لمدينة جدة بوابة الحرمين الشريفين تاريخ عريق يجهله الكثير من أهلها بل حتى الكثير من الباحثين في تاريخ الجزيرة العربية، وعلى كثرة الكتب والمقالات التي كتبت عن تاريخ مدينة جدة إلا إنها لا تغطي إلا جزءاً يسيرًا من تاريخها.
وأود في هذا المقال أن أعرض وبشكل مختصر صفحة مضيئة من صفحات تاريخ مدينة جدة عندما أصبحت في القرن التاسع الهجري «أهم مراسي الدنيا» (المواعظ والاعتبار، مج1، ص551).
الرحلات البحرية في البحر الأحمر:
لعله من المفيد التعريف بالبحر الأحمر وطبيعة الإبحار به قبل الخوض في تاريخ ميناء جدة.
وصف الربان العربي الشهير ابن ماجد بحر قلزم العرب (البحر الأحمر) بأنه «أوسخ بحور الدنيا» ويرى الجغرافي المعاصر حسن شهاب -رحمه الله- أن المقصود بالوسخ الشعاب المرجانية، والصخور، وغيرها من الأشياء التي يشكل وجودها خطرًا على الملاحة، وهي منتشرة في البحر الأحمر (البعد الجغرافي للملاحة العربية في المحيط الهندي قبل القرن السادس عشر الميلادي، ص339).
وبسبب طبيعة البحر الأحمر كانت المراكب لا تسير إلا في النهار والربان على مقدمة المركب منكب يطالع في البحر، (السابق، ص340)، وكان الإبحار فيه شمالاً لا يتجاوز ميناء جدة على الساحل العربي وميناء سواكن على الساحل الإفريقي، (السابق، ص341).
جدة في القرن الثامن الهجري:
لا نعرف الكثير من المعلومات عن تاريخ الحجاز ومدينة جدة في القرن الثامن الهجري لأنها فترة غامضة جدًا حيث لا يعرف أي مصدر محلي دون تاريخ المنطقة في القرن الثامن؛ ولكن المصادر الأخرى من دول الجوار والرحالة ذكروا بعض المعلومات عن الأوضاع العامة ومنها أن ميناء عيذاب (في دولة السودان في وقتنا الحاضر) كان أهم ميناء في البحر الأحمر أو بحر جدة كما سمه بعض المؤرخين؛ وكانت قوافل الحج تحط الرحال في ميناء عيذاب، والقوافل البرية كانت تعبر صحراء عيذاب، ويذكر المقريزي أن الحجاج كانوا يعانون اشد المعاناة في رحلاتهم البحرية إلى عيذاب حتى أن غالبيتهم كانوا يهلكون في البحر، واستمرت أهمية ميناء عذاب حتى بدايات العقد السابع من القرن الثامن الهجري عندما توقفت السفن عن القدوم إلى ميناء عيذاب، وأصبح ميناء عدن أهم ميناء في الجزيرة العربية (المواعظ والاعتبار، مج1، ص551) ويبدو أن بروز ميناء عدن عائد إلى النفوذ الاقتصادي والسياسي القوي لحكمها في تلك الحقبة.
ومن ذلك نستنج أن ميناء جدة كان مهملا والسفن البحرية التي ترد له قليلة جدًا في القرن الثامن وما قبله.
كيف تطور ميناء جدة؟
ذكر المؤرخ المكي المعاصر للأحداث محمد بن فهد في تاريخه إتحاف الورى الظروف التي أدت إلى تحول السفن من ميناء عدن إلى ميناء جدة؛ حيث عانى تجار الهند من جور حاكم عدن لذلك قام أحد الربابنة المشهورين القادمين من الهند يدعى الناخوذة إبراهيم سنة 825هـ بتحول عن ميناء عدن إلى ميناء جدة، وقام بإنزال البضائع في جدة، فستولى عليها الشريف حسن بن عجلان وقام بتوزيعها على تجار مكة وهو لا يعلم بأن مراكب الهند تعدت ميناء عدن (إتحاف الورى، ج3، ص588).
في سنة 826هـ تعدى الناخوذة إبراهيم ميناء جدة إلى ميناء سواكن (في دولة السودان في وقتنا الحاضر) ولاقى من صاحبها أسوأ معاملة.
في سنة 827هـ مر الناخوذة إبراهيم بميناء جدة وكان يريد إنزال البضائع بميناء ينبع فلاطفه الأمير قرقماس حتى أرسى بجدة، وجامله حاكم مكة الجديد الشريف علي بن عنان، ومضى شاكرًا مثنيا (المصدر السابق، ص606).
المماليك يطورون مدينة جدة وميناءها:
لم يكن تطور ميناء جدة في تلك الفترة فقط نتيجة لظروف السياسية التي مرت بها الموانئ المنافسة؛ بل كان لحرص سلاطين مصر على احتكار التجارة العالمية من خلال ميناء جدة.
حيث تذكر المصادر التاريخية أن سلطان مصر الأشرف عندما علم بخبر وصول السفن الهندية إلى جدة فبادر بإرسال من يقوم بجمع المكوس من تجار الهند سنة 828هـ (المصدر السابق، ص620).
استغل سلطان مصر رغبة السفن الهندية بالبحث عن بديل لميناء عدن فوفر جميع الظروف الملائمة لرسو السفن في ميناء جدة، فأرسل سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى جدة ناظرا عليها، فقام ببناء جامع جدة، ورتب فيه أرباب الوظائف من إماما للصلوات، وخطيب الجمعة، ومؤذناً الخ...(إتحاف الورى، ج3، ص 638)، وقام ببناء فرضة (ميناء)، وجهز السلطان مع سعد الدين إبراهيم خمسين مملوكاً لدفع بني حسين والقواد عن التعرض لجدة (أنباء الغمر، ج8، ص147).
وقد وجد تجار الهند الراحة بعد معاناتهم من حكام عدن وتجارها، فأفل نجم عدن وحلت محله مدينة جدة، حتى ذكر أن ما كان يحمل من عشور التجار إلى الخزانة السلطانية في القاهرة يزيد على السبعين ألف دينار، (إتحاف الورى، ج3، ص 621).
اهتمام الإشراف بالحركة التجارية
أيضًا كان لحكام مكة الإشراف دور مهم في تطور الحركة التجارية من خلال علاقتهم بأبرز القوى التجارية في العالم، فقد كانت تربطهم علاقة وثيقة بحكام مملكة هرمز أبرز مملكة تجارية في المنطقة فرحلاتهم لم تنقطع لهرمز في هذه الفترة، وكان يرسل لهم ملك هرمز مبالغ سنوية، وكانت علاقة الإشراف بملوك الهند أيضًا وثيقة، حيث قام بعض حكام الهند من المسلمين ببناء المدارس والأوقاف في الحجاز(إتحاف الورى، ج4، ص 24)، وانتقل الكثير من الإشراف لسكن في الهند في تلك الفترة مع الملك العربي الشهير في الهند خلف القحطاني، (من أخبار شرق الجزيرة العربية، ص78)، ويستدل من تكرار ارتحال الإشراف مع ركب بني عقيل إلى الشرق والعراق أنهم وثقوا علاقتهم بهم (المصدر السابق، ص90)، وعلى الأرجح أن جميع الرحلات البرية أصبحت تحط الرحال في الحجاز في جدة ومكة.
ازدهار الحياة الاقتصادية في الحجاز:
قال ابن فهد واصفًا الازدهار الاقتصادي الذي عشته الحجاز بشكل عام ومكة وجدة بشكل خاص: « فجاء للناس مالا عهد لهم قبله، فإن العادة لم تزل من قديم الدهر في الجاهلية والإسلام أن الملوك تحمل الأموال الجزيلة إلى مكة لتفرق في إشرافها ومجاوريها، فانعكست الحقائق، وصار المال يحمل من مكة ويلزم إشرافها بحمله، (إتحاف الورى، ج3، ص 621).
ويذكر مؤرخ مصر الشهير المقريزي أن عدد السفن التي كانت تصل لميناء جدة يزيد على السبعين مركبًا، (درر العقود الفريدة، ج1، ص466)، ويذكر ابن حجر أن عدد الجمال التي كانت تدخل مكة محملة من البضائع التي كانت ترد ميناء جدة تصل إلى أكثر من خمسمائة جمل في اليوم الواحد (أنباء الغمر، ج9، ص168).
ومن عجائب الأخبار أن الناخوذة إبراهيم الذي يبدو أنه هندي الجنسية الذي كان سببًا في تطور ميناء جدة بمغامرته بدخول إلى البحر الأحمر وإرساء سفينته في ميناء جدة كما ذكرنا أنفًا، كتب الله سبحانه وتعالى له أن يقتل شنقًا في مدينة جدة سنة 831هـ عقابًا له على جريمة قتل ارتكبها في سفينته (إتحاف الورى، ج4، ص17).
لم يكن بروز ميناء جدة كأحد أهم الموانئ التجارية في المنطقة في القرن العاشر أو الحادي عشر كما يعتقد بعض الباحثين المعاصرين، بل في القرن التاسع كما وضحت في هذا المقال، الذي أرجحه أن ازدهار الحركة التجارية في منطقة الحجاز من خلال ميناء جدة كانت له آثار سياسية وثقافية مهمة على منطقة الحجاز والجزيرة العربية بشكل عام إضافة للفوائد الاقتصادية، فمن الملاحظ أن النفوذ السياسي لحكام مكة من الإشراف قد برز في هذه الحقبة وبدا نفوذ منافسيهم وخصوصًا حكام المدينة من آل مهنا في التراجع إلى أن أصبح آل مهنا يتبعون حكام مكة. أما من الناحية الثقافية فمن المرجح أن الانفتاح الاقتصادي لحق به انفتاح ثقافي ومن آثاره المدارس التي قام بفتحها حكام الهند في المنطقة.
والله اعلم
- أيمن بن سعد النفجان
ayman@nafjan.net