الملك خالد بن عبدالعزيز شخصيته ومنهجه في الحكم والإدارة ">
تولى الملك خالد بن عبد العزيز أعباء الحكم سبع سنوات شهدت تنفيذ الخطة الخمسية الثانية وبداية الخطة الخمسية الثالثة، حققت المملكة في هذه الفترة منجزات تنموية مذهلة غيّرت وجه الحياة، هذه الثورة التنموية حولت المملكة من مجتمع الأغلبية الفقيرة إلى مجتمع تمثل الطبقة الوسطى أغلبيته، وشهدت المنطقة العربية في هذه الفترة أحداثا جساما منها ما مضى بخيره وشره، ومنها ما لا تزال آثاره معنا حتى الآن، عبر هذه التطورات الهائلة في الداخل والخارج ظل الملك خالد في الداخل والخارج يمثل بملامحه الرضية وابتسامته المشرقة الرمز القريب إلى القلوب، الرمز الإسلامي، الرمز العربي، الرمز الإِنساني، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام الذي اتخذه منهجا ودستورا، وعن المسلمين الذين أحبهم وأحبوه، خير الجزاء.. بهذه الكلمات العطرة يوجز الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - رأيه بالراحل عاطر الذكر، وذلكم بكتابه (الملك خالد بن عبد العزيز شخصيته ومنهجه في الحكم والإدارة) الذي نشره موقع الملك خالد الالكتروني، وهنا قبسات من أقوال القصيبي عن الملك خالد.
اهتمامه بالضعفاء
في أول اجتماع لمجلس الوزراء بتشكيلته الجديدة سنة 1395هـ (1975م) كان الملك خالد - رحمه الله - يرأس الجلسة، لا أزال حتى اليوم أذكر بوضوح العبارة التي استهل بها حديثه إلى الوزراء الجدد: (اهتموا بالضعفاء، أما الأقوياء فهم قادرون على الاهتمام بأنفسهم)، هذه العبارة الموجزة تصلح في رأيي مفتاحا يمكننا من الدخول إلى عالم خالد بن عبد العزيز الإِنسان، وخالد بن عبد العزيز الملك.
صراحة العبارة تعكس الصراحة النادرة التي كانت تميز خالدا الإِنسان، كان لا يكره شيئا بقدر ما يكره الإجابات الملتوية، وكان لا يرتاح إلى إِنسان يعتقد أنه يظهر غير ما يبطن، كم كنت أشعر بالرثاء للذين كانوا يعتقدون أنهم عن طريق المجاملة والتزلف يقتربون منه، لم يكونوا يضيعون أوقاتهم فحسب، بل كانوا يوجدون لديه انطباعا أبعد ما يكون عن الانطباع الذي أرادوا إيجاده، وبساطة العبارة تدل على العفوية الأسرية التي لمسها كل من تعامل مع خالد الإِنسان، كان أبعد الناس عن التكلف والتصنع، وكان المتكلفون والمتصنعون بفئاتهم وأنواعهم، أبعد الناس عن قلبه، كان يكن نفورا شديدا من المغرورين، إذا قال عن أحد إنه (نافخ روحه) كان لك أن تستنتج أنه لا يكن لهذا الشخص أي احترام.
والعبارة الموجزة ذاتها تظهر لنا بجلاء فلسفة خالد الإِنسان، أهم مسؤوليات الحاكم على الإطلاق، إقامة العدالة وإنصاف المظلوم، نستطيع بلا عناء تفهم كل تصرفاته في الفترة التي مارس خلالها أعباء الحكم، كان حريصا على أن يلتقي بالمواطنين كل يوم، وأن يستمع بنفسه إلى شكاواهم، حتى عندما وهنت صحته في العامين الأخيرين من حياته، وتعذر اللقاء اليومي أصر على تخصيص يوم في الأسبوع لمقابلة الناس، رأيته أكثر من مرة يوقف السيارة عند مدخل الديوان، ليأخذ بيده رسالة من امرأة واقفة عند المدخل. أخبرني مرة أن قصره يمتلئ، كل ليلة بالنساء المراجعات وأنه يحرص على قراءة كل عريضة بنفسه، في المرات القليلة التي رأيته فيها غاضبا، كان سبب الغضب هو شعوره أن مظلمة وقعت على أحد.
قضايا العرب والمسلمين
هذا الحس العميق بالعدالة يمكننا من فهم كل القرارات التي اتخذها في الخارج والداخل، كانت مناصرته للفلسطينيين تنبع من اعتقاد راسخ بأن ظلما فادحا وقع بهم، ظلما يتعين عليه أن يبذل كل جهده لإزالته، وكان موقفه من قضية أفغانستان ينبع من نفس المنطق: لا بد من دعم شعب مظلوم اجتيحت أرضه بغيا وعدوانا، والنظرة نفسها كانت تحكم موقفه من كشمير، لم تكن هناك حسابات ربح وخسارة في موقفه من القضايا الإسلامية، كان أي حيف يقع بالمسلمين في أي مكان من العالم يمس مشاعره على نحو لا يمكن لمن لم يشاهده أن يتصوره، كثيرا ما رأيت الدموع تترقرق في عينيه وهو يسمع إلى أنباء كارثة ألمت بالمسلمين في هذا الصقع أو ذاك.
لا أبالغ إذا قلت: إنه لم يكن هناك فرق يذكر، في نظره بين المواطنين وبقية المسلمين: السعوديون مسلمون، والمسلمون يجب أن يعاملوا معاملة السعوديين، لم أر الملك خالد سعيدا كما رأيته يوم انعقدت القمة الإسلامية برعايته في مكة المكرمة، ولم أره شقيا كما رأيته يوم احتلت مجموعة من الغلاة الحرم المكي الشريف، لم يكن للسياسة بمعناها التقليدي أي علاقة بالفرح أو بالتعاسة، كانت سعادته نابعة من شعور المسلم الفطري بالفرح، وهو يرى شمل المسلمين يلتئم وكأن ألمه نابع من نفور المسلم الفطري من أي عمل ينتهك حرمة المسجد الحرام.
الإسلام في نظر الملك خالد يمثل نقطة البداية ونقطة النهاية، كان يؤمن إيمانا راسخا بأن الدولة السعودية تستمد شرعيتها من الإسلام، وتستمدها من الإسلام وحده، وكان يعتقد أن هذه الشرعية ستبقى ما بقيت الدولة متمسكة بالإسلام، وأذكر في هذا الصدد حوارا دار بينه وبين جلالة إمبراطور اليابان (آنذاك)، وكان وقتها وليا للعهد يزور المملكة زيارة رسمية، قال ولي عهد اليابان: أرجو أن يحدثني جلالتكم عن تاريخ أسرتكم المقدسة، ورد الملك خالد على الفور: (أسرتي ليست مقدسة، أسرتي لا تختلف عن بقية الأسر، وقد أعزها الله عندما تبنت دعوة الإسلام)، وأذكر حوارا مماثلا بينه وبين الرئيس الفرنسي ديستان الذي سأله عن تاريخ المملكة السياسي؟ قال الملك: (لم نحقق شيئا بالسياسة، كل ما تحقق بفضل الإسلام، بدون الإسلام نحن لا شيء).
هذا الحرص على الشريعة الإسلامية يقودنا إلى فهم الأولوية الكبيرة التي كان يعلقها على موضوع الأمن: لا يمكن للاستقرار أن يدوم إلا إذا أمن الضعفاء شر الأشرار، كان يتابع شخصيا أخبار كل جناية قتل ترتكب، ولا يهدأ له بال إلا إذا عرف أن المجرمين قد تم القبض عليهم، لم أره يثور في وجه مراجعين إلا مرة واحدة: كان المراجعون يطلبون منه العفو عن مجرم أدانته المحكمة، كان الملك خالد بطبعه رجلا عطوفا رحيما إلا أن إنفاذ الحدود الشرعية كان عنده فريضة دينية تعلو على أي اعتبار آخر.
حسه العروبي
وإذا كان الحس الإسلامي يمثل المنطلق الأساسي لقرارات الملك خالد الخارجية والداخلية، فإنَّ العروبة كانت بالنسبة له جزءا لا يتجزأ من وجوده، شيئا لصيقا بالهوية لا يحتاج إلى تنظير أو تفسير أو تبرير، لم تكن نظرته إلى العروبة تختلف عن نظرة القائد الموحد جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله.
يروي أمين الريحاني أنه كان يكلم الملك عبد العزيز عن العرب، عندما كرر الريحاني كلمة العرب قاطعه الملك عبد العزيز: (العرب؟ حنا العرب)! في لقاء للملك خالد مع مسؤول عربي أخذ هذا المسؤول يتحدث عن الواجبات القومية العربية على نحو كاد يتخذ شكل المحاضرة، قاطعه الملك خالد وقال: (نحن لا نحتاج إلى دروس في العروبة من أحد، نحن العرب الحقيقيون).
فلسفة إدارية واضحة
وإذا كانت للملك خالد كما رأينا فلسفة واضحة للحكم، جوهرها الانتصاف للمظلوم، فقد كانت له فلسفة إدارية واضحة مدارها التفويض وتجنب الدخول في الجزئيات، بمجرد توليه الملك أصدر أمرا فوض بموجبه ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز بإدارة كل شؤون الدولة، كانت العلاقة بين الملك وولي العهد نموذجية مشوبة بكثير من الحب والاحترام المتبادلين، كان ولي العهد حريصا على ألا يتم شيء ذو بال إلا بعلم الملك وموافقته، وكان حريصا على أن ينسب إلى الملك وحده الفضل في كل إنجاز تنموي يتحقق، وكان في الوقت نفسه يسعى إلى تجنيب الملك أعباء الإدارة اليومية، من جانبه لم يتخذ الملك أي قرار مهم إلا بعد استشارة ولي العهد.
كانت توجيهات الأمير فهد للوزراء واضحة: أبلغوا الملك بكل الأمور الأساسية، ولكن لا تثقلوا عليه بالتفاصيل، وكان الملك خالد بطبعه لا يميل إلى التعامل مع قرارات يومية، خصوصا عندما تكون ذات طبيعة فنية، كان يردد دائما: (الوزراء أدرى بعملهم) خلال اجتماعه مع رؤساء الدول الأجنبية ضيفا أو مضيفا، كان يتجنب اتخاذ قرارات فورية في أي موضوع يطرح للبحث، كان يقول: (ليجتمع الوزراء المعنيون أولا، ثم نرى ما ينتهون إليه).
كان للبيروقراطيين نصيب وافر من تعليقات الملك خالد العفوية الصريحة؛ قال مرة: (الوزراء يرفضون على الفور أي دعوة تجيئهم من الحبشة أو الصومال أو بنجلاديش، أما إذا وصلت الدعوة من أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا فما أسرع ما يبرقون مقترحين قبول الدعوة)، وقال مرة: (المسؤولون يرددون في كل مناسبة: تعبنا من العمل ونريد الراحة، حتى إذا أعفي الواحد منهم من منصبه أنّ أنين الناقة التي فقدت صغارها).
وكثيرا ما سمعته يتندر من العقلية البيروقراطية التي تصر أن تكتب (سري جدا) على أشياء أبعد ما تكون عن السرية، قال مرة: (لم أر أعجب من هؤلاء الناس، يجمعون أشياء سبق أن نشرت في الصحف وأذيعت من الإذاعات ويعدّونها أسرارا).
ولم أخل أنا من نصيبي من هذه التعليقات، في بداية تكليفي بوزارة الصناعة والكهرباء أدليت بتصريح قلت فيه: إن إصلاح الخدمات الكهربائية على نحو جذري شامل يحتاج إلى مدة زمنية لا تقل عن خمس سنوات، عندما رأيت الملك بادرني: (أعرف الهدف الحقيقي من التصريح، تريد أن تضمن لنفسك خمس سنوات في الوزارة).
هذا البعد عن القرارات اليومية لم يكن يقطعه إلا شعوره بأن (الضعفاء) الذين كان يُعدُّ نفسه نصيرهم الأول، في حاجة إلى تدخله، في هذه الحالات وحدها كان يحرص على أن يتلقى من الوزير المعني كل التفاصيل، وكانت هذه الحالات في مجملها تتعلق بحقوق من نوع أو آخر في ذمة الدولة للمواطنين، سواء كانت معونات أو قروضا أو تعويضات، كان إيصال الخدمات العامة إلى المناطق النائية المحرومة منها أمرا من الأمور التي تستأثر باهتمامه، كان سروره بالغا عندما يخبره الوزير المختص بأن الهاتف وصل إلى تلك القرية، أو أن الكهرباء دخلت هذه الهجرة، أو أن مستشفي افتتح في هذه المدينة.
الذين عرفوا خالد بن عبد العزيز قبل الملك وعرفوه بعده يجمعون على أنه لم يتغير بعد الملك على الإطلاق، ويجمعون على أنه تغير بعده تغيرا كبيرا، هذه الإشكالية تتضح عندما نذكر أن الإِنسان لم يتغير قيد شعرة، إلا أن الملك ألقى على كاهل الإِنسان مسؤوليات ضخمة تقبلها بجدية مطلقة، لم يتغير شيء في الإِنسان العفوي البسيط الصريح المتواضع، إلا أن هذا الإِنسان تقبل أعباء الملك الكثيرة، وتقبلها على علاتها.
الرجل الذي لم يقم بزيارة رسمية واحدة خلال عقد من الزمان تولى أثناءه ولاية العهد وجد نفسه بعد الملك مشغولا بزيارة رسمية بعد أخرى، ضيفا ومضيفا، الرجل الذي كان قليل الجلد على الأوراق والتقارير وجد نفسه بعد الملك يقضي الكثير من الوقت مع الأوراق والتقارير، الرجل الذي لم تستهوه المباحثات والمفاوضات وجد نفسه بعد الملك في غمار المباحثات والمفاوضات، حتى عندما أخذت صحته تتدهور ظل حريصا على أن يقوم بكل الواجبات الرسمية التي يفرضها منصب رئيس الدولة، سمعته مرة يقول: (لا ينبغي لإِنسان عاقل أن يطلب الحكم، ولا ينبغي لإِنسان عاقل يجيئه الحكم أن يفرط في تبعاته).
كان خلال قيامه بالواجبات الرسمية حريصا على أن يقوم بها على نحو لا يزعج الآخرين (الناس) حسب تعبيره، كان قبل كل زيارة رسمية يقوم بها يطلب من المراسم الملكية أن ترتبها على نحو يتلاءم مع ظروف المضيفين قبل ظروفه هو، وكان عندما يعود إلى المملكة يحرص على العودة في وقت يريح (الناس) المستقبلين، حتى إذا تطلب هذا موعدا غير مريح للإقلاع.
مواقف من الذاكرة
اقتضت ظروف العمل الوزاري ومتطلباته أن أحتك بالملك خالد احتكاكا يوميا على مدى سبع سنوات، إلا أنني عند ما أفكر فيه الآن، بعد مرور هذه السنين على وفاته، لا أفكر في العمل وظروفه ومتطلباته، أجد أفكاري كلها منصبة على تلك اللمسات الإِنسانية الثرية التي لاحظها كل من تعامل شخصيا مع الملك خالد، هذه اللمسات التي جعلت منه رجلا يسهل على من يراه أن يحبه، ويصعب إن لم يستحل أن يكرهه.
كان من المقرر أن أرافق الملك خالد في زيارة رسمية إلى دول الخليج إلا أن إرادة الله شاءت أن يموت أبي، رحمه الله، قبل بدء الزيارة، بدلا من مرافقة الملك إلى الكويت التي استهل بها الزيارة اضطررت إلى السفر مباشرة إلى البحرين، حيث توفي أبي لحضور الدفن والعزاء، كنت في مطار البحرين ضمن مستقبلي الملك القادم من الكويت، رغم الازدحام والمراسم كان عزاؤه أكثر من مؤثر. قال: (كنت أعد مفاجأة، كنت أنوي الانتقال من المطار إلى بيت والدك مباشرة، كنت أنوي أن أزوره قبل أي عمل آخر أقوم به في البحرين، ولكن لا راد لقضاء الله).
تركت لفتة الوفاء الحانية هذه نحو أبي في نفسي أثرا لا يمحى على الأيام، من ناحية أخرى كان تعامله الأبوي مع ابني سهيل تجربة لا تنسى، أصر سهيل وكان وقتها في الثامنة على أن أصطحبه لزيارة الملك، كان الملك في جدة، وذهبت إليه في قصره أهنئه بالعيد، وأخذت سهيلًا معي، كان الملك خالد يحب الأطفال حبا جما ويعرف كيف يتعامل معهم، كان يقص علينا كل يوم قصة طريفة جديدة عن أحفاده، عندما سلم عليه سهيل قبَّله ثم تجاهله نهائيا بضع دقائق، عندما شعر أن سهيلًا تمكن من استرداد روعه والشعور بالاطمئنان بدأ يحاوره عن المدرسة والدروس، ثم قال له: (ماذا تريد أن تشرب)؟ قال سهيل على الفور: (بيبسي)! كنا في الصباح، وسأله الملك: (ألا تريد شايا)؟ قال سهيل: (لا)، عاد الملك يسأل: (ألا تحب الشاي)؟ ورد سهيل: أحب الشاي ولكني أريد بيبسي الآن)، أمر الملك خالد بإحضار البيبسي، سرعان ما تبيّن أن القصر يحتوي على عدة أنواع من المرطبات ليس من بينها البيبسي، عاد الملك يسأل سهيلًا: (هل تريد سفن أب)؟ ورد سهيل: (أريد بيبسي)! سأله الملك: (ألا تريد عصير البرتقال)؟ وأجاب سهيل: (أريد بيبسي)، فشلت كل نظراتي وحركاتي في جعل سهيل يغيّر موقفه، ضحك الملك وأمر بإحضار البيبسي من خارج القصر، ذهبت سيارة وعادت بعد حين بالبيبسي من صندقة في الحي، كان سرور الملك بحضور البيبسي أعظم بكثير من سرور ضيفه الصَّغير، عندما غادرنا القصر كنت أوشك أن أوبخ سهيلا عندما تذكرت الحكمة التي تقول: (لا تكن ملكيا أكثر من الملك)، لم يشعر الملك بأي حرج، حقيقة الأمر أنه كان معجبا بثبات ضيفه الصَّغير على موقفه، فلا مبرر لأن أشعر أنا بالحرج.
ذات يوم، في مجلس الملك خالد بالرياض، تطرق الحديث إلى الضب، قلت: (لا أعرف كيف يستطيع أحد أن يأكل حيوانا ينتمي إلى فصيلة الزواحف ولا يكاد شكله يختلف عن التمساح)، استمع الملك باستغراب ولم يقل شيئا، بعد هذه الحادثة بعدة أسابيع كنت أزوره في مخيمه وهو في المقناص، على مائدة العشاء وجدت أمامي طبقا حرص الملك على أن أتذوقه، كان الطعام الذي يحتويه الطبق لذيذا وسرعان ما أتيت عليه، سألني الملك: (هل أعجبك)؟ قلت: (جدا)، قال: (هل تعرف ما هو)؟ قلت: (طعام بحري، أعتقد أنه لوبستر)، ضحك الملك وقال: (لوبستر في البر؟! هذا لحم الضب الذي يشبه التمساح، والذي كنت تستغرب كيف يمكن لأحد أن يأكله).
بعدها كنت أرجو الملك قبل كل زيارة أن يكون طبق الضب ضمن أطباق المائدة، في النهاية قال لي: (ليتني لم أدلك على لحم الضب، أنت تتمتع به وأنا أعاني في الحصول عليه من أجلك)، أهم من الوجبات اللذيذة كان الدرس الذي لا ينسى: لا تذم شيئا تجهله.
لم يكن الملك خالد يشعر بالسعادة الحقيقية إلا أثناء المقناص، في أعماق الصحراء بعيدا عن الهموم والرسميات، كان يصحو قبيل الفجر، ويقطع النهار كله في القنص، ولا يعود إلا مع الغروب، كان يقطع في اليوم الواحد أحيانا أكثر من مائتي كيلو متر، في مناطق صعبة مليئة بالتلال والرمال، ومع ذلك لم يكن يحس بأي عناء، في الخيم ونيران الموقد تبدد برد الليل، وفناجين القهوة تدار، كان خالد الإِنسان ينطلق على سجيته مع إخوانه وخاصته في مسامرات رائعة لا يمكن لمن حضرها أن ينساها مهما امتد به العمر.
والحديث عن المقناص يقودني إلى الحديث عن هوايات الملك الأخرى؛ الهوايات، دون قصد منه أو تخطيط إلى نتائج تنموية غاية في الإيجابية، الناس هكذا في كل زمان ومكان على دين ملوكهم، وسرعان ما أصبحت هوايات الملك هوايات مجموعة متزايدة من المواطنين، اهتمام الملك بتربية الإبل أدَّى إلى انتشار اقتناء الإبل في كل مكان، ولعه بالخيل سرعان ما جعل من الفروسية هواية الكثيرين المفضلة، اهتمامه بالزراعة وبالنخيل بالذات حول أعدادا كبيرة من الناس إلى مزارعين، والجهود التي بذلها لجمع قطيع من المهاة العربية المنقرضة، الوضيحي، كانت نواة الجهد المنظم الذي بدأته الدولة لحماية الحياة الفطرية.