صدى الهمهمة ">
أبحث عن نص مميز ومختلف، أرهقني التفكير حتى وجدتُ المبروكة متعثرة الخطوات في شوارع ذاكرتي غير المرصوفة. أخذت بيدها، كنت دليلها، خرجت بها وهي تتكئ عليّ.
صفعه؛ أفاق، غرق في الدموع والنحيب، حكى ثم غاب عن الوعي..
(عمري تسع سنين، يوم صِحيت قريب الفَجُر، الدنيا بَرِد، بِي كَشْكَشَة كُرعِين في الزقاق، الهوا التقول يِقْلَع الشجر، الكُرعين كُرعين مَرَة، لأنها كانت تتكلم بي صوت خافت.
أول ما عرفتها، لكن بعد قليل تأكدتَ أنها المبروكة، فتّحتَ عِيُونِي، كان الرقْرَاق يضوي الأغرفة، دخل بي شباك الخَشَب المفتوح على الزقاق).
كانت تردد: أسلم...
(ما سمعتن بي أسلم)
سوّن ليها كَدِي... فَعِّلَن ليها كَدِي
تأكد من أنها المبروكة، لكن ما قصة أسلم؟
سألها من وراء الشباك: من فعل ذلك؟
أجابته وهي تلوك طرف ثوبها الأخضر المهترئ، تحُك شعرها الأشعث ببلاهة:
فلانة.. وفلانة.
وصمها بالجنون. غالبه النعاس، ونام.
تذكر جداته قبل شهور، لما كُنّ جميعاً هناك تحت شجرة النيم العتيقة، تتوسطهن أسلم، يرسلن المبروكة لقضاء بعض حاجاتهن، أسلم تغني بصوتها الرخيم، ولِد ووجدها ضمن أفراد أسرته، لا صلة دم تربطها بهم.. يناديها (حبوبة).
كانت والأخريات يغزلن القطن، ويضفرن السعف بروشاً وسجادات ونطوعاً، يخطن الصوف (طواقي)، تأتي تاجرة تصغرهن في السن تأخذ ما ينتجن وتعطيهن نقوداً تكفيهن ليعشن في رغد. حبوبة (زهرة) و(الله معانا) تجيدان الطبخ وتحبان اللحم، تطبخانه، ويأكلنه، يهضمنه بمشروب (العيش) ومن فترة إلى أخرى يصنعن مشروب البلح المعتق. يومها أكلن نصف خروف، شربن الكثير من البلح، غنت أسلم أجمل أغانيها بأعذب صوت، ثم صمتت لبرهة.
لم يحتملن صمتها، أردن تنبيها.. (انقلبتَ على جنبتي التانية، لسة المبروكة حايمة في الزقاق). تثاءب وهو مغمض العينين، أذن الفجر، دبت الحياة في الشوارع، صحا كل أفراد أسرته، نام هو، يحلم.. يهذي.. يصرخ: حبوبة أسلم.. أسلم خانقنيي خنقته..
فطالبته بأن يثأر لها:
(ما كُتْ بَغَسِّل ليك
ما كت بديك قروش)
صرخ وفقد الوعي. هرع إليه الجميع، حتى (زهرة) و(الله معانا) بخطواتهما البطيئة. رشته والدته بالماء، أفاق ليستأنف حياته اليومية.
أول ما طلع حوش البيت وجدها تنتظره تحت شجرة النيم التي اعتادت الجلوس تحتها، تنظر إليه صامتة. هرول ماراً أمامها، تعداها، التفت إلى مكانها علها غادرته، لكنها ما زالت هناك تسأله عينيها الثأر. يمشي إلى الأمام، ينظر إلى الخلف، وقع وهو يهذي؛ أصابته الحمى.
ذهبت به والدته إلى خلوة الشيخ في الجامع. ذلك المبنى الطيني العتيق ذو الرائحة المميزة. استقبلهم الشيخ بوجهه الوضيء وابتسامتة الوقور، قدم إليه بلحاً وحلاوة دربس، طمأنه.. قرأ وهو يضع يده على رأسه آيات السحر، ولكنه ما زال يهذي.. رشه بالمحاية ولم يفق. صفعه؛ أفاق، غرق في الدموع والنحيب وحكى أن المبروكة تقول: أسلم.. ما سمعتن بي أسلم؟
(خَتَّنْ ليها الفليقة .. جَلَّطَنْ ليها الوديكة)
سألها: منو خت ليها الفليقة؟ وجلط ليها الوديكة؟
أجابته: حبوباتك (زهرة) و(الله معانا)، يوم أكلن الخروف وشربن البلح، يوم ماتت أسلم. حكى ثم غاب عن الوعي.
همهمت المبروكة وكان لهمهمتها صدى.
- سارة حمز الجاك