د. عبدالرحمن بن خلف العبود ">
علم إدارة الحشود أو التجمعات البشرية برز حديثا كعلم مستقل بذاته له مفاهيمه وأطروحاته وأساليبه، وقد اهتمت الدول المتقدمة بهذا العلم لحاجة الناس إليه، فكل دولة تؤسس لهذا العلم من منظورها في التعامل مع الحشود البشرية، سواء تلك الحشود التي تفد إليها عبر برامج دولية مثل إقامة المعارض الدولية، أو الفعاليات الرياضية العالمية التي تستقطب الملايين من الناس في فترة محددة ومكان محدد، وكيفية التعامل مع تلك الحشود في إسكانها وتنقلاتها وتقديم الخدمات الصحية لها، وكيفية التعامل معها في حال الشغب!!.
لكن لدينا نحن -المسلمين- أنموذجا عظيما يتكرر كل سنة في موسم الحج يمكن أن ٌيضاف لهذا العلم، بل يؤسس مبادئ وقيم ونظريات في إدارة الحشود البشرية، وقد أكدت خبيرة الأمم المتحدة الدكتورة:
سلا يانويا، في كلمة لها في المؤتمر الدولي لطب الحشود والتجمعات البشرية بأنه (لا يوجد دولة في العالم تدير وتنظم الحشود والتجمعات البشرية كما تفعل السعودية في موسم الحج، وقد استفادت دول من الخبرة السعودية في ذلك).
إن أعظم مبدأ يمكن أن يؤسس لعلم إدارة الحشود البشرية أخبرنا به عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، عندما رأى جموع الناس وتدافعهم وفيهم الكبير والصغير والضعيف والمرأة فقال مناديا (أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بالإيضاع) أي: الإسراع. والمتأمل في حجته عليه الصلاة والسلام كان يكرر هذا التوجيه فعند إفاضته من عرفات قال مناديا : (السكينة يا عباد الله).
وعن قدامة بن عبدالله رضي الله عنه قال (رأيت رسول الله يرمي الجمار على ناقة له صهباء لا زجر ولا ضرب ولا طرد... الحديث). يعني كان يسير بهدوء وسكينة فلم يزجر ويضرب ناقته للإسراع.
هذا المبدأ العظيم الذي أرشد له عليه الصلاة والسلام عند اجتماع الناس وازدحامهم في الحج له دلالة عظيمة على العناية بسلامة الحجاج وهو أساس علم إدارة الحشود. فالنفس البشرية من طبيعتها عند الزحام يصيبها القلق والخوف والتوتر وينتج عن ذلك تصرفات وانفعالات ربما تؤذي الآخرين. فالعلاج كان بالتوجيه النبوي «السكينة السكينة» وإذا أمعنا النظر بمدلولها فهي تشير إلى الهدوء والطمأنينة وترك العجلة، فهذه الكتل البشرية لا يتناسب معها الزجر والعنف بل التوجيه الذي يبعث في النفوس الطمأنينة. كما أن هذا العلم يؤسس في كيفية التعامل مع من يكدر هذه السكينة والطمأنينة بأسلوب يحفظ الأمن ويحقق الانسيابية في الحركة.
وحتى يمكن تحقيق هذا المبدأ وإقناع الحجاج به، لابد من إعداد وتدريب القائمين على الحجاج لاسيما حجاج الخارج الذين يحجون لأول مرة فيتطلب جهدا مضاعفا لإرشادهم وتوجيههم.
إن التحديات الكبيرة في إدارة الحشود البشرية في الحج في كيفية التعامل مع الثقافات واللغات المختلفة من أنحاء العالم، وقد نقلت وكالة الأنباء الألمانية في أكتوبر عام 2012 عن الخبير البريطاني المتخصص في إدارة الحشود البشرية قوله (السعودية تستحق الميدالية الذهبية في إدارة وتنظيم الحشود وتوجيه الكتل البشرية، مشيرا إلى علو كعب الاحتياطات الأمنية في السعودية عندما يأتي قرابة خمسة ملايين حاج في وقت واحد ومن مشارب عدة وثقافات متعددة... هنا يكمن الفارق). ولقد أحسنت وزارة الداخلية هذا العام في افتتاح معهد إدارة الحشود، وهو متخصص في تنظيم و إدارة الحشود والتجمعات البشرية في الحج، وأتمنى أن يسهم مع معهد خادم الحرمين لأبحاث الحج والعمرة، وجامعة أم القرى ويؤسس لعلم إدارة الحشود، ويمكّن للباحثين من طلاب الماجستير والدكتوراه، لتقديم البحوث والأطروحات التي من شأنها إبراز هذا العلم من منظور الركن الخامس وشعيرة الإسلام الخالدة الحج.
abo953@hotmail.com