الهنوف صالح الدغيشم ">
أعلنت وزارة الداخلية قبل عدة أيام عن قبضها على خلية إرهابية؛ بحوزتها أموال وذخائر وأسلحة. ولطالما كانت وزارة الداخلية تبذل مجهودًا يُقدر لها في سرعة تتبع الخلايا الإرهابية ومباغتتها. فخلال السنوات التي مضت، واجهت بلادنا أعمالاً إرهابية، وكان لها الدور الكبير في الحفاظ على الأمن بخطوات استباقية حاسمة.
إن هذا الدور الكبير الذي بذلته وزارة الداخلية وما زالت تبذله، هو دور أمني عملياتي بحت. لكن الغاية النهائية لا بد تجعلنا نفكر ونبحث عن حلول جذرية تتقصى الظاهرة لمعالجتها على المدى الطويل، الذي قد يستغرق بضع سنوات. حين نتتبع منفذي ومنتمي الخلايا الإرهابية في السنوات الماضية، نلاحظ أن معظمهم أبناء هذا الوطن، وقد ولدوا في عوائل وقبائل طالما كانت متشبثة بالمنافحة عن لحمة الوطن واستقراره وأمنه، واللافت أنهم صغار في السن؛ تراوح أعمارهم ما بين الـ15 وبداية العشرينات.
فكم هو مؤلم أن نرى أطفالنا ينسلخون منّا على حين غفلة، فيصبحون مصدر تهديد لسلامتنا وأمننا ووطننا.. فكم من أسرة فوجئت بابنها المراهق ينكشف انتماؤه لخلية إرهابية؟ ويا له من ألم..!!
علينا أن نعرف ما وراء هذه الحالات الإرهابية؟ ولماذا تباغتنا؟ ما هي الظروف الاجتماعية التي تحوّل صبيًا إلى إرهابي في بلده ووطنه وضد أهله؟
إنّ هذه الأفكار الإرهابية لم تنبت داخل عقول هؤلاء الشباب كفطر، إنها ليست وليدة اللحظة، بل إن الإرهابي يمر بسنوات حتى تنضج أفكاره، وتقوده إلى الطاعة العمياء، لتنظيم أو خلية تسيره وتوجهه، ثم يتحول إلى أداة عملية قابلة للتنفيذ.
لذلك نسأل.. ما هو دور المجتمع والتعليم والمؤسسات الحكومية والوزارات الأخرى في القضاء على الإرهاب فكريًا من جذوره، قبل أن يتحول لحالة أمنية نرتضي التعايش معها فلا تدهشنا؟
فمنذ نجاح وزارة الداخلية في القضاء على خلايا القاعدة، وانقضاء التفجيرات التي قامت بها في مناطق عدة، وانحسار وهجها لدى بعض الشباب المتحمس، كان الظن الشائع أنها مرحلة تجاوزناها حتى رأينا بروز داعش، التي يسعى المجتمع وأجهزة الدولة وعلى رأسها وزارة الداخلية لمنع تمددها، حتى لنظن كل مرة أن هذه آخر خلية إرهابية تظهر لنا، ولكن كل مرة يتولد إرهاب بديل، يتفق مع ما سبقه، فمن أين يتولد؟ أليس من داخلنا؟ في مجتمعنا؟ ومن بين صغارنا؟ نعم؛ نستطيع القول إن شياطين الأنس اجتالتهم ونريح رؤوسنا من البحث والتمحيص، ولكن أليس هم استجابوا من منطلق موروثنا الثقافي؟
كيف لنا أن نستبدل السؤال بكيف نقضي على الإرهاب أمنيًا؟ إلى كيف نمنع، بداية، تكونه فكريًا؟
إنّ مواجهة الإرهاب فكريًا، هو دور كل فرد من هذا المجتمع، فلا بد من دور إيجابي نشط لكل متعلمة ومتعلم وخصوصًا النخبة المثقفة، أن الفراغ الذي يحيط بشبابنا منذ مغادرتهم سن الطفولة، هو الذي يسهل على جهات خارجية استدراجهم باستخدام موروثونا الديني والثقافي بصورة مشوّهة، ليتحولوا في سنين مراهقتهم إلى قنبلة موقوتة، تنتظر اللحظة القاتلة.
علينا بداية أن نتيح مجالات لنشاطات متنوعة، ليس بالضرورة أن ترضي الجميع. نتخلص من الإطار الذي هو أضيق من المسموح عرفًا ودينًا، ونزيح الوصاية علينا أو على الآخرين، التي يمارسها بعضنا، من الأحكام الجاهزة الشائعة وغير المقننة، من استخدام أحكام مفترض أنها أحكام دينية محسومة وقد لا تكون كذلك دومًا. لا بد من تعاون بين وزارة التعليم، ووزارة الثقافة والإعلام، بدعم من مؤسسات وجمعيات، لوضع برامج تعليمية بطريقة اجتماعية ترفيهية وثقافية، لتوسعة مدارك أطفالنا ورفع وتنويع إحساسهم وأذواقهم، وزرع حب الحياة داخلهم.
إن وجود معاهد أو مراكز تنموية ثقافية مفتوحة داخل كل حي، ليحتوي طاقات صغارنا خارج وقت الدراسة، وفي الإجازات، في أوقاتهم الحرة، لصقل شخصياتهم وبناء مواهبهم، بعيدًا عن الدراسة المنتظمة بشكلها الصارم، تحبب لهم القراءة في كتب ثقافية متنوعة، في الأدب والشعر، وتتيح تنمية مواهبهم في الفنون بأنواعها كالرسم والموسيقى. أندية رياضية ومسابح، توجههم نحو العناية بالصحة والرشاقة، وتنتظم فيها مسابقات مكشوفة داخل كل حي بعيدًا عن الاستراحات المغلقة التي لا أحد يعلم عن كل مقاصدها.
لاحظت، أثناء حياتي في ألمانيا، وجود مراكز رعاية تربوية مختصة، تقوم بعدة أدوار كالمتابعة عن كثب لحالات عنف بعض الأطفال والناشئين التي تبلغ عنها المدارس، فتجري دراستها ومعالجتها بالمتابعة مع المدرسة والأسرة، كما أنهم يقدمون دعمًا دراسيًا للأسر المحتاجة لمساعدة تربوية من خلال الزيارات وتقديم إرشادات تربوية للأهل، ومن أعمالهم المهمة مسارح متنقلة بين الأحياء يشارك فيها الأطفال والناشئة تمتص طاقاتهم، وتحسن مستواهم من خلال الترفيه، وتشجع على الرسم والتلوين الحر، والحركة والألعاب والمرح والموسيقى.
حين نربي طفلاً بطريقة سوية تفسح أمامه مجالات إبداع ونشاطات متنوعة، دون مبالغة في احترازات ثقافية غير متجددة، فإننا سنحصد شابًا لديه الكثير من الفرص والميول المختلفة، فيسير في طريق المتعلم الدؤوب على عمله، المحب لأهله الحادب على والديه والمخلص في ولائه لوطنه.
- طبيبة أسنان مبتعثة في ألمانيا