كتب - محمد عبدالرحمن:
ولكأن صوت عبدالمجيد عبدالله قادم من بقعة ضوء، يستمر بيننا لنرى بأم «أسماعنا» كيف للطرب أن يتحول إلى نور وسط عتمة الأصوات المترهلة والطارئة على أغنيتنا، عبدالمجيد حالة لا تشبهها حالة في حكاية الأغنية العربية، ولا شك أنه واحد من «النادرين» الذين احتفظوا بنكهتها السرية.
في ألبوم «إسمعني» قفزت أغنية «يا غايبة» من عنق الزجاجة، فكانت حالة منفردة في الألق وفتحت بكلماتها ولحنها وأداء مطربها «مسامات» في شرايين الألبوم، لتضيف له ويأخذ من بريقها الشيء الكثير، ويستمر عبدالمجيد عبدالله بـ «صوته» كحالة طربية نادرة.
يا غايبة بالله مشتاق أنا ردّي..
طول غيابك ليه في رحلة الغربة..
انتي بعيدة هناك واتخيلك عندي..
وقلبي يحبك موت يتخيلك قربة..
ينادي الشاعر تركي آل الشيخ «غايبة» أن ترد، ويتساءل عن كل هذا الغياب الذي رافقه في رحلة الغربة، ومع كل هذا النداء، يبلغ الـ «غائبة» أنه يتخيلها قريبة رغم مسافات البعد، كيف يفعل ذلك؟.. بقلب يعشقها حد الموت، ورغم وصوله إلى حالة الموت والوجد فإنه يتراءى له أنها بقربه.
فيني حنين وشوق جاوزت أنا حدّي..
وليل الفراق يطول ويطول بدربه..
قالوا سحابة صيف فرقاك وبتعدي..
وصارت سنين العمر في غيبتك صعبة..
لكم أن تتخيلوا كيف يصل الحنين والشوق إلى مرحلة تتجاوز حد الصبر، وكيف صار الليل طريقاً ودرباً طالت مسافاته، واليوم بات لا يصدق ما قالوه له عن «غياب» المحبوبة أن مجرد «سحابة صيف» لا تمكث أن تنقشع وتعود «غائبته»، بل أقرّ أخيرا أنها ستطول وتطول، ومرت سنوات العمر صعبة مكابدة كل هذا الغياب.
بصوته النادر وعذوبته الفاتنة، يسرح ويمرح عبدالمجيد عبدالله بلحن أجاده البحريني سيروس، فتنطبق الألحان على معاني الكلام في القصيدة، حتى لتتخيّل أن القصيدة ولدت بتوأمة اللحن، وهنا ينتفض الشاعر بـ:
يكفي غياب وبعد يا منتهى ودّي..
وقلبك يا ليته بس يشعر بما أشعر به..
صورتك بعيوني قلبي على يدي..
واللي تحبينه مثلك أنا أحبه..
وكأنه يقول بعد كل سنوات الغياب.. يكفي بعداً وغياباً، ولا استطاع هذا الغياب أن يمحو الود والحب، بل وصل إلى مرحلة المنتهى، وهي حالة قد لا يستطيع الغالبية الوصول إليها، بل هي تعيش في أعلى مستويات اللاوعي عند الإنسان.
ويتمنى أن يشعر قلب الغائبة بما يشعر به، وهي أمنية يعرف الشاعر أنها مستحيلة حين قال «بس» المرادفة لكلمة «فقط» في الفصحى، ثم يضيف أن صورتها محفوظة في مكان لا يمكن محوها منه، وهي «العين»، أما قلبه فقد بات على كف يديه، وهنا يستمر الشاعر في رصد حالة اللاوعي عنده.
هو يحبها في كل شيء، وبلغت محبته لها أن اعترف بحبه لما تحب، بغض النظر عن صلاحيته من عدمها، فمن يحب، يعشق كل ما يحبه ويحب ما يحب، إنه حالة حب «جارفة» قد لا يتناغم معها حب آخر.
ليلي عذاب وحزن ودموعه بخدّي..
يا قسوة الفرقة والقلب وش ذنبه..
أنا بحر من شوق في جزري ومدّي..
وشوفتك لي مرسى بإحساس يبحر به..
في أول القصيدة أبلغ الشاعر، أن رحلة الغياب استمرت سنوات، وفي البيت أعلاه، يبدي حزنه مرة أخرى، فليله عذاب وحزن، ودموعه تجري على خده، ثم ينادي «قسوة» الفراق، متسائلا عن الذنب الذي اقترفه، لكن المفاجأة تأتي بعد ذلك، ليستجمع قواه متكئاً على حزنه...
هو بحر من الشوق سواء في مده أو جزره، وهنا يتحدث عن حالة يومية، في تصوير بديع ومستذكرا حالة المد والجزر في البحر، إذ يشهد الموج ارتفاعا وانخفاضا وهيجانا وسكونا في حالات المد والجزر.
مشتاق لك مشتاق واجيب و أودّي ..
والشوق يلعب بي بس ما اقدر العب به ..
هنا يعود الشاعر إلى حالة السكون الأولى، معترفاً بضعفه، وقلة حيلته مع هذه الـ «غائبة»، أن الشوق يأخذه ويرده، ويلعب به، لكن الشاعر بصدقه وحبه لا يستطيع اللعب مع هذا المارد الذي تربى على يد الفراق وتغذى من كل هذا الغياب.
استمعوا لهذه الأغنية كثيراً، فهي حالة منفردة في الشوق والطرب واللحن والموسيقا العذبة، استمعوا واستمتعوا بها، فهي ترصد حالة الذهول في خبايا الأغنية السعودية، التي تعتمد على المثلث الذهبي النادر «الكلمة واللحن والصوت»، وهو مثلث لطالما أجادته الأغنية السعودية واعتلت به مراتب عليا.