أصبحنا كل صباح نستيقظ على صورة مؤلمة تختصر جانبًا من المآسي في عالمنا العربي. فصورة الطفل السوري الغريق، الذي ألقاه الموج على الساحل، بقدر ما هي مؤلمة بوضعيته منكبًا على وجهه، فإنها معبرة بتفاصيلها، بحذائه الذي ألبسته أمه إياه بعناية. إنها صورة يعجز أي فنان تشكيلي عن رسمها مهما كانت سعة خياله، فلطالما كانت السواحل للإجازات والاسترخاء، جاءت هذه الصورة الفريدة التي لا تحتوي حتى على قطرة دم، مدوية ومؤثرة، فكأنما الأمواج ترسل صورة لافتة بمأساويتها إلى العالم كله، عبر شاشاته وصحافته وشبكاته وأدوات اتصاله الحديثة، الأمواج العاتية تلطم ضمير العالم بطريقتها الخاصة.
لكن لماذا هذه الصورة بدت كأنها مفاجئة؟ كأنها فوق الخيال، فلم يتوقعها أو ينتظرها أحد؟ ونسي العالم أنها صورة من سلسلة صور.. تحمل آلاف القصص المؤلمة، إنها إحدى نتائج حرب الأسد ضد الشعب السوري خلال السنوات الأربع الماضية.
آلاف اللاجئين انتصروا على البحر، واجتازوا عقبات، هاربين يائسين من حياة لم يعد فيها معنى أو أمل. ثم يستوقفنا الإعلام مرة أخرى بمرحلة ما وراء البحر، بمصورة مجرية تعيق حركة اللاجئين، فالتقطت لها عدة صور وهي تركل أبًا يحمل طفله فتوقعه منكفئًا على الطفل، وتركل طفلة صغيرة، وكأن هذه المجرية نسيت تاريخ بلدها هنغاريا عندما هرب المجريون عام 1956 من هيمنة الروس وأصبحوا لاجئين في يوغسلافيا والنمسا.
كانت المصورة المجرية بشعة ومقززة بسلوكها العدواني، لكنها جزء صغير من حكاية طويلة لشعب أعزل، يواجه حاكمًا دمويًا، استقر في مخيلته أن مصير شعبه وبلده يتماهى مع ذاته وسلطته.
لعل الجانب الإيجابي هنا، هو تركيز الإعلام على صور اعتدائها، مما حدا بالقناة التي تعمل فيها لطردها.
وما بين الطريق الطويل عبر البحر الذي قد يلتهم عابريه، ثم يلقي بهم على سواحله، والطريق البري عبر حقول الذرة ،الذي قد تتوالى فيه الركلات، يمكن أن يساقوا في قطارات مزدحمة نحو معازل لم يختاروها.
شمعة آخر النفق اشتعلت لهم في ألمانيا، التي تجاوزت تاريخها فطوت صفحة النازية والعنصرية والكراهية، عندما كان يهرب منها أهلها قبل عدة عقود، وانتصرت في فتح صفحة جديدة ليدون التاريخ فيها مواقف مشرقة، فأضحت مقصدًا للأمل لبناء حياة مستقرة وعملية.
لعلّه من المضحك والمبكي أن نذكر أنفسنا، أين هي بداية القصة؟
السبعة أشهر الأولى وتحركات الشعب ومطالباته كانت سلمية، لكن النظام كان قد اتخذ قراره مبكرًا بممارسة العنف الأشد والأشمل، ثم تحول بقاء الأسد إلى صراع بين قوى سياسية إقليمية ودول عظمى لا تأبه للثمن الباهظ، الذي يدفعه الشعب من أمنه واستقراره واقتصاده فضلا عن حياة شبابه.
استمرت إيران وروسيا بالإعلان عن دعمهما لبقاء الأسد، وامداده بالدعم المالي والسياسي وبالمعدات العسكرية، وما كانت مأساة الشعب لتستمر لولا ذلك.
تدفق اللاجئون إلى دول الجوار الجغرافي: تركيا ولبنان والاردن، حيث دعمت السعودية ودول الخليج انشاء مخيم الزعتري، هذا بالاضافة إلى السماح للعائلات السورية المقيمة؛ رغم عددها الكبير؛ باستقدام اقاربهم.
ولما طالت الحرب وتفاقمت نتائجها السلبية ومآسيها، اندلعت شرارة اللجوء من تركيا إلى أوربا عبر اليونان المثقلة بمشكلاتها الاقتصادية.
أشعر تدفق اللاجئين الشعوب الأوربية أن شرق البحر المتوسط بمشكلاته السياسية ومآسية الإنسانية أقرب إليهم مما يظنون. . فلا عزلة ولا انفكاك، فاليونان الأوربية هي أولاً ودومًا متوسطية.
استقبلت ألمانيا أعدادًا كبيرة من اللاجئين، وبريطانيا وفرنسا أعدادًا أقل، ومازال اللاجئون يتدفقون، فلا تلوح في الأفق نهاية، واستمرارهم ليس حلًا لأزمة ضخمة بدت وكأن قوى اقليمية تسعى لتفريغ سوريا من شعبها، أو تغيير نسبة ديمغرافيتها المتنوعة، ليبقى الأسد وقلة مرتبطة مصالحها ببقائه يتحكمون في مصير وطن ومستقبل شعب.
ورغم إصرار «القيصر» الروسي على دعمه وامداده بالسلاح، فإن مآله السقوط، ويمكن تعجيل ذلك بدعم تتكاتف فيه دول المنطقة لكبح تفاقم التدخلات غير العربية.
العالم كله مدان بسبب سوريا، أكثر من أربع سنوات وهذا الشعب يطحن ويلام الآن لهجرته. الشعب السوري يريد أرضه ومزارعه وبيوته وأريافه، أعيدوا سوريا لهم، أيها العالم المتحضر: ليس كافيًا أن تستقبلوا اللاجئين، فسيظلون يغامرون بالرحيل ما لم تعد البلاد لأهلها.
فحال صوتهم يرددون الأغنية البلوشية..
«كم هي جميلة بلاد الآخرين، مليئة بالناس والثروات وأنهار من العسل، لكن الخشب الجاف في بلادنا خير من كل ما في العالم».
الهنوف صالح الدغيشم - طبيبة أسنان مبتعثة في ألمانيا