لمحات من حياته.. كتبها: د.سامي عبدالله السلمان «أبو عبدالرحمن»:
(1)
هكذا رأيته....
يسْتَوْقِفُكَ ولا بدَّ، بخطْوِهِ السَّريعِ المتقارب، وبعمّتهِ البيضاء الّتي كوَّرها على رأسهِ تكويرًا غيرَ منتظم، وبثوبهِ القُطْنِيِّ الّذي يصلُ إلى أنصافِ ساقيهِ الدقيقتينِ، وبأكمامِه الضَّيقةِ القصيرةِ الّتي ترتفعُ عن الرّسعِ بمقدارِ أصبعينِ، وبلحتيهِ ِالطويلةِ الّتي غزاها الشَّيبُ من كلّ جانبٍ حتّى غلبَ على سوادِهاَ، وبخفْقِ نعلِهِ الزّهيدِ الّذي تسمعُهُ إذا خبّ في سيرِهِ، وبنحافةِ ِبدنِهِ، وضئالةِ جِسْمِهِ، ودِقَّةِ شبحِهِ، وضمورِ وجهِهِ()، وبأشياءَ كثيرةٍ يطولُ الحديثُ عنْها ... كلُّ واحدةٍ من تلك تنطقُ عن معنى الزهدِ وكُنْهِهِ.
الزهد الذي كثيراً ما سمعتَ عنه من أفواهِ الوعاظِ، وقرأتَ عنهُ في بطونِ الكتبِ والدواوين، تراه ماثلاً أمامك في شخصِ الشّيخِ عبدِالله الفالحِ -رحمه الله-.
لا تسألِ المرءَ عنْ خلائقِه
ِفي وجههِ شاهدٌ منَ الخبر
ِالشيخ والدّنيا ....
لقد كانتْ بين الشّيخِ عبداللهِ والدّنيا خصومةٌ، أو هكذا يبدو للنَّاظرِ، فأنت ترى الشّيخ قد أشاح بوجهِهِ عن الدّنيا، عن جمالِهَا وزخارفها وزينتها، وولاّها ظهرَه، ولم يلتفت إليها، ولو بطرفٍ خفيّ، بل نأى بجانبهِ عنها بالكليّةِ، لا عجزًا وإنما رغبةً عنها وزهداً بما فيها، ولقد حُدِّثْتُ بأنّ بعضَ محبي الشّيخ حاولوا الإصلاحَ بينه وبينها، فبعثوا حكماً من أهلِهِ وحكماً من أهلِها ؛ ليقربوا فيما بينَهُ وبينها ولكن دون جدوى، لقد طلّقها وبتَّ طلاقها، فلا سبيل لها عليه، وإن ذهبتْ إلى غيرِهِ، وذاقَ منها ما ذاق.
(2)
دار الشّيخ تُحَدِّثُنا!...
لقدْ عاشَ الشَّيخُ عبدُاللهِ حياةً غريبةً موغلةً في الغرابةِ، عجيبةً مسرفةً في العجبِ، ولعلَّكَ تقفُ على شيءٍ من ذلك في هذه الّلمحاتِ اليسيرةِ عن حياتِهِ.
لقد ملأتِ القناعةُ قلبَ الشيخِ، فأعرضَ عن مُتعِ الدُّنيا كلِّها، فرضيَ منها بميسورِ العيشِ، وا كتفى منهابما يقيمُ أودَه ،ُ ويحفظُ عليهِ حياتَهُ، فعاشَ الشيخ ُفيها حصورًا ورعًا قانعًا عفيفًا زاهدًا متواضعًا إلى حدّ الازدراءِ بالنفسِ، ونكرانِ الذاتِ، فلم ينصف نفسه من نفسه -رحمه الله-، فيضعها في مكانها اللائق بها، فضلا عن أن يرفعها فوق قدرها، وحاشاه ثمَّ حاشاه أن يتشبع بما لم يُعط، فيكون كذلك الذي يحدو وليس له بعير، أو كالذي يتجشأ من غير شبع.
ولا أريدُ أن انساقَ في وصفِ حالِ الشيخِ ؛ لئلا أُنْسَبَ إلى المُغلاةِ، ولكنْ من كان من أهلِ عنيزةَ، وكان قريباً من الشيخِ، ويعرف ما كان عليه -رحمه الله- في شبابه وكهولته خاصة، سيعرف حتمًا أنِّي ما أعرته وصفاً، ومع هذا فلنْ أتمادى في وصفِ ما كان عليه من الزهدِ والورعِ والتواضعِ، ولكنِّي سأستنطقُ دارَهُ بأبوابِها وجدرانِها ومتاعِها - إن كان فيها متاعٌ – لتحدِّثنا بلسانِ الحالِ عن حالهِ في ذلك، فاستمعْ لحدِيْثِها بعينِكَ هذه المرّةِ لا بأذُنِكَ، فما راءٍ كمنْ سمعَ، ولكن تذكَّر قبلَ أن تنظرَ إلى دارهِ أنَّك في القرنِ الخامسِ عشرَ، القرنِ الذي بلغتْ فيه الحضارةُ غايَتَها في كلّ مجالٍ ماديٍّ.
وللنظر إلى هذا البيت بالتصوير الحي أدخل إلى هذا لرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=yQ4ozTeMB_g
استعجمتْ دارُ ميٍّ ما تكلِّمُنا
والدارُ لو كلَّمتْنَا ذاتُ أخبارِ
وأمَّا دارُ الشّيخِ عبدِاللهِ فهي وإن لم تكلّمنا بلسانِ المقالِ، إلا أنَّها كلّمتنا بلسانِ الحالِ، وأطنبَتْ في الحديثِ والبيانِ، وأظنُّها أتتْ بالغرضِ الّذي أردناه وزيادة، وأصغى لحديثها وبيانها كلُّ قلبٍ حيٍّ، فأطال الله بقاءها، وحفظها من عوادي الّليالي والأيام، وحرسها من غوائل الخلق أمدًا بعيدًا.
(3)
مع الشيخ الزائر ...
انقطعَ الشَّيخُ عن المسجدِ مدّةً بسببِ مرضٍ ألَمَّ بهِ، فسألَ عنه أحدُ المشايخ ِالمنقطعين للعبادةِ، فدُّلَ على منزله، فلمّا دخلَ المنزلَ وقلّبَ بصرَه ُفي نواحي البيتِ، ملأت الدهشةُ وجهَهُ، وحلّقت فوق رأسه علاماتُ الاستفهامِ والتَّعجُبِ ؛ لَمّا لم ير في البيت شيئاً يستحق أن يرى، وجالَ الدمعُ في عينيه .
يقول الدليلُ: رأيت دموعَ ذلك الشّيخِ تسيلُ من جفنِهِ على وجنتَيْهِ، وأنا أجزمُ أنَّهُ ليس بأولِ دمعٍ ينزلُ منه، ولكنّي أظنُّهُ أحرّ دمعٍ يجري على خدّيهِ، وما أصدق الدمع إذا نزلَ من صديقٍ وفيٍّ كبيرٍ.
ثمَّ دخل الشَّيخُ الزائرُ على الشيخِ في غرفتِهِ فرآهُ منطرحاً على الفراشِ، خائرَ القوى، منهوكَ الجسمِ، قد أكلَ الدهرُ منه وشربَ، وتركهُ كالشّنِ بجلدٍ وعظمٍ، ثمَّ دنا من الشيخ وقال: كيف أنت يا أبا صالح، والبكاءُ يقِّطعُ صوتَهُ، فعرفَهُ الشَّيخُ- رحمه الله- على الرّغم من بُعد العهْدِ، وتغيُّرِ الصّوتِ، وكِبَرِ السِّنِ، وذهابِ البصرِ، واشتدادِ العِلَّةِ، وتفاقمِ الدَّاء ِ، وهذا من عجيبِ أمرِ الشيخِ أنَّهُ مَعَ ذلك كلِّه كان مشبوبَ الذاكرة ِ، متيقّظَ الحسِّ، وأجابَهُ الشَّيخُ على الفورِ: أهلاً أبا فلان أنا بخيرٍ ونعمةٍ، ولكن ألم الظّهرْ أقعدني وحَبَسَني، والحمدُللهِ على كلِّ حال.
وهكذا قابلَ الشيخ كثيرًا من المصائبِ الّتي داهمَتْهُ بالرضا والتّسليمِ لعلمِهِ أن شوائبَ الدّهرِ لا تدفعُ إلا بعزيمةِ الصّبرِ والرضا والشُّكرُ
صبر الشيخ ورضاه ...
حدَّثَنِي الأخُ الفاضلُ إبراهيمُ المهنا التركي() قائلاً: لمَّا ذهبْتُ به إلى الطّبيبِ من أجلِ الكشْفِ على عينيه، أخبرَهُ الطّبيبُ بأنّ بصرَهُ قد ذهب، وأنه لا أملَ في علاجه، يقول أخي إبراهيم: فما زاد الشيخ على أن قال: الحمد لله........
وقابل ذلك الأمر بالتسليم المطلق، والرضا التام، ورجعنا إلى البيتِ، ولم يتكلّمْ عنْ ذلك المصابِ الجَلَلِ() بكلِمَةِ واحدةٍ، وعادَ لحياتِهِ الطبيعيّةِ، وكأنّ شيئاً لم يكنْ!.
يستعِذبونَ بلاياهمْ كأنّهمُ
لا ييأسونَ من الدُّنيا إذا قتِلوا
يقول الدّليلُ: وبعدَ أنْ خرجَ الزّائرُ دنوتُ من الشيخِ وقلتُ له: ما رأيك أن آتيك الليلةَ «بمطازيز وقرصان وجريش « ونتعشى سويّا، فضحك الشيخ وقال: الله المستعآن.. ومدّ الألفَ في «المستعآن» سِتَّ حركاتٍ، وكأنّي به عادَ بذاكرتِهِ إلى الوراءِ ستينَ سنةٍ وقال: الأكلاتُ الشّبيّعة تركتها من أيامِ الوالِدةِ !.
(4)
ثقافته!. ..
ولئنْ امتدَّتْ يدُ الزُّهدِ إلى مسكنهِ وملبسهِ ونعلهِ ومتاعهِ ومركبهِ وغيرِ ذلك، فإنّها لم تمتدّ إلى عقلهِ، بل كان عقلُه ثريّاً وغنيّاً بكلِّ طريفٍ وتالدٍ من العلومِ والمعارفِ والثقافةِ الواسعةِ بكلّ أشكالِها، وإن كُنتَ في شكٍّ من قولي، فاسألِ الذين زاملوه في دراستهِ، ورافقوه في مسيرتهِ العلميّةِ، أو اقرأْ ما كتبوه عنه.
ماذا قالوا عنه...
ولعليْ أخفّفُ عنك المؤنةَ وأسطِّرُ لك شيئاً مِنْ ذلك:
قال عنه زميلُهُ معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر -رحمه الله-:
«أثبتت الأيامُ أن عبدالله الصالح الفالح عبقريٌّ لا يُجارى، وظهرتْ عبقريتُه واضحةً عندما التحقَ بمدرسةِ دارِ التّوحيدِ في الطائف، فكان أعجوبةً في الذكاءِ، وقوةِ الذاكرة، وسرعةِ التّحصيلِ».
وقال عنه معالي الشيخ عبد الله بن جبير -رحمه الله-:
«كان غريبَ الأطوار لديه كفاءةٌ علمية فذة, ملفتةٌ للنّظر في كلّ الفنونِ، سألتُهُ ذاتَ يومٍ وقلت له يا شيخ عبد الله: نحن نلهث وراءَك ونُتعِبُ أنفسنا في مذاكرة الدروس ومع ذلك لا نستوعب كلّ ما يلقى وأنت لا تذاكر وتستوعبُ كلّ شاذة وفاذة فقال: لا تعجب، أنا قرأت الروض المربع على ابن سعدي سبع مرات ! »... هكذا قال!.
وقال عنه زميله الأستاذ عبدالعزيز السالم يصفه وهو طالبٌ في دار التوحيد:
«إنه شيخٌ في هيئةِ تلميذٍ، وعالمٌ في صورةِ طالبٍ... هذه حقيقتهُ وتلك صفتُهُ»
هذا غيضٌ من فيضٍ ممّا قيلَ فيهِ.
(5)
مدرسة الأستاذ صالح....
ولد الشيخ في عنيزة سنة 1345هـ، ودرس في الكتاتيبِ وهو في الخامسةِ من عمرهِ، ثمّ انتقلَ إلى مدرسةِ الأستاذِ صالحٍ بنِ صالح، أستاذِ العلماءِ والوزراءِ والأدباءِ والشعراءِ، المربّي الناجحِ الذي أمضى شطراً من حياتهِ في تعليمِ أبناءِ عنيزةَ وغيرِهمْ بدونِ مقابلٍ أو بمقابلٍ زهيدٍ، ومن إخلاصهِ رحمه الله في التّعليمِ أنّه إذا أحسّ بأنّ الطلابَ لم يستوعبوا الدرسَ جيداً طالبهم بالحضورِ مساءً، وكثيراً ما يفعلُ ذلك وبدونِ مردودٍ ماديٍّ !!.
وللأستاذِ صالح طريقةٌ فريدةٌ في التّعليمِ، وتقريبِ المادةِ العلميّةِ، وإبراز المواهبِ لدى الطّلابِ، وفي تنميّةِ الملكاتِ وصقلِها، والكلامُ عن هذا يطولُ، ولكن خذ هذا المثالَ الخاطفَ:
كان الأستاذُ صالحٌ يدرِّسُ الطّلاب َفي ثالثِ ابتدائي مادةَ الإملاءِ، فينتقي لطلابهِ أفضلَ ما قيلَ في شعرِ المذاكرةِ والمجالسةِ – وهو الشّعرُ الذي يُتَمثَّلُ به في المواقفِ وأحوالِ النَّاسِ وتقلُباتِ الزّمانِ– ثمّ يمليها على طلابهِ بطريقةِ رائعةِ ؛ إذ يقومُ بتلحينِ الشَّطْرِ الأولِ من البيتِ، ثمّ يُمْليهِ عليهم، ثم إذا انتهوا من كتابتهِ أملى عليهم كلمتينِ من الشّطرِ الثّاني، فإذا بقي تفعيلةٌ أو تفعيلتانِ طالبَهم ب أن يجتهدوا في إتمام البيت من تلقاء أنفسهم، فيتنافسون في تكميل البيت على نسق الشطر الأول، فمن مخطئٍ وهم كثير، ومن مصيبٍ وهم قليل، فيخصّ هؤلاء بمزيد عناية، ويمدُّهمْ بما يغذّيْ الملكةَ، وينمِّي موهبةَ الشّعرِ عندهم ؛ لأنّ الشّعرَ يكون كامناً في نفسِ الشّاعرِ منذ ُالنشأة الأولى، وهو لا يعلمُ، فإذا ما أثيرُ الذي بداخلهِ بدا على لسانهِ، وسال من أسلةِ قلمِهِ، -كذا أظنُّهُ والله أعلم- ويبدو أنّ الشّيخَ عبدَالله ممنْ حظي بتلك العنايةِ من قِبلِ الأستاذِ صالحٍ.
وبين يديّ الآنَ دفترٌ لأحدِ الطّلاب ِالذين درسوا على الأستاذِ صالح في ثالث ابتدائي عام 1359هـ تقريباً، وسأنقلُ لك الأشطرَ الأولى لبعضِ الأبياتِ التّي أملاها عليهمْ تلك السَّنةِ:
كفي بك داء أن ترى الموت شافي?ا
... ... ...
قد يدرك المتأني بعض حاجته
... ... ...
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
... ... ...
يموت الفتى من عثرة بلسانه
... ... ...
آلة العيش صحة وشباب
... ... ...
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
... ... ...
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
... ... ...
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
... ... ...
ما كلّ من طلب المعالي نافذا
... ... ...
كلّ من يدعي بما ليس فيه
... ... ...
ليس الجمال بمئزر
... ... ...
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
... ... ...
في غابر الأيام ما يعض الفتى
... ... ...
وكلُّ شديدة نزلت بقوم
... ... ...
وأصفح عن سباب الناس حلما
... ... ...
كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته
... ... ...
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
... ... ...
ما أقبح التفريط في زمن الصبا
... ... ...
... إلخ.
أرأيت –أخي العزيز– كيف يخرجُ الطالبُ من مادةِ الإملاءِ عندَ الأستاذِ صالحٍ وقد ملأ جعبتَهُ بقواعدِ الإملاءِ، وقواعدِ الخطِّ العربيِّ، وبمخزونٍ كبيرٍ من شعرِ الحكمةِ والمذاكرةِ والمؤانسةِ، وبإلمامٍ يسيرٍ بعلم ِالعروضِ، وبمعرفةٍ لبعضِ التراكيب والأساليبِ والألفاظِ العربيةِ المتينة، كلّ هذا والطالب في ثالث ابتدائي.
هكذا كان المعلم وهكذا كان التعليم في السابق.
وقد أشارَ الأستاذُ صالحٌ إلى منزلةِ المعلم ورسالتهِ في إحدى قصائدهِ فقال:
وهل في النَّاسِ أتعبُ من مربٍّ
وأصعبُ مهنةً وأقضُّ مرقدْ ؟
وأشرفُ منه في الدُّنيا مقاماً
وأجدرُ بالكرامةِ بلْ وأمجدْ
بُعيدَ الرُّسْلِ مرتبةً وقدراً
ووارثُ سيِّدِ الثقلينَ أحمدْ
(6)
أثر الكلمة على النفس ...
وأعودُ إلى ما كنتُ أخذاً القولَ فيه فأقول:
لقد لقي الطالبُ الصّغيرُ عبدُاللهِ من أستاذهِ الكبيرِ صالحٍ اهتمامًا وتشجيعًا، فكان لهذا الاهتمام، وهذا التشجيع أبلغُ الأثرِ في حياةِ الشّيخِ عبدِاللهِ ومسيرتهِ الأدبية، وزوّده الأستاذُ بكثيرٍ من الكُتيّباتِ الّتي تُعنى بهذا الجانب، وحبّبَ إليه القراءةَ الحرّةَ، والمطالعةَ المستمرةَ، فأقبلْ عليها إقبالاً منذ طراءةِ الصّبا، وأحبّها حبّاً ملكَ عليه نفسَهُ وحِسَّهُ، ولم يصرِفْهُ عنها شيءٌ من مطالبِ الصّبا، ونوازعِ الشّبابِ بعدَ ذلك .
فالكلماتُ اليسيرة، والعباراتُ القصيرة، التي تهمس بها في أُذُنِ الطّالبِ الصّغيرِ إذا نفذت إلى قلبه، فثق أنه سيكونُ لها أثرٌ كبيرٌ، وكبيرٌ جداً، وربَّما امتدّ أثرُها على ذلك الطفلِ الصغيرِ إلى أن يهرمَ ويكبَرَ ويشيخَ ويدبَّ على وجهِ الأرضِ تدبيباً.
فانتقِ عباراتِكَ جيداً أيّها المربّي الفاضلُ قبلَ أن ترسلَها إلى ذلك القلبِ الصغيرِ الطريّ ؛ لأنّك قد تبني بكلمتك مستقبلاً جميلاً لطفلٍ خلا قلبه من كلّ شيء إلا من كلمتِكَ الّتي أهديتها له عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، وقد تهدمُ أمالاً وطموحاً قد شِيدتْ له بكلمتك الجارحةِ الّتي خرجتْ منك عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، فتفطن لما تقول جيدا.
وسأذكر لك ما يؤيّدُ ما سلفَ من كلامي لعالمٍ قديمٍ وأديبٍ معاصرٍ:
الأول: الإمام الذهبيّ -رحمه الله-: تحدّث عن سرِّ نبوغه في علم الحديث فقال: رأى خطي أحد مشايخي فقال لي: «خطُّك يشبه خطَّ المحدثين» يقول الإمام الذهبي: فحبّبَ إليَّ بتلك الكلمةِ العابرةِ علم َالحديث .
أرأيت كيف ألهبت هذه الكلمة اليسيرة القصيرة مجامر قلبه، ودفعته بقوّة لتحصيل ذلك
العلم لينتقل من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة، ويصير بعد ذلك محدثا مشهورا يشار إليه بالبنان، عرفه الناس بعدُ على تعاقب القرون!.
الثاني: عباس محمود العقاد: كتب مقالة بعنوان «طفولتي» يقول فيها: زارنا الأستاذ محمد عبده ذات شتاء في المدرسة فأراه أستاذي كراسة الإنشاء فتصفَّحها الإمام باسماً، ثمَّ التفتَ إلى الأستاذِ وقال -ما أذكره بحروفه-: «ما أجدر هذا أن يكون كاتباً بعدُ».
يقول العقاد معلقاً على هذه الكلمة:
«وأبالغ إذا قلت إن كلمة الأستاذ الإمام هي دون غيرها التي حفزتني إلى الكتابة، ولكنّها كانت ولا ريب حافزاً قويّاً بين الحوافز الكبرى».
وفي المقابل حدَّثني أحدُ الزملاء قائلاً:
رأيت رجلا لا يحسن الخط والإملاء فعاتبته على ذلك، وليتني لم أفعل ؛ إذ زفر زفرةً كادت أن تحرق الأوراق الّتي أمامه، ثمَّ أجابني بحدّة بعد أن نزت في رأسه سورةُ الغضبِ وقال رافعاً صوته: دعني وشأني أنا لا أحبّ الدراسة والمدرسة ولا الكتابة والكتاب فقلت له: ولِمَ يا أخي ؟! قلتها بصوت هاديءٍ لطيفٍ وبسكونٍ تام ؛ لأنِّي خفت أن ينالني منه ما أكره، فقال: كان يدرّسني أستاذٌ - وبعد أن أوسعه شتما وذمّا – قال: كلمّا أخطأت رفع صوته عليّ وقال: «أنت حمار ما تفهم ؟!. . أقول لك كذا وكذا ... !»
انتهت القصّة، ولم ينتهِ الألم من تلك الكلمات القاسيّة ....
وقبل أن أقلب الصَّفحة أقول لهذا الأستاذ: أنَّى لحمارٍ أن يفهم، فهل تفهم ما أعني !، وأنَّى لصبيٍّ لا يخطئ!.
وأقول لك أخي القاريء: انظر ما الذي هدمه هذا الأستاذُ الغبيُّ بمعول كلماته، وما الذي بناه ذلك المحدِّثُ الذّكيُّ بسواعد كلماته!
(7)
قراءة الخطوط ...
لم يكملِ الشَّيخُ عبدُاللهِ الدِّراسةَ في هذه المدرسة ؛ لظروفٍ خاصةٍ مرّت بهِ، فلم يحصلْ منها على الشهادةِ الابتدائيةِ، ولكنَّهُ خرج منها مدركاً لمبادئِ العلومِ، متقناً لفنّ الخطِّ والقراءةِ، بل كان حظّه منهما أكثر من حظِّ زملائه، فكان الشَّيخُ ذا خطٍّ حسنٍ جميلٍ، وقراءةٍ حسنة جميلة، حتّى عُرف بذلك في حيّه الذي يسكنه، والأحياء المجاورة له، فكان أهل تلك الأحياء يطلبون من أمّه أن ترسل لهم ابنها الصغير ؛ ليقرأ لهم «الخطوط» التي تأتيهم من أقاربهم المغتربين في العراق أو البحرين أو الكويت أو الهند أو في أي مكان من أرض الله الواسعة، فيقرؤها لهم، ثمّ يكتب لهم ما يودون قوله ليبعثوا بها إليهم، وبالطبع كانت تلك الخطوط تحمل أسرارًا كثيرة...... تقول والدته رحمها الله مفتخرة بولدها بهذا الخصوص:
ولدي عبدالله إذا سئل ما الذي قرأته في «الخطِّ» الذي جاء لفلان أو فلانة فإنّه يسكت، ولا ينبس ببنت شفة، ومهما حاولت أن تُنْطِقه فلن ينطق، وإذا سئل ما الذي كتبته لفلان أوفلانة، فإنه يسكت سكوت الأصم الذي لم يسمع سؤالا، فلا تنتظر منه جوابا، وأمَّا إذا سئل ما الذي أعطاك فلان أو فلانة بعد الكتابة فيقول: اكليجا أو يبيس أو... .
وهذا عنوان حصافة ونباهة ونضج مبكِّرٍ.
مع ابن سعدي...
ولما بلغ الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، التحق بحلقة العالم الربانيِّ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، وبقي ينهل ويعُلُّ ويغرف من علمه وفضله من عام 1359هـ تقريبا إلى عام 1364هـ، ()، وتاريخ الشيخ عبدالله في هذه المرحلة معروف، لذا سأطوي الحديث عنها.
إلى دار التوحيد...
وفي هذه السنة، سنة 1364هـ أرسل الملك عبدالعزيز سيارة إلى القصيم لتقلّ الراغبين في الالتحاق بدار التوحيد في الطائف فكان الشيخ عبدالله أحد أولئك الراغبين، ولمَّا وصل إلى دار التوحيد لم يجدوا في أوراقه الشهادة الابتدائية، قالوا له: يتوقف قبولك على اجتياز الاختبار الشفوي، فشكّلت لجنة لاختباره، وبعد الاختبار رأت اللجنة أنه أحقّ بالقبول من أصحاب الشهادات ؛ إذ بهر أعضاء اللجنة بسعة اطلاعه ودِقَّة معلوماته، وكان بعد ذلك محلّ تقدير من قِبل المدرسين والدارسين، وصار جميع من في الدار ينظر إليه على أنه شيخ في هيئة تلميذ، وعالم في صورة طالب، كما قال ذلك الأستاذ عبدالعزيز السالم.
(8)
الجرائد والمجلات ...
ولمَّا استقرّ به المقامُ في الطائفِ، أقبلَ على متابعةِ الصُّحفِ والمجلاتِ، وأسرف في ذلك حتّى قيل عنه: كان يقرأُ كلّ ما يُكتبُ في الصّحفِ!.
وكان الشّيخ – كما لا يخفى عليك – ذا ولعٍ شديدٍ بالأدبِ ؛ لذا كان ينفقُ جميعَ مصروفهِ الجيبي في شراءِ الكتبِ والمجلاتِ وخاصة المجلات المصرية التّي تُعنى بهذا الجانبِ كالرسالة وغيرِها، فكان يحجزها من وكيلِها الوحيد في الطائفِ الأستاذِ مصطفى الرسيني في برحة القزاز، وكان بعض زملائه يزورونه في غرفته فيرون ركاماً هائلاً غير منظم من المجلاتِ والصّحفِ والكتبِ، ويبدو أن الشّيخَ كان يستلذُّ ويستمتع بهذه الفوضى، كما كان زملاؤه يستمتعون بمجلاته المبعثرة هنا وهناك أثناء الزيارة، وقبلهم شاعر النيل كان يجد في الفوضى متعتةً، بل وزاد عليهم ببغضهِ الشديدِ للنّظامِ، وكرههِ المؤكّدِ للعمل الدائمِ الرتيب، وقد أفصح عن ذلك في قصيدتهِ الّتي مدحَ فيها إيطاليا لمَّا زارها، وأعجبهُ فيها كلّ شيءٍ إلا شيئاً واحداً هو النّظامُ الصّارمُ ! فقال:
أفرط القومُ في النّظام وعندي
أن فرطَ الّنظامِ أسرٌ ونيرُ
ولذيذُ الحياةِ ما كان فوضى
ليسَ فيها مسيطرٌ أو أميرُ
فإذا ما سألتني قلت عنهم
أمّةٌ حرّةٌ وفردٌ أسيرُ
النادي الأدبي ...
وفي دار التوحيد أسَّس نخبةٌ من الطلبة نادياً أدبيّاً، يجمعهم همُّ مشترك، وهو حبّ العِلْمِ والأدب، العلم الذي ألف بين قلوبهم، والأدب الذي قوّى روابط الودّ بينهم، وإن باعدت فيما بينهم الأنساب والبقاع.
والهدفُ من هذا النّادي هو استخراجُ المواهبِ والملكاتِ الكامنةِ في نفوسِ الطلابِ، ونفعِ القاصي والداني من أهلِ الدارِ وغيرهم، فوجدَ الطلابُ في هذا النّادي ميداناً فسيحاً لتتبارى فيه الأفكارُ، لذا كان كلّ طالبٍ من أولئك يحثُّ جوادَهُ، ويكدّ قريحتَهُ، ليزفّ إلى مَنْ حوله مِنْ بنيّات أفكارهِ ما أحبَّ وشاءَ، والمستمعون ما بين قادحٍ ومادحٍ، ومثنٍ وناقدٍ، فيفرحُ الطالبُ المشاركُ بالمديحِ والثّناء، ويتقبلُ النقدَ والقدحَ بصدرٍ رحبٍ، إذ القلوبُ يومئذٍ سليمةٌ، والهدفُ والغايةُ المنشودةُ واضحةٌ ومعروفة .
وفي النّادي يلقي الخطيبُ خطبتَهُ، ويلقي الشّاعرُ شعرَه، ويلقي الناثرُ الأديبُ نثرَه، ولا يلقي أدبَهُ، بل هو محفوظٌ بين جنبيهِ، وهيهاتَ هيهاتَ لأمثالِ هؤلاءِ أن يلقوا الأدبَ عنهم، وقد تربوا على دماثةِ الأخلاقِ، وسموّ الغاية، ونبل المقصد .
كان الشَّيخُ عبدُاللهِ أحدَ المشاركين في هذا النّادي، بل كان رحمه الله آدبَ نظرائِهِ بلا منازع، وكانت أمسيّات النّادي تقامُ يومَ الخميس ليلةَ الجمُعةِ، فإذا ما علم النَّاسُ بأنّ للشّيخِ مشاركةً في تلك الليلةِ توافدَ المهتمون بالأدبِ من أقاصي مكة وجدة، يزاحمون أهل الطائف في ناديهم، فيغصُّ بهم النادي الطائفيّ، وكانت مشاركاتُ الشّيخِ عبارة عن مقالات يلقيها بنفسه، ويكتبها بقلمه، يحلِّلّ فيها شخصيةً من الشّخصياتِ البارزةِ في دارِ التّوحيدِ ،سواء كان طالبا أو أستاذا، يتناول تلك الشخصية من الناحية النفسية والعلمية والأدبية، فيذكر ما فيها من النواحي الإيجابيّة، وما تحلّت به من محاسن، ويدعو المستمعين إلى أن ينافسوه في تلك الخصال الحميدة، ثمّ ينقضّ الشيخ مرة أخرى على تلك الشخصية، فيحط من
بعض قدرها بعد أن يحلق بها عالياً، فيذكر شيئاً من نقاط الضعف والمآخذ الّتي أخذها عليه من خلال الرصدِ والمتابعةِ، ويدعوه إلى التّصحيحِ والمراجعةِ، كلّ ذلك بعد إذنه وقبوله.
وفي النّهايةِ يخرجُ المستمعُ بصورةٍ متكاملة عن تلك الشّخصية، وكانت تسمى مشاركته (باللاقطة).
وكتبَ الشَّيخُ تلك المقالات بأسلوبٍ أدبيٍّ رفيعٍ، يسرقُ القلوبَ والأسماعَ إليه، وربما حاكى المازنيَّ() في أسلوبهِ السّاخرِ المضحكِ في نقدِ بعضِ التّصرفاتِ التي لا تروق له، وكان الشَّيخُ آيةً من آيات الله، في فكاهةِ الطّبعِ، وخِفّةِ الظّلِ، وجمالِ التّصويرِ. وما أن يعتليَ الشَّيخُ المنصَّةَ إلا ويسكتُ المتكلّمُ، ويصغي المستمعُ، وتتهيأ النّفوسُ للضحك والسرور .
وأولُ شخصيةٍ تناولها الشَّيخُ بالتّحليلِ، هي لشخصيّةٍ مرموقةٍ في دار التّوحيد، قد أجمعت القلوبُ على محبَّتها، واتفقت على ولائها، وجميعُ من بالدار ينظرُ إلى تلك الشّخصيةِ بعينِ الاحترامِ والتقديرِ والإعجابِ والإكبارِ، ولكن الشّيخَ كان ينظر إليها بعينٍ أخرى، فلم يتعاملْ معها كما يتعاملُ مع باقي الشخصيات بذكر المحاسن وشيءٍ من المآخذ، وإنَّما أسرفَ في ذمّ تلك الشخصيّة، والنيلِ من تصرفاتها، والحطِّ من قدرها، وبالغَ في ذلك بأسلوبٍ ممزوجٍ بحلاوةِ الدعابةِ، ورقّةِ العبث، مما جعلَ المشاعرَ نشوى من غرابةِ ما ترى، وطرافةِ ما تسمع، وضجّ النّادي بالضّحك المستمرّ .
أتدري من تكون-أخي القاريء-تلك الشخصية التي نال منها الشيخ ما نال ؟!
إنّها شخصيّة الطالب عبدالله بن صالح بن محمد الفالح!.
وبعد أن تناولَ الشَّيخُ كثيراً من الشخصيّاتِ بالتّحليلِ في تلك الليالي الطائفيةِ الجميلةِ، واستمع الطلابُ والأساتذةُ والشعراءُ والأدباء إلى لونٍ جميلٍ من الأدبِ العربي العذبِ، جاءت المفاجأةُ، وهي الأمر بإيقاف مشاركة الشيخ في الأمسيات التي تقام في النادي ! ،
فصدم الناس حينها، وأبدوا أسفهم كثيراً على ذلك... .
سألت الشّيخَ رحمه الله عن سببِ إيقافه فقال: تناولت شخصيةَ فلانِ بن فلان، فسعى في إيقافهِ، وكان له ما أراد، وإلى يومِكَ لا أدري لِمَ فعلَ ذلك ؟! ،مع أنّي لم أقلْ فيه ما يثلبُ أو يقدح .
ثم عقّب على ذلك قائلاً:
والحمد لله... ارتحت وأرحت لأن تلك المقالات ليس فيها فائدةٌ تذكر.
قال ذلك جرياً على عادته في هضمِ نفسه، وجلدِ ذاته، وإلّا فقد حاولَ العلامةُ عبدالله بن عبدالرحمن البسام رحمه الله كما حاول غيره على أن يحصل على نسخةٍ من تلك المقالات، ولكنّه رجع كما رجع غيره –بعد جهدٍ جاهد ومحاولات متكررة– بخفي حنين.
(9)
صفاء ونقاء ....
كان الشّيخ رحمه الله مرهفَ الحسِّ، رقيقَ حواشي الطبع، لم ُيرَ في يومٍ من أيامِ حياته واجداً على أحدٍ، ولا منتقماً، ولا حتّى ذائداً عن نفسهِ، وكان يحاسبُ نفسه في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ويزنُ الكلامَ قبلَ إرسالهِ بميزانٍ دقيقٍ، فما كان يلقيه على عواهنة، وإذا فُهم كلامُهُ على غير المراد، بادرَ بالتّصحيحِ والبيانِ أو الاعتذارِ، ومن غريبِ ما نُقل عنه في ذلك :
أنَّه تذكَّر بعد أن تجاوز حدّ الثمانين من عمرهِ زميلاً له أيام الدراسة في الكليّة بمكّة، فقال للأخ إبراهيم التركي: أريدُ أن أصلَ فلانَ بنَ فلان، ولكن لا أدري أين يسكن الآن ؟، فقال له إبراهيم: وما حاجتك به ؟، قال الشّيخ: كنت جالسًا مع بعض الزملاء في يومٍ من الأيام نتسامر، ودخل علينا ذلك الرّجل حاملاً معه بعضَ الكتب، فقلت له: ما هذه الأسفار التي تحملها معك ؟، فقال أحد الحاضرين - سامحه الله - يقصد أبو صالح الآية في سورة الجمعة، فضحك من في المجلس، يقول الشيخ: وما كنت أقصد ذلك، وأخشى أن يظن بي ذلك، فأريد أن أبيّن له حقيقة الأمر، يقول الأخ إبراهيم: فسألت عن الرجل، وعرفت أنه يسكن في مدينة لا تبعد عن عنيزةَ كثيراً، وأخبرتُ الشّيخ ففرحَ ودعا لي، ثمّ قال: لننطلق إليه، فذهبنا إلى تلك المدينة، وعرفنا منزله بعد السؤال، ثم طرقنا باب بيته، ففتح لنا أحد أبنائهِ، فسألنا عن أبيه، فقال: هو مريض على الفراش ولكن تفضّلوا، فلما دخلنا ورأى الشيخ فرح به وحياه، وبعد السلام والّتحية والسؤال عن الحال، ذكّره الشيخ بتلك الحادثة، وسرعان ماذكر - مما يدّل على أنها قد أحدثت في قلبه شيئاً- فبيّن له الشيخ حقيقة الأمر وأنه لم يقصد الإساءة التي فاه بها ذاك الرجل - سامحه الله - وسُرّ المريض بما سمع من الشيخ وقال: مافيك شكّ يا أبا صالح، وشكر الشيخ كثيرا... .
يقول إبراهيمُ: فلمّا خرجنا من عنده، رأيت أساريرَ الشّيخ تبرقُ فرحًا ،!
وكأنه ألقى عن كاهلهِ حملاً ثقيلاً !. والآن سل نفسك أخي القارئ، مالذي حمل الشّيخ على هذا الفعل؟!.
سرعة البديهة..
وبعد تلك المقالات التي ألقاها الشيخ في النّادي الأدبيّ ذاع صيته، وفشا ذكره على ألسنة الطلبة والأساتذة من داخل الدار وخارجها، وعُرفَ بينهم بعذوبةِ المنطقِ، ولطافةِ الرُّوحِ، وفكاهةِ الحديثِ، وسرعةِ البديهةِ، ويذكرون لك في ذلك حكايات وقصصاً، تذكرك ببديهةِ ابن صاعد البغدادي الذي قال على الفور لمنصور بن أبي عامر لما جاءه بباكورةِ وردٍ في أولِ إبّانها لم يستتمّ فتح ورقها:
أتتك أبا عامرٍ وردةٌ
يذكِّرك المسكُ أنفاسَها
كعذراءَ أبصرها مبصرٌ
فغطّتْ بأكمامِها رأسَها
أوببديهة ابن عُنين الذي قال على الفور لما سقطت حمامةٌ في حَجر الفخر الرازي أثناء درسه فرقاً من الجوارحِ الّتي كانتْ تطاردُها:
من أنبأَ الورقاء أنّ محلَكمْ
حرمٌ وأنّكَ ملجأٌ للخائفِ
وفدتْ إليكَ وقد تدانى حتْفُها
فحبوتَها ببقائِها المستأنفِ
ومن تلك القصصِ الّتي تنقلُ عن الشّيخِ في ذلك، هذه القصّةُ الّتي سمعتها برواياتٍ متعددةٍ مع اختلافٍ يسيرٍ، أرويها لكم كما حدّثني بها أحدُ المشايخِ الفضلاء قال:
انتقل الشَّيخُ إلى مكة للدراسة في كلية الشريعة، وهناك أكبّ على مطالعة الكتب والمجلات بشكل ملفتٍ، حتى أنّه كان يحضر معه بعض تلك الكتبِ والمجالات أثناءَ دراسته بالكلية، ومرّة في درس النّحوِ جلس الشَّيخُ في آخرِ الفصل ؛ ليقرأ مجلة الرسالة الّتي كان حريصاً قراءتها، وقبل نهايةِ الدّرس، فاجأه الأستاذ بقوله: لِمَ لا تكون معنا يا شيخ عبدالله ؟
فردّ الشيخ على الفور قائلاً: أنا معكم يا أستاذ، وقد ذكرت لنا أن (لم) لا تدخل على الفعل الماضي وهذا يخالفُ ما قاله النّاظمُ:
وجوّزوا دُخُولَ لمْ على المُضِيْ
كلَمْ دَعَا وَ لمْ سَعَى ولَم رَضِيْ
فما توجيه ذلك؟.
فلمّا سمع الأستاذ البيتَ وجمَ لحظةً، ثمّ تجاهلَ السّؤالَ، ومن حسن ِحظِّهِ أنَّهُ كان في آخر المحاضرة، فانطلق مسرعاً إلى المكتبة وهو يعلم علمَ اليقين أن (لم) لا تدخل على الماضي، ولكن قول الشيخ عبدالله أحدث في نفسه شيئا ؛ لعلمه بثقافة الشّيخِ وعلمِهِ، ولحسنِ سبكِ الشّيخِ للبيتِ، فأخذ الأستاذُ يقلّبُ شروحَ الألفيةِ وحواشيها فلم يجد لهذا البيت أثرا، فرجع إلى ا لشّيخ عبدالله وقال :أين ذكر النّاظم ذلك البيت يا شيخ عبدالله ؟! فقال الشُّيخ: أنا ذكرته تخلّصاً... فضحك الأستاذ واستظرفَ ذلك منه.
(10)
مع الصلاة ....
كان الشَّيخُ رحمه الله يستوعب الزمان في الصّلاةِ والذّكرِ والعلمِ، وكان رحمه الله إذا خلا يطيلُ الصلاةَ، ويأنسُ بالذّكرِ، كحالِ السَّلفِ رحمهم الله، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تغلق عليها بابَها ثمّ تصلي الضّحى وتطيل .
وكانت الصّلاةُ تشغل باله كثيراً، ويهتمُّ لها اهتماماً بالغاً، وربّما ظهرَ أثرُ ذلك الاهتمامِ عليه واضحاً، وفي الّليلةِ الّتي قُبض فيها رحمه الله ما كان يفكر ولا يتحدثُ إلا عن الصّلاةُ، فإذا أفاق من إغماءته يقول: هل وجب الوقت ؟، ثمّ يغيب عقله، فإذا أفاق سأل هل صليت ؟، ثم يغيب ...، فإذا أفاق يطلب العفور ليصلي وهكذا ... إلى أن مات رحمه الله، وقبل موته بشهرٍ تقريباً، كان كثيرا ما يلهجُ بدعوةٍ سمعها منه الكثيرُ، بل وحتّى في لحظاته الأخيرة وعند ذهابهِ للمستشفى سُمع وهو يغمغم بهذه الدعوة: «أسأل الله أن يختار لي ما اختاره لعباده الصالحين»! .
فأسألُ اللهُ بمنّه وكرمهِ أن يلحقَهِ بعباده الصالحين، وأن يجمعني وإياكم به في مستقرّ رحمته.
وأشدّ شيء يؤلمه في هذه الحياة الدّنيا فواتُ الصّلاةِ أو ركعةٍ منها!، ومن كان هذا ألمه، فثق أنّ الإيمان قد تغلغلَ في أعماقِ قلبهِ، وهذا ما نرجوه للشّيخِ عبدِاللهِ، قال الحسن البصريّ رحمه الله: «المنافق إذا صلى راءى في صلاته، وإذا فاتته لم يأس عليها، ويمنع زكاة ماله» نعوذ بالله من ذلك.
وفي يومٍ من الأيام تأخّر الشَّيخُ عبدالله في وضوئه للصّلاةِ، وما انتهى إلا والنّاسُ يخرجون من المسجد، لقد فاتته الصّلاة ! فآلمه ذلك كثيراً حين رأى المصلين يخرجون من المسجد، فقال على البديهةِ من حرِّ ما يجد:
إذا العمريُّ عجّلَ بالأذانِ
وجاء الشيخُ يدرجُ كالحصانِ
فلا تعجبْ إذا فاتتْ صلاةٌ
تولَّى أمرَها مستعجلانِ()
ولمَّا بلغَ هذانِ البيتانِ الشّيخَ عبدَالله بنَ عقيل -رحمه الله- أتمّها بقولهِ:
خصوصاً للموسوسِ في وضوءٍ
مجاوزا الثلاثَ إلى الثّمانِ
فلو أنْ قدْ تعوّذ شرَّ نفسٍ
ووسواسٍ وقي شرَّ التّوانِي()
وأجابَهُ أيضاً الشَّيخُ سامي الصقير -حفظه الله- بهذه الأبيات الجميلة:
فبادرْ بالحضورِ إلى الصّلاةِ
ودعْ عنك التشاغلَ والتّوان
يتأهّبْ للصّلاةِ قُبيلَ وقتٍ
وأسرعْ في مجيئكَ كالحصانِل
إدراكِ الصّلاةِ وراءَ شيخٍ
يصليْ الفرضَ من حينِ الأذانِ
وأجابهُ ثالثٌ بقولهِ :
إمَامِيْ راضَهُ في ذا ابنُ سَعْدِي
وما روضُ الأصيلِ سوى الهجانِ
مجيءُ الشّيخِ محفوظٌ بوقتٍ
دقيقٍ دونَهُ حدُّ السِّنانِ
ولكنْ خانَكَ النَّظرُ الكليلُ
فغرّك في الدّقائقِ والثّواني
(11)
في المدرسة السعودية...
في عام 1372ه اكتملَ بناءُ المدرسةِ السعودية، فرغبَ القائمون على التّعليمِ في ذلك الوقتِ، أن يقيموا حفلاً بهذه المناسبةِ، وبالفعلِ تمّ التنسيقُ لهذا الحفلِ، وحُدّدَ موعدهُ في 3 من صفر عام 1372هـ.
وَ كَانَ الشَّيخُ عبدالله الفالح أحدَ المشاركين في هذا الحفلِ، وله فيه مشاركتان :
الأولى: قراءة القرآن في بداية الحفل.
والثانية: إلقاء قصيدة بهذه المناسبة من إنشائه.
بدأ الحفل، وبدأ الشيخ في تلاوة آيات من القرآن، انْصتَ الجميع وأصغوا لما يُتَلى، إلا أنّهم تفاجؤوا بالطريقةِ التي قرأ بها الشَّيخُ ؛ إذ لم يقرأْ القرآنَ بالطريقةِ النّجديةِ المعهودةِ، وإنّما قرأهُ بالطريقةُ المصّريةِ !، كقراءةِ المقريءِ مصطفى اسماعيل أو المنشاوي أو الحصري أو الطبلاوي... .
ويبدو أن الشيخ قد تأثر بهؤلاء القراء من خلال سماعه لقراءتهم في المذياع «الراديو»، وظلّ الشَّيخُ يقرأ بتلك الطريقة أحياناً حتّى في كبرهِ رحمه الله !، يعرف ذلك كلُّ من دنا منه بعدَ أن يخلوَ المسجدُ من المصلين.
قصة المذياع «الراديو»...
وللمذياع في ذلك الوقت قصّةٌ وأيّ قصّةٌ!.
يقولُ أحدٌ المشايخِ وهو أحدُ أقرانِ الشيخِ عبدِالله الفالحِ:
أولُ مذياعٍ اقتنيتُهُ وأنا صغيرٌ جاءني من قريبٍ لي في البحرين، فكنت أقضي معه جلَّ الوقت، حتى صرت ماهراً في معرفةِ المحطّات، بل كنتُ أهدى من القطاةِ لبيضها في سرعة الوصول لتلك المحطّات، وكنت أدعو زملائي لينظروا إلى هذا المخلوقِ العجيب، فيتحلقون حوله، ويتعجبون من الصّوتِ الذي يخرج من فمهِ المخبأ خلفَ القماشةِ، ومن كثرِةِ الّناطقين فيه بمجردِ تحريكِ المؤشِّرِ من موجة إلى موجة، فينظرون إلىّ وقد اعتراهم نوع ٌ من الوجومِ من شدةِ الدّهشِ والعجبِ!.
ولم يُخفِ الشاعرُ الكبيرُ عبدالله السناني رحمه الله عجبَهُ وإعجابَهُ بتلك الآلةِ الغريبةِ في ذلك الوقتِ فقال:
وانظرْ إلى المذياعِ فهو عجيبة
ٌجازَ الاباطحَ صوتُهُ والأبْحُرَا
في كلِّ رقمٍ منه صوتٌ صادرٌ
عن ناطقٍ خلفَ القماشةِ لا يُرى
فالعلمُ لا تُحصى له حسناتُهُ
هي لا براحَ أشمّ مِنْ أن تُحْصَرا()
بل إن بعض النّاس في بعضِ المناطق، ظنوا بالراديو الظنون السيئة كقولهم:
إنه يتعامل مع الجنّ !، وقال أحدهم: بعد طولِ تأمّلٍ، وبعد أن كشف عن ظهر المذياع، ورأى الأسلاك الّتي بداخله: لا... لا بل هو سحرٌ ورفع عقيرته بذلك تأكيداً للنتيجة التي وصل إليها ؛ لأنه أبصر العُقَد «الأسلاك» التي بداخله، وبمجرد أن حلّ «العقد» التي بداخله وهو يقرأ وينفث، خمد صوتُ الشّياطين، وبطل سحرُ المشعوذين !، وبمثل هذا ظنوا بالبرقيّة حين جاءت.
وإن كنت لا تصدّق ما أقول، فتعال معي لنقرأ هذه القصّة الّتي سطّرها معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر عن حافظ وهبة حيث قال :
«كنّا في المدينة بعد توحيد المملكة، وصلينا الفجر في المسجد النبوي، أنا والشيخ عبدالله بن حسن، فقال لي عرضًا: إن في نفسي شيئاً من هذه البرقية، يقول أناس إنها لا تعمل إلا إذا ذبح عندها تيس أسود .
فقلت له: يا شيخ عبدالله، دعنا نذهب الآن ونتحرى عن هذا الأمر بأنفسنا، ونراه بأعيننا سوف نجد عمال البرقية نائمين، ولا يستيقظون إلا عندما تصلهم الشمس، وسوف نوقظهم، وقبل أن يغسلوا وجوههم سوف نطلب منهم إرسال برقية للملك عبدالعزيز، ونجلس عندهم حتى يأتي ردها، وسنرى إن كان هناك تيس أسود يذبح أم لا.
فذهبنا ,ووجدناهم كما توقعت، يغطون في نوم عميق في ( حوش البرقية ) فأيقظناهم، وأرسلنا للملك عبدالعزيز برقية، وقام العمال وأدوا صلاة الفجر، وبعد وقت جاء الرد من الملك عبدالعزيز، فقلت للشيخ: هل رأيت تيسا يذبح ؟، أو هل رأيت تيسا البتة ؟، ولو كان فكان لابد أن يكون هناك (حوش) لهذه التيوس، ثم لو كان الأمر كذلك لرأينا أرضا مثل أرض الحرة سوادًا من كثرة دماء التيوس التي تذبح، ثم دعنا ندور حول الحمى، ونرى هل هناك ما يدل على شئ مما يقوله الناس .
فآمن – رحمه الله – أن الأمر غير حقيقي، وكان يكرر كلمة التقوى والإيمان: حسبي الله ونعم الوكيل».
وبعد ذلك تغيّر الزمان، وتقدّمت التكنولوجيا، وظهر البون الشّاسع بين ذلك الجيل وهذا الجيل، وما عليك إلا أن ترفع رأسك قليلا، وتنظر إلى طفلك ؛ لترى الفرق بنفسك، فستجده محاطا بالأجهزة الغريبة جدا – والتي لا نشعر بغرابتها – من كلّ جانب، قد تحلقت حوله لكثرتها وتنوعها، ونحن أيضا قد اخْتُصرتْ لنا كثيرٌ من الأجهزة في جهازٍ واحد.
ليس على الله بمستنكرأن يجمع العالم في واحدفتجد المذياعَ والتلفازَ والمسجلَ والحاسوبَ والساعةَ والفاكسَ وما لا أعرف، تجد هذه كلَّها قد جُمِعتْ لك في الآيفون أو في الجالكسي أو فيما لا أعرف!.
فهل شكرنا ؟! .
(12)
قصيدة موكب النور ...
وأمَّا مشاركة الشيخ الثانية فكانت هذه القصيدة، والتي نالت إعجاب المستمعين، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السّعدي رحمه الله:
طلعَ الصباحُ فهل رنوتَ إلى هن
الترى السّنا الرّفاف يهتف بالمنى
يختالُ بالأفقِ الرحيبِ كأنما
كشفت له الأيامُ مما استبطنا
فمضى يتيهُ على الزمانِ وأهله
ويُريقُ لحنَ البشرِ في سمع الدُّنى
ويطلُّ من أعماقه روجُ الرضا
فيشيدُ بالأمل البهيج ملحّنا
مستبشراً فيما رأى متفائلاً
مما بدا متهللاً لمّا رنا
ألقى له الأملُ الضحوكُ زمامَه
فأتى به جذلانَ يمنحه لنا
فانظر الى الحشد العظيم وقد أتى
ليخلّد اليوم السعيد لحفلنا
يوم به تحلو أغاريد المنى
ويصافح المجد التليد المحسنا
وترفرفُ الأطيار في وكناتها
فرحاً بمقدمه ويرتعشُ السنا
ويرتل الوطن الحبيب على الملا
أغرودة يشدو بها متفننا
يسخو بها من قلبه في نغمةٍ
يُصغي لها النائي البعيد ومن دنا
فاسمع إلى أنشودة الفخر الذي
قد لاح في سِفر الخلود مدونا
وانظر إلى هذا البناء وقد بدا
في روعةٍ بهرت رؤاها الأعينا
واسأل فؤادك من تُرى قد شادها
حصناً لأبناء البلاد ومأمنا ؟
العلم فيه على الذرا متربع
والجهل يُنبَذُ في التراب مكفّنا
يتفيأُ النشء العزيز ظلالها
وينال من أثمارها طيب الجنى
ويعيش في أفيائها متخطياً
سُبل الصعاب الى العلوم بلا ونى