د. عبد الرحيم جاموس ">
لقد فُتحت القدس في السنة الخامسة عشر للهجرة، الموافق للعام 636م في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه، وكان هذا نهاية لحكم الرومان لبلاد الشام ومن بعدها مصر وشمال إفريقيا، وعنواناً لنهوض الدولة العربية الإسلامية، دولة الخلافة الراشدة ومن بعدها، الحكم الأموي، والحكم العباسي، فالحكم العثماني، لقد كانت البلاد العربية مستباحة لحكم القوى الدولية قبل ذلك من الإغريق، والفرس، والرومان، وكانت القدس دائماً هي الهدف الأسمى لتلك القوى السائدة على مستوى العالم والإقليم، فكانت القدس هي المؤشر والبوصلة لحالة الإقليم، ومن بعد للحالة العربية والإسلامية، عندما يقوى العرب والمسلمون تكون القدس المحررة عنواناً للقوة العربية والإسلامية، وعندما تحتل القدس من قِبل القوى الأجنبية، فإنها عنوانٌ لحالة الضعف والتفكك التي تكون قد اعترت الإقليم العربي أو الإسلامي، ما يتيح للقوى الكونية المسيطرة إخضاع القدس لسيطرتها ونفوذها وحكمها، ففي القرن الحادي عشر الميلادي وهنت الدولة العباسية وتقسمت بين الولاة والسلاطين، ما أتاح للأطماع الغربية الصليبية إعادة احتلال القدس في العام 1093م، واستمر هذا الاحتلال إلى أن استعادت الأمة قواها وقدراتها في عهد الحكم الأيوبي لمصر على يد صلاح الدين الأيوبي، وجرى تحريرها إثر معركة حطين في العام 1187م، وكانت بداية انهيار الحملات الصليبية على العالم العربي وتحرير سواحل الشام ومصر وفلسطين من الحكم الصليبي الذي اكتمل على يد المماليك في عام 1238م، وباتت المنطقة تحت الحكم العربي الإسلامي المستقل، والذي انتقلت رايته للدولة العثمانية بعد انهيار الدولة العباسية، واستمرت القدس تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، حيث وقعت القدس وفلسطين تحت الاستعمار البريطاني، الذي تعهد بتنفيذ المشروع الاستعماري الصهيوني بإقامة الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، وما كان لبريطانيا أن تقدم على تنفيذ هذا المشروع الإجرامي وغرس هذا الكيان الغريب والبغيض في قلب الوطن العربي لولا حالة الضعف والتفكك التي آل إليها العرب بخاصة، والمسلمين عامة، وقد اكتملت حلقات هذا الاستهداف في العام 1948م، بإقامة دولة إسرائيل على مساحة 78% من أرض فلسطين بدون القدس، ليكتمل العدوان الإسرائيلي في حرب حزيران من عام 1967م، رغم المقاومة الفلسطينية الشديدة والعربية لإقامة الكيان الصهيوني طيلة عهد الانتداب البريطاني،إلا أنها لم تحل دون سقوط فلسطين والقدس تحت سيطرة الصنيعة الاستعمارية الغربية وإقامة (إسرائيل) في المنطقة، ومع ذلك لم يتوقف الفلسطينيون عن مواجهة هذا المشروع، بشتى الوسائل الكفاحية المسلحة والشعبية، ولم تخف دولة الكيان الصهيوني أطماعها واستهدافها للمقدسات الإسلامية في فلسطين منذ اليوم الأول لوقوع فلسطين والقدس تحت سيطرتها، وفي مقدمة ذلك استهداف المسجد الأقصى المبارك بالتدمير والتهويد، فقد قصفت القوات الإسرائيلية المسجد الأقصى بمدفعية الهاون يوم 06-06-1967م أثناء الحرب، وقد سقطت المدينة المقدسة في يوم 07-06-1967م، وفي اليوم التالي له 08-06-1967م، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بهدم وإزالة حارة المغاربة في القدس القديمة والمكونة من 135 منزلاً كان يقطن فيها أكثر من ألف نسمة، والواقعة إلى الجانب الغربي الجنوبي من سور المسجد الأقصى، وخصصت كساحة لحائط البراق (حائط المبكى) لإقامة الطقوس التوراتية بالإضافة إلى مبانٍ إدارية وسكنية للمحتل الإسرائيلي، وفي 27-06-1967م صدر قرار حكومي إسرائيلي بتوحيد مدينة القدس الشرقية مع القدس الغربية، وحلت بلدية القدس الشرقية العربية، وصادرت صلاحياتها بلدية القدس الموحدة، لتتوالى سياسة وإجراءات الاستهداف والتهويد لمدينة القدس ومقدساتها، التي تضع الميزانيات الكبيرة البلدية والحكومية والشعبية، لتنفيذ هذه الإجراءات المخالفة لقواعد القانون الدولي التي تنظم حالة الاحتلال، وفي يوم 21-08-1969م أقدم المجنَّد (مايكل روهان) على جريمته القذرة بحرق الأقصى، وتداعى العرب والمسلمون بناء على النداء الذي أطلقه المرحوم الملك فيصل، وجرى تأسيس منظمة التعاون الإسلامي بغرض اتخاذ الإجراءات الحمائية والرادعة للاحتلال عن مواصلة خططه في تهويد القدس، وتدمير المقدسات الإسلامية فيها، ولكن هيهات أن يذعن الاحتلال لذلك، فقد تواصلت سياسته الإجرامية دون حسيب أو رقيب، سوى من هبات الفلسطينيين والمقدسيين، لمواجهة تلك السياسات، كما بدأت سلطات الاحتلال بحفر الأنفاق أسفل المسجد الأقصى بحجة البحث عن أساسات الهيكل المزعوم، حيث اكتشف حفر نفق في شهر 08-1981م، وفي نفس الوقت اتخذت حكومة الكيان الصهيوني قراراً بضم القدس الشرقية رسمياً وفرض الهوية الإسرائيلية على المقدسيين، وفي شهر 04-1982م أقدم المستوطن (هاري جولمان) على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى، فقتل اثنين وجرح ستة مصلين، وفسنة 1996م أعلن فتح الأنفاق أسفل المسجد الأقصى للسياح، وقامت جماعة أمناء الهيكل وتحت حراسة الشرطة الإسرائيلية، باقتحام ساحات المسجد الأقصى مما أدى إلى حدوث مواجهات أسفرت عن استشهاد 62 فلسطينياً وجرح المئات، وفي 11-03-1997م أصدر المستشار القضائي الصهيوني قراراً يسمح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى، وفي 28-05-1997م طالب عددٌ من الحاخامات بتقسيم المسجد الأقصى وحثوا أتباعهم للصلاة فيه وفي 02-12-1999م أصدر رئيس بلدية القدس أمراً بمنع الترميم في المصلى المرواني، وفي 28-09-2000م وتحت حراسة 3000 جندي قام المجرم آرائيل شارون باقتحام الأقصى، وفي اليوم التالي 29-09-2000م ارتكبت مجزرة بحق المصلين راح ضحيتها العشرات بين شهيد وجريح، لتنطلق انتفاضة الأقصى التي قدم خلالها الشعب الفلسطيني أكثر من خمسة آلاف شهيد، وعشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين، وكل ذلك لم يثن الكيان الصهيوني عن سياساته وإجراءاته، التي تستهدف القدس، مقدسات وسكاناَ، ولتتوالى الاقتحامات للمسجد الأقصى من قِبل المستوطنين، والجماعات المتطرفة وتتكرر أفعالها بشكل شبه يومي، ويتصدى لهم حراس الأقصى والمصلون، بالإضافة إلى فرض سلسلة من القيود على المسلمين لأداء صلاتهم في المسجد الأقصى، ليتوّج اليوم.. وفي هذه الفترة استعار الإجراءات الإسرائيلية والاقتحامات للمسجد الأقصى، بهدف التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بين اليهود والمسلمين، كمقدمة لهدمه، وتدميره، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، هذا عدا عن الإجراءات التي تستهدف الإنسان الفلسطيني، وتضييق سبل العيش والإقامة له في المدينة المقدسة، وتواصل وتيرة الاستيطان اليهودي داخل القدس وفي محيطها، وعزلها عن محيطها الفلسطيني، وإقامة الجدار العازل حولها، كل هذه الإجراءات المتواصلة والمتصاعدة تؤدي إلى نتيجة واحدة هي أن القدس مستهدفة سكاناً ومقدسات لتهويدها وإخراجها من أية تسويات سياسية يجري الحديث عنها، غير آبهة بردّات الفعل العربية والإسلامية والدولية الخجولة، التي ليست على مستوى الحدث ورد الفعل المطلوب إلى غاية الآن، والتي لم تتجاوز مثلث (الشجب والإدانة والاستنكار) وإذا لم تنتقل ردة الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية إلى ساحة المواجهة الفعلية، وساحة الفعل الحقيقي، فإن سلطات الاحتلال سوف تستمر في مواصلة خططها الرامية إلى تدمير المقدسات الإسلامية وفي مقدمتها المسجد الأقصى، واقتلاع السكاالعرب وإفقادها هويتها العربية والإسلامية، حتى يتسنى لها تشييد رموز توراتية مكانها لتدعم بها أساطيرها، التي تقول بوجود هيكل سليمان مكان أو أسفل الأقصى، وإن فلسطين أرض الميعاد تتوفر على مقدسات يهودية في تلك الأرض المقدسة، علماً أن كافة الأبحاث التاريخية الموضوعية وأعمال التنقيب التي قامت بها سلطات الاحتلال نفسها، لم تثبت أياً من هذه الادعاءات الباطلة، والمزوّرة للتاريخ وللواقع.
إن المسألة اليوم قد وصلت مرحلة الخطر، ومرحلة الحسم، ففي ظل انشغال العرب بالحروب والصراعات والنزاعات التي فجَّرها (الربيع العربي) تجد إسرائيل الفرصة السانحة لإكمال مخططاتها، فلا بد أن يدرك العرب والمسلمون أن المأساة تتعمَّق وتتجذَّر يوماً بعد يوم، ما لم يقدموا على خطوات عملية فاعلة ورادعة للكيان الصهيوني، لوقف مسلسل إجراءاته الجهنمية، بداية من الدول التي ترتبط باتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني مثل مصر والأردن، وبقية الدول التي تقيم معه علاقات تمثيل علنية أو سرية، واتخاذ سلسلة من الإجراءات العملية تتجاوز بيانات الشجب والاستنكار والإدانة، بدءاً من إعادة تفعيل المقاطعة العربية من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، ودعم الشعب الفلسطيني وتثبيته في القدس بخاصة وفي فلسطين عامة، ومواصلة الحصار السياسي والدبلوماسي لحكومة الكيان الصهيوني والعمل على عزلها سياسياً، واقتصادياً، على الساحة الدولية كي تكف وتتوقف عن هذه السياسات والإجراءات، وتسلم بضرورة تنفيذ الشرعية الدولية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبشأن المقدسات الإسلامية والمسيحية، وإنهاء سياسة تغيير المعالم العربية والإسلامية وتغيير التركيب الديمغرافي للقدس والأراضي المحتلة، وهنا يتأكد ضرورة التوجه للأمم المتحدة لاتخاذ إجراءاتها اللازمة بشأن إنهاء الاحتلال، بإصدار قرارات ملزمة من مجلس الأمن، وفق البند السابع، وبدون ذلك فإن الفلسطينيين لن ينتظروا كثيراً، وسيُفاجئون الاحتلال ومعه العرب والمسلمين والعالم، بوقف وإنهاء سياسة التسويف والانتظار للجهود الدولية أن تؤتي أكلها، لأن القدس ومقدساتها هي جزء من العقيدة، والمسّ بها أمر جلل وخطير، لن يسكت عنه أحد، وسيشعل حينها حرباً دينية مقدسة لن تكون ساعتها تحت السيطرة، وسيتطاير شررها ليصيب الجميع. إن ما تقوم به سلطات الاحتلال من ممارسات واستهداف للمقدسات يمثّل اعتداء على التراث الإنساني، وجرائم حرب يجب أن تتوقف فوراً، وأن يُعاقب الاحتلال عليها أمام المحاكم الدولية، وعلى الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المختصة القيام بدورها في حماية هذا التراث الإنساني، وفرض الحماية الدولية للمقدسات الإسلامية والمسيحية على السواء، وللشعب الفلسطيني، من إجراءات وبطش الاحتلال بهم حتى يتم إنهاؤه وزواله، ويتمكَّن الفلسطينيون من ممارسة حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.