د. يوسف حسن العارف:
ببساطة القرى، ونكهة القشر الضمدي، والمغش الجازاني، تأتينا (بنت ضمد) حظية عبده خافي بهذه الباقة القصصية، الموسومة بـ «أسطورة بلاد النور» الصادرة عن نادي جازان الأدبي عام 1430هـ!!
لا أدري ما الذي شدني لقراءتها، غير أني رأيت في عتبتها التعريفية بالمؤلفة -في آخر المجموعة-، ما لم أره لدى كثير من بنات حواء.. إنها تعترف بعمرها.. وسنة ميلادها 1980م، فأين بنات جيلها الواثقات المعترفات!!
مجموعة قصص قصيرة تؤلف بينها المبدعة حظية خافي لتشكل هذا السفر القصصي بعنوان لافت ومثير: «أسطورة بلاد النور» وهو عنوان إحدى القصص المنشورة في المجموعة ص ص42-46.
هذه العنونة المتسمة –نحويا- بجملتها المفيدة من مبتدأ «أسطورة» خبره شبه جملة / مضاف ومضاف إليه «بلاد النور» تحيلنا-دلاليا- إلى ما بداخل النصوص الستة عشر من فضاءات اجتماعية وحالات فردية، وشخصيات حكائية، وأحداث زمكانية.
ولعل هذه القصة الرئيسة - التي تحولت إلى عنوان للمجموعة القصصية كلها – تعطينا بعض المفاتيح والشفرات الدالة على قدرة التحول من عنوان داخلي إلى عنوان خارجي يؤطر المجموعة كلها.
إن قصة «أسطورة بلاد النور» توحي بذلك الارتباط الاجتماعي بين الأجيال، جيل الجدات وجيل الأحفاد من خلال فعل «الحكي» فالجدة –التي لم تسمى- راوية، تنقل الأفكار والمعلومات إلى جيل الحفيد الذي أسمته القاصة (أكرم)، ومن خلال تلك الأفكار تحصل الإسقاطات على حاضر الحفيد وواقعه المرير والرسائل الضمنية والأخلاقيات التوجيهية.
وهنا نلاحظ العلاقة بين الشر الذي يمثله (حاكم بلاد التنين) والخير الذي يمثله الفقير (زين) ودور الجدة -الراوية- في التأصيل لمبدأ الخيرية في نفس الحفيد من خلال نبتة وردة المساكين «التي تنبت في أرض غير مرئية، تسقى من ماء الوفاء والمحبة، وتفوح منها رائحة الإخلاص، ومن يمتلكها يكن أغنى أغنياء الأرض».
هذه النبتة كانت موجودة في زمن الجدات، وقلت في زمن الحفيد، وستختفي في زمن حكام الشر الجبابرة والمتسلطين، وهنا يتشكل الزمن القصصي مابين زمن ماضي وزمن حاضر وزمن مستقبلي!! وهو ما يسمى بالزمن الاسترجاعي، والزمن النفسي الحاضر!!
إن تواجد (الجدة) في هذه القصة له امتداد وتشظي في قصة أخرى من المجموعة وهي قصة العنقود ص ص5-7/ (وتذكرت ما روته جدتها أكثر من مرة عن البيت المهجور)، مما يدل على دور الآباء والأجداد في نقل المعرفة والعلم للأحفاد والأبناء.
كما نجد تشظيات هذه القصة في غيرها من القصص من خلال دلالات الغموض والسرية والكشف والستر والحجب، فإذا كانت هذه الآفاق موجودة في قصة أسطورة بلاد النور من خلال كلمة أسطورة التي تعني الخفاء والأسرار والأعاجيب، ومن خلال مفهوم ومعنى (وردة المساكين) المخفية عن كثير من الناس و بعدها في بلاد النور، ومن خلال مصطلح التنين ذلك الكائن الحيواني الأسطوري ومن خلال الصندوق الأساس وما فيه من ورق شجر يخفي شيئا لم تعلن الجدة ولا القصة ولا الرواية. والصندوق الجديد الذي لم تكتمل القصة بشأنه.
في نفس الوقت نجد تشظيات لهذه السرية والحجب والغموض في قصص أخرى مثل اسرار البيت المهجور في قصة العنقود، أسرار المغارة المهجورة في قصة تلك القرية، أسرار القبو في قصة المبلغ وقصة ذو اليد المقطوعة.
ولعل ما يقابل تلك السرية والحجب والغموض والظلامية، تلك الجزئية الأخيرة من العنوان جملة «بلاد النور» وهي البلاد المضيئة علما ومعرفة خلقا وارثا اشعاعا ونورانية، هي تلك الأرض التي تنبت فيها نبتة (وردة المساكين) التي عرفنا سماتها (الوفاء والمحبة والإخلاص والغنى).
إن الثيمة الأساسية في هذه القصة هي الصراع بين الخير والشر وهذه الثيمة تجدها تتمدد في أغلب قصص المجموعة انظر-مثلا- قصة شيماء تبكي، الاربعاء القادم، راحة اليد ... وغيرها.
من أجل كل هذه التشظيات الحدثية والدلالات الرمزية التي كان مصدرها هذه القصة الجميلة في المجموعة والتي اشتغلت عليها القاصة بكل التقنيات الفنية للقصة القصيرة أسلوبيا وجماليا – فاستحقت هذه القصة وعنوانها الشاعري أن تتحول من قصة داخل المجموعة إلى عنوان دال ومؤثر على كامل المجموعة . وهذا اختيار موفق يدل على حضور العتبات العنوانية وقيمتها المعرفية والتنويرية في ذهن وتصورات الكاتبة/ القاصة .
الملاحظ في هذه المجموعة أن أسماء شخصياتها وأبطالها لا ينتمون إلى المسميات المتداولة في المجتمع المحلي قديماً (جازان-ضمد)، وإنما تنحاز إلى الأسماء المعاصرة والحداثية, وفي هذا ما يشي بواقع القاصة واستشرافها للتغيرات المرحلية التي يعيشها المجتمع الجازاني.
وبإحصائية عابرة وجدنا (17) اسم أنثى، وكلها أسماء معاصرة مثل حنين، مي، شيماء، سمر،نور،يارا، أمل، سارة،زين، وفا ء ولم نجد مثلا شوعية، عيدية، سالية، عيش، مردفة .كما وجدنا (20) اسم ذكر وكذلك هي أسماء عصرية مثل أسامة، عصام، عمرو، أكرم، هشام، ولم نجد مثلا شوعي, دعشوش، عطيف حواس, محنشي, هداش. وفي هذا دلالة على الحداثة والمعاصرة والمستقبلية أكثر من الماضوية والتاريخية!!
كما نلاحظ احتفاء القاصة (بالمكان السردي) في جميع قصص المجموعة، حيث تشير إلى أمكنة فعلية أو إشارية (ضمنية ), فمثلا نجد البصمة القروية على الأماكن مثل/ تعريشة بيت الجيران, المدرسة, البيت المهجور في قصة العنقود وقصة عصا الخيزران.
مكتب المدير المصعد في قصة غفوة
الشارع في قصة لم أكن اقصد
القرية المغارة الوادي في قصة تلك القرية
المزرعة المنزل في قصة الأربعاء القادم
مكان شروق الشمس في قصة غصون
مكان رعي الغنم في قصة شيماء تبكي
القبو الغرفة في قصة المبلغ
بلاد النور في قصة أسطورة بلاد النور
الشجرة في قصة القطة
الشاطئ في قصة الحلوى
إن هذه المكانية في قصص المجموعة مؤشر حقيقي على أن المكان أحد أبطال القصص وأحد مكوناتها الجوهرية ذات العمق الغرائبي والأسطوري للمخيلة القرائية . وهنا نجد أن المكان والأمكنة في قصص هذه المجموعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعادات والتقاليد المجتمعية التي تؤثر في الكيان السردي وتؤطره بكل دلالات الحدث القصصي الذي يحرك المياه الراكدة على لسان الراوية / كاتبة القصة!!
وفي هذا السياق أشير سريعا إلى قصة ذو اليد المقطوعة وقصة القطة، وقصة لم أكن أقصد, إذ نجد فيها تلك الروح الانسانية والمشاعر الجميلة تجاه الحيوات التي تشارك الانسان في هذه الحياة.. والتقاط القاصة لهذه المشاعر والأحداث وبلورتها قصصيا ومعالجتها حكائيا دليل واضح على الروح الإنسانية من المشاعر العاطفية للكاتبة!!
وأخيرا فهناك كثير من الجماليات الأسلوبية والرموز والدلالات التي تتفتق عن هذه المجموعة القصصية لا يسعفنا الوقت باستعراضها أو تحليلها من مثل: المداخل النفسية والصحية التي يعيشها أبطال المجموعة القصصية وهنا إشارات واضحة إلى واقع القاصة وتخصصها الصحي فهي خريجة معهد التمريض الصحي بجازان عام 1423هـ كما جاء في سيرتها الذاتية ص61.
ومثل تنائيات التجلي والغموض، النوم واليقظة، السر والعلن ومثل أنسنة الأشياء المعنوية أو الحيوانية, ومثل النهايات المفتوحة التي تحث القارئ على المشاركة في النهايات والإكمال.
وعلى كل حال.. فإن هذه المجموعة القصصية تشير إلى بدايات موفقة لكاتبة قصة سعودية ينتظر منها المزيد والأجمل في مجال القصة القصيرة، واعتقد أنها مهيأة أيضا لكتابة الـ(ق.ق.ج) أو ما أسميه النص البخيل وكذلك الوصول إلى كتابة الرواية لأنها تمتلك القدرة اللغوية والخيالية والآفاق السردية . وهذا ما ننتظره في قادم الأيام!!