د. سعد بن عبدالعزيز الراشد ">
مع إطلالة حج هذا العام دشن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، طائرة الخطوط السعودية بوينج 300-777 وهي إحدى أربع طائرات اختيرت لتحمل صور المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وأبرز معالم المملكة التاريخية والسياحية، وقد تم خلال هذه المناسبة المهمة توقيع اتفاقية التعاون والشراكة الاستراتيجية بين الهيئة والمؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية، وذلك في مجال «برنامج عيش السعودية»، من أجل دعم السياحة كمشروع وطني له أبعاده المعرفية والتاريخية والاقتصادية والاقتصادية والثقافية على الصعيد الداخلي من جهة وإطلالة على العالم بمهنية عالية وبأسلوب جديد لتعريف العالم بمملكتنا الحبيبة، وبأهميتها قبلة للمسلمين، ومهد حضارات تراكمت على أرضها على مرّ القرون والحقب التاريخية. إن هذه المبادرة التي قادها سمو الأمير سلطان بن سلمان للتعريف بتراث المملكة وتاريخها الحضاري وبعده الاقتصادي، تعكس مرحلة جديدة لخلق نقلة توعوية وتثقيفية رائدة للربط بين المحلية والعالمية في سبيل تعزيز التعريف بتراث المملكة وتاريخها المجيد.
إن الرسالة والمهمة والرؤية التي يقودها الأمير سلطان بن سلمان في سبيل توطين السياحة الوطنية والتعريف بتراث وثقافة الوطن محلياً وعالمياً يأتي ضمن سلسلة من العمل التراكمي- الذي شهدته هذه البلاد المباركة- والذي يمتد من عهود أئمة وملوك الدولة منذ أكثر من ثلاثة قرون، فقد شهدت فيه تلك الفترة الازدهار العمراني، وتأمين الطرق، وأمن الحجاج والمسافرين عبر الجزيرة العربية، وبقيت آلاف المواقع التاريخية والآثارية القديمة والإسلامية في مواضعها دون مساس، ومنها الكتابات والنقوش والرسوم الصخرية والدوائر الحجرية والمدافن ومدن القوافل التجارية القديمة. وقد تم الاستفادة من المعالم التاريخية والأثرية القابلة للتعمير مثل المساجد، وطرق الحج والتجارة، والحصون والقلاع والمباني، وموارد المياه من آبار وعيون وسدود وغيرها. وبعد توحيد المملكة العربية السعودية في عهدها الثالث، وضع الملك عبد العزيز-يرحمه الله- خطة مستديمة لتسيير أمور الحج، ومشروع عمارة وتوسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وتطوير المشاعر المقدسة، وتَعَهُد المساجد التاريخية المأثورة بالعمارة والتحسين، والمكتبات الوقفية، والاهتمام بمرافق المياه القديمة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتشييد سبل المياه ومرافق الخدمات على طرق الحج بين مكة وجدة، وبين الرياض ومكة، ولا زالت هذه المآثر باقية حتى اليوم، وشهد عهد (الملك عبد العزيز) مرحلة مهمة من الرحلات الاستكشافية عن آثار وتراث المملكة، قام بها رحالة وعلماء أوروبيون، وكانت تلك بدايات رسم الخرائط الجغرافية والجيولوجية عن المملكة تضمنت تثبيت المواقع الأثرية والتراثية البارزة، وبدأت في عهد الملك عبد العزيز ظهور كوكبة من المؤرخين والأدباء والرحالة السعوديين، الذين كتبوا عن مشاهداتهم وانطباعاتهم عن تاريخ المملكة وطبيعة أرضها ومكوناتها السكانية وموروثها الثقافي والتراثي من عادات وتقاليد، وشجع الملك عبد العزيز على تحقيق ونشر المصادر التاريخية الاسلامية المبكرة المرتبطة بتاريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة، والحج والمشاعر، وكذلك الاهتمام بالمكتبات الوقفية في المدينتين المقدستين، ومهّدتْ تلك الأعمال الجليلة لقيام نهضة أثرية وتراثية وثقافية في المملكة العربية السعودية.
ومن عهد الملك سعود ثم فيصل وخالد وفهد وعبد الله (رحمهم الله) وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز(وفقه الله)، شهدت المملكة مرحلة تكوين إدارة معنية بالآثار والمحافظة عليها، وبدأت الجامعات السعودية تعمل على تأسيس أقسام علمية مختصة بالآثار والحضارة الإسلامية. وتُوج هذا الاهتمام بصدور قرار الدولة بإنشاء «الهيئة العليا للسياحة» تأكيداً على اعتماد السياحة قطاعاً إنتاجياً رئيسيا في الدولة، خاصة فيما يتعلق بجذب المواطن السعودي للسياحة الداخلية، وزيادة فرص الاستثمار وتنمية الإمكانات البشرية الوطنية وتطويرها، وإيجاد فرص عمل جديدة للمواطن السعودي. ثم صدرت التوجيهات السامية المتوالية للنهوض بآثار البلاد وحضارتها بدءا بضم «وكالة الآثاروالمتاحف بوزارة التربية والتعليم « إلى «الهيئة العليا للسياحة»، بحكم أن الآثار مكون هام ورئيسي من مكونات السياحة في أي دولة في العالم، وبهذا تصبح الهيئة مسؤولة عن كل ما يتعلق بقطاع الآثار إلى جانب مسؤوليتها عن القطاع السياحي، وتلى ذلك تغيير مسمى «الهيئة العليا للسياحة» ليصبح اسمها الجديد «الهيئة العامة للسياحة والآثار»، تأكيداً على أن قطاع السياحة بالمملكة أصبح واقعا وطنيا تقف خلفه الدولة، ويستلزم قيام الجهات المسؤولة بالتخطيط لتطويره وتنميته، انطلاقاً من العديد من المقومات السياحية المتميزة التي تتمتع بها المملكة. وبصدور الأمر السامي بالموافقة على نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني، صدرت الموافقة السامية بتعديل اسم الهيئة العامة للسياحة والآثار إلى (الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني)، ليتوافق هذا المسمى مع الأنظمة الجديدة الخاصة بتنظيم نشاط الهيئة في مجال السياحة والتراث. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أحد القرارات المهمة التي أصدرتها الدولة وهو « مشروع خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري في المملكة»، ومن أهم عناصر هذا المشروع الرائد التأكيد بالمحافظة على مواقع التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة والمدينة المنورة، المرتبطة بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين-رضي الله عنهم- ويمتد هذا الاهتمام إلى المواقع التاريخية المرتبطة بهذه الحقبة في باقي أنحاء المملكة.
إن القرارات المتتابعة-المشار إليها- وغيرها كثير، تؤكد نظرة الدولة لقطاعين مهمين هما (السياحة والتراث الوطني) واللذان يشكلان وجهان لعملة واحدة، وهو امتداد للثقة التي وضعتها الدولة في (الهيئة)، هذه المؤسسة الوطنية، التي التزمت بأعلى معايير الأداء، وأسست لمنهجية إدارية في العمل الحكومي منذ تأسيسها، بالإضافة إلى تلبية تطلعات المجتمع السعودي لسياحة واعدة ومتطورة، ويعكس اهتمام الدولة بالهيئة كقطاع أصيل يرتبط بتاريخ المملكة، ويمثل قيمة حضارية لموقع المملكة في التاريخ الإنساني، وترسيخ الاهتمام بالتراث الوطني في نفوس المواطنين، وغرس قيم المواطنة، وتعزيز الانتماء لهذه البلاد الطاهرة.
وعودة إلى المبادرة الجميلة التي بدأنا بها هذا المقال، فإنه لا بد لنا من تقديم الشكر للخطوط السعودية على استجابتها لرؤية الأمير سلطان بن سلمان-رائد السياحة والتراث في بلادنا، ونأمل إن شاء الله أن تكون اتفاقية التعاون والشراكة الاستراتيجية بين الجهتين خطوة مباركة نحو مبادرات مستقبلية أوسع شمولية، والخطوط السعودية لها مبادرات سابقة ناجحة ومنها مجلتها الجميلة (أهلاً وسهلاً) التي تعد مرآة صادقة للتعريف بالتراث الحضاري للمملكة، وتصدر مع بداية كل شهر، حيث تتاح قراءتها للمسافرين على طائراتها ومكاتب السفر في الداخل والخارج. وتتكامل هذه الجهود المباركة مع النجاحات التي حققتها الهيئة في انفتاحها على المجتمع من خلال تأسيس مركز إعلامي مميز، يتولى التعريف ببرامج الهيئة وأنشطتها وأخبارها، وإصداراتها ومنها: نشرة سياحة وآثار سعودية، ومجلة ترحال (العربية) ومجلة (Voyager) باللغة الإنجليزية، والحقيبة الإعلامية، والتعريف بالبحوث والدراسات الأثرية ونتائج التنقيبات الأثرية، والبرامج التلفزيونية والإذاعية الموجهة للداخل والخارج، وإنتاج الأفلام التوثيقية عن تراث وحضارة المملكة. ونأمل إن شاء الله أن تثمر الاتفاقيات التي وقعتها الهيئة مع شركائها والتي بلغت حتى الآن (105) اتفاقيات إلى نتائج أكثر فاعلية للتعريف بتراث المملكة العربية ومنجزاتها الحضارية.
شكراً سمو الأمير سلطان بن سلمان على جهودكم ومبادراتكم الناجحة، ومن سار على الدرب وصل.
والله من وراء القصد..