ندَّد بتلك الأطروحة التي اعتبرت أن ضجيج الأجراس ووزنها يؤثّران سلباً على صحة الأبقار والمواشي عامة! وهكذا ما زال الجدال حول هذه القضية «الحيوانية» قائماً!
أعتقد بأننا أخذنا من «الجَرَسْ» صفته الأساسية وهي «الرنين» فاستعملنا كلمة «جرصة» بحرف الصاد بدلاً من حرف السين، والجرصة باللهجة المحكية هي شيوع خبر فضيحة ما برنينها الذي يصل إلى غالبية الأسماع! فقلنا: جرَّصونا وجرَّصناهم...!
هذا الأمر حَدَثَ في «سويسرا» فماذا سيكون رد فعل «نيوزيلندا» على هذا الإلغاء وعدد سكانها أربعة ملايين إنسان وتمتلك ستين مليون راس ماشية!!
أعتقد بأنه آن الأوان لأن نضع أجراساً حول رقاب بعض المتنفذين والمتسلّطين والتجّار والسياسيين حتى ننتبه إلى تجاوزاتهم وصفقاتهم وخياناتهم «سمعياً» قبل شروعهم في ارتكاب المخالفات حتى لو كانوا غائبين عن العيون ومرمى الأبصار!
- غازي قهوجي
kahwaji.ghazi@yahoo.com