د.موسى بن عيسى العويس
* أكتب عن الهجرة، أو المهجّريـن بحكم صلتي بهم القريبة، كباحث في المأثور الفكري والأدبي والثقافي لقوافل المهاجرين مطلع القرن العشرين للميلاد، وكشاهد حي للمرحلة (الثانية) من مراحل الهجرة القسرية المعاصرة، التي لم تقف عند القطر الشامي، كما هو الحال في الهجرات السابقة، بل شملت بلدان عربية كثيرة تأثرت بما يسمى (بالربيع العربي) وعلى الرغم من المآسي والمشكلات التي تعرضت لها فئات غير محدودة في معظم بلدان الشرق الأوسط إلا أنني أجزم كل الجزم، أنها ستستطيع تلك الفئات التي أمت بلاد الغرب والشرق إحداث تأثير كبير في حياة تلك المجتمعات، رغم قسوة الظروف، ونترك للتاريخ وللزمن بكل تقلباته الإفصاح عن ذلك لي ولكم إن امتدت بنا الحياة؟
* وتاريخ الهجرات عند الشعوب ليست جديدة، بل أجزم أنه لم يكن هناك قارة، أو قطر من الأقطار إلا وكان لهم تجارب مثيرة ومريرة، ومن المؤكد أن الأهداف والدوافع تتعدد، لكن لسان حال من يغترب يقول:
وإن نبت بك أوطان نشأت بها
فارحل فكل بلاد الله أوطانَ
* طبيعي أنه من الصعب على الإنسان أن تقتلعه من جذوره، من ملاعب صباه، من بيئته، من مكونات ثقافته، لكن هو الخيار الأصعب على الإِنسان، الحياة، أو الموت، وما أقسى ذلك الخيار! صحيح أن هناك نمطًا آخر من الغربة، أو الهجرة قد ترتبط بمصادرة الحريات، أو الشعور بالكبت والاضطهاد، وربما البحث عن مصادر العلم والمعرفة، وهذا النوع على كثرته لا يعنينا في هذا المقال، رغم قوة أثره.
* قد تكون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قد شرّعت للمسلمين، وبالطبع تختلف أسباب ودوافع مثل تلك الهجرة المحمدية التي أمست تاريخًا للإسلام تجترها الأمم والشعوب الإسلامية كلما طاف عليها طائف، رغم تقارب وتشابه البيئات حينذاك. وتشابه معها في الظروف والدوافع هجرة البعض، وهم قلة إلى (الحبشة) وإن اختلفت البيئة هناك، لكن ذلك الاختلاف كان سببًا في استنباط الكثير من الأحكام الشرعية والاجتماعية لعلماء المسلمين، وهم ينظرون للعديد من القضايا، قديمًا وحديثًا.
* اليوم بلاد (الشام)، وبالتحديد (سوريا) وهي تلفظ أبناؤها مكرهة تعيد ذاكرتنا إلى زمن بعيد، وتجارب أخرى رصدها التاريخ بكل حيادية، وما أروع ذلك الوصف الدقيق الذي يسطره (ميخائيل نعيمة)، وهو يستعرض تجربته في الحياة، ومع الهجرة حينما يقول واصفًا أوضاع المهاجرين، وهم في لحظات وداع الوطن، على المرافيء، والمراكب قبل ما يقارب (مائة) عام، أو يزيد. يقول: (يا لساعة الرحيل، ما كان أشد هولها... رجال ونساء، شيب وكهول، شبان وأطفال، تغتسل خدودهم بالدموع، وترتجف الكلمات على شفاهم، وتتجمد في حلا قيمهم. أيدِ تلف أعناقًا، وصدور تتلاصق بصدور، ورؤوس تستلقي على أكتاف وتأبى الانسلاخ عنها، شفاه عطشى غرثى تحط على الوجنات، على الجباه، على الذقون، على العيون... أصوات مخنوقة.. الزوج مع زوجه... الأخ مع أخيه... الولد مع والديه.. الصديق مع صديقه. إنها أعشاش تبعثر، وأرحام تقطع، وأفئدة تفتت، وأكباد تمزق، وما من معزّ لها إلا الأمل... تمشي القافلة، فيتعالى الصياح، وتتفجر المدامع، ويشتد النشيج.. فلا المودعون يجف لهم جفن، ولا المسافرون..). هذه الفئات المنكوبة، نجد من يطلق عليهم لاجئين، وأحيانًا مهاجرين، أو مهجرين، طبقًا للعرف الدولي والدبلوماسي، أرأيتم، كيف يعيد التاريخ نفسه، والبعض ينكر ذلك ولا يقف وقوف المتأمل والمتعظ، أو الصانع لقرار؟