محاولة لفهم مقولة الفشل! ">
- 1 -
انتهت المقالة السابقة (بعنوان: ما وراء اليقين بفشل التعليم) إلى أنّ ثمّة اتفاقاً واسعاً بين أفراد المجتمع على فشل التعليم في بلادنا.. وقد ختمتُ المقالة بالإشارة إلى أن وزارة التعليم لم تقابل هذه المقولة بأيّ جهد يُذكر،
بل تجاهلتْ طوال خمسة عشر عاماً (بداية من عام 2001م تقريباً)؛ كلّ ما طُرِحَ حولها في الإعلام. (هذا ما قادني إليه اطلاعي، وأسعد بأي معلومة تثبت العكس)!
في هذه المقالة سأحاول الإجابة عن سؤال مهمّ (من وجهة نظري)، هو: من أين جاءت مقولة “فشل التعليم” في ظلّ عدم وجود دراسات علمية أو بيانات إحصائية أو معايير تقويمية دقيقة؟.. وفي سياق متّصل: كيف استطاعت هذه المقولة أن تكسب قناعة عدد كبير من الناس على اختلاف مستوياتهم، وأن تحقّق لها حضوراً كبيراً في الوسائل الإعلامية المختلفة؟
للإجابة عن هذا السؤال - السؤالين سأعتمد على تصوير البيئة التربوية من الداخل، استناداً إلى تجربتي في التعليم العام فيما بين عامي 1422 و1430هـ بالإضافة إلى اطلاعي على عدد من المواد المنشورة في السياقات الإعلامية المختلفة، وتواصلي مع تجارب بعض القيادات السابقة في الوزارة.
- 2 -
من يقارب الميدان التربوي يجد عدداً من العوامل البارزة يمكن أن تكون سبباً رئيساً في قناعة جميع الأطراف بفشل التعليم.
ولعلّ من أهم هذه العوامل الحالة النمطية التي تحكم قبضتها على الذوات والمعاني والأشياء داخل هذه المنظومة، فجميع الأطراف العاملة في الميدان التربوي تتحرك كما لو كانت تُدار عن بُعد، بطريقة آلية مادية لا روح فيها. فالطالب - على سبيل المثال - لا يشعر بأن ثمة فرقاً بين انتظامه في الصف الأول الابتدائي وانتظامه في الصفّ الثالث الثانوي إلا فيما يطرأ على مفردات المنهج من تغير، ففصول المرحلة الابتدائية تشبه تماماً فصول المرحلة الثانوية، وطريقة التعليم في كلتا المرحلتين واحدة (قائمة على التلقين)، والعلاقة العلمية والتربوية بين المعلم والطالب في المرحلتين متشابهة.. والنشاط كذلك هو هو: طابور بارد، ومواد صباحية مستهلكة، وأنشطة رياضية ضيّقة، ليست قادرة على اكتشاف المواهب فضلاً عن صقلها.. هذا يعني أنّ الطالب يقضي من عمره التعليمي اثنتي عشرة سنة في نظام تعليمي مغلق غير قابل للنمو والتطوّر (الحقيقي - المعنوي).. ومن هنا يمكن أن نفهمَ الارتباط الوثيق بين المدرسة والنمطية في ذهنية الطالب، في حين يرتبط الخارج لديه بالنموّ والتغير والتحول!
وإذا ما تجاوزنا الطالب إلى المعلم فالأمر لا يختلف كثيراً، فهو كذلك مسكون بنمطية ثقيلة، ويكفي أن أشير إلى ثلاثة ملامح لتنميط مهنة المعلم في نظامنا:
1 - تنميط الاسم الوظيفي، فهو معلم من تاريخ مباشرته إلى تقاعده، دون أن يطرأ على هذا الاسم تغيّر محفّز. ورغم تصريحات مسؤولي الوزارة منذ عهد د.محمد الرشيد - رحمه الله - بالتوجّه إلى تصنيف المعلمين بناء على سنوات الخدمة وحجم المنجز فإننا لم نرَ بعد شيئاً!!
2 - التنميط من خلال السلّم الوظيفي، فالمعلم (التربوي مثلاً) يعيّن على المستوى الخامس ويتقاعد على المستوى نفسه، فليس ثمة ترقيات وظيفية مرتبطة بسنوات الخدمة كما نجد في نظام الخدمتين المدنية والعسكرية، أو بالمنجز (العلمي - التربوي) كما في النظام الأكاديمي.. حتى بعد حصول المعلم على درجة الماجستير نجده يدفع الكثير من السنوات للحصول على المستوى السادس.
3 - تنميط الأداء، ومن الأمثلة عليه ثبات النصاب التعليمي، وعدم تغيره بالتقادم أو بتغيّر المراحل، فالمعلم الجديد - في هذا السياق - كالمعلم القديم، والمتجدّد منهم كالجامد، ليس ثمة فرق بين الاثنين كما في الحالة الأكاديمية. ومن الأمثلة على تنميط الأداء طبيعة المسؤوليات التي لا تتغير (التحضير، الاختبارات، نوعية المشاركة في النشاط اللا صفي).
وما قيل عن المعلم والطالب يُمكن أن يُقال عن (الإدارة المدرسية) و(إدارات التعليم) و(الوزارة)، فالنمطية في جميع هذه السياقات لا تخطئها العين، والجهد الكبير فيها منصرف - في المجمل - إلى أعمال ورقية، أو تنظير لا يصل منه إلى الميدان إلا بحجم القطرة من السيل الكبير!.. ومن المؤسف أنْ نجد هذه النمطية حتى في تعامل الوالدين مع أولادهم في كل ما له علاقة بالتعليم؛ إذ يأخذ المنطق العلمي والتربوي في المنزل شكل النمطية التي نجدها في المدرسة، ويكفي أن أشير إلى المفردات الشائعة في منازلنا (احفظ، سمّع، لا تكثر من الأسئلة، لا تردّ... إلخ) والشيء نفسه نجده لدى المعلمين أنفسهم، ولا أذلّ على ذلك من مقولتهم الشائعة (التي يعدّها بعضهم خطة طريق للمعلم الجديد): “احضر، وحضّر، وقلْ حاضر”!
- 3 -
ماذا يعني كلّ ما سبق؟
يعني أنّ التعليم لدينا محكوم بمنطق “تسيير الأعمال” وليس بمنطق الإبداع، فأغلب ما تقوم به الأطراف المختلفة هو من قبيل التعاون على دفع هذه العربة الثقيلة لتصل إلى المحطة الأخيرة مع نهاية العام، ثم سحبها إلى نقطة البداية لتكون جاهزة لقطع المسافة نفسها بالطاقة نفسها في العام الدراسي الجديد.. وأستطيع أن أقول إن غالب ما نقدمه للتعليم لا يتجاوز حدود التأكد من سلامة هذه العربة وقدرتها على السير إلى نهاية العام.. وأما كيف تسير؟ وما حدود سرعتها؟ وما صورتها؟ وما الذي بداخلها؟ ومن الذي يدفعها؟ فهذا كلّه لا يعنينا كثيراً، أو هكذا تظهر الصورة للمتابعين!
من هنا تشكّل هذا الموقف السلبي من التعليم، وتكمن خطورته في بُعده النفسي، الذي يتسع بالتقادم، ويبلغ حدّ الكره (المفتوح) لهذه البيئة، وعدم الثقة في أيّ مشروع إصلاحي يستهدفها!
وأخيراً: كل ما ورد في هذه المقالة يستند إلى توصيف سريع للمشهد التربوي من الداخل، أي: كيف ينظر المعلم والطالب والمدير والموظف إلى التعليم، وما الشعور الغالب عليهم حين يتحدثون عن انتمائهم إليه!.. وثمة مقالة لاحقة عن الرؤية من الخارج..
- خالد الرفاعي