نختتم اليوم مقال البروفيسور ناثان براون الذي يقدم لمحة سريعة عن مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - لتطوير القضاء السعودي.. ونشر المقال في 23 يناير 2012 على مدونة مجلة (فورين بوليسي) السياسية الأمريكية:
وهكذا يتم تعليم وتدريب القضاة في هذه التركيبة من علوم الشريعة الإسلامية - على الرغم من أنه مجدداً لا يُقال لهم أية أحكام يجب أن تُطبق في قضية معينة أو كيف يجب أن تُطبق.. وفي تاريخها المبكر، تطورت التقاليد القانونية الإسلامية إلى مذاهب فقهية يتم من خلالها تدريب أتباعها قانونياً.. وتجدر الإشارة إلى أن التراث الوهابي، وبرغم سمعته الدولية في التشدد، هو في الواقع أقل مبالاة بالسلطة الفقهية الماضية (أي أنه يميل للاجتهاد وليس التقليد) من المذاهب الأخرى وأكثر إصراراً بأن يترك القاضي الفرد حراً ليحكم وفقاً لفهمه للتطبيق المناسب للقواعد القانونية.
القضاة الذين التقيت بهم في أماكن أخرى في العالم العربي لديهم شعور قوي جداً أنهم يمثّلون عدالة نزيهة، وبمعنى حقيقي للغاية، سلطة الدولة.. وغالباً ما يبغضون احتمال خضوع سلطتهم لإرادة السلطة التنفيذية (بالرغم من أنهم يدركون أن هذا ما يحدث في كثير من الأحيان).. ولكن في المملكة العربية السعودية، يرى القضاة أنفسهم بأنهم يتصرفون وفقاً لإرادة سلطة أعلى من ذلك.
لا يوجد ملك سعودي يُشكك بهذه الأفكار من الناحية النظرية - ولكن العديد ثار غضبهم من نتائج هذه التركيبة القانونية.. وبمعنى من المعاني، فإن الجدل ليس حول ماهية القانون الإسلامي، بل حول من يملك حق التحدث باسمه. في معظم الدول العربية الأخرى تُعتمد قوانين الشريعة الإسلامية بعد أن يتم الاعتراف بها وغالباً تدوينها من قبل السلطات السياسية. كان هناك (خلل) في مجالات قليلة من القانون غير المدوّن في عدد قليل من البلدان، ولكنها أصبحت حاليا حالات نادرة جداً. ولكن هذا (الخلل) هو (القاعدة) في المملكة العربية السعودية وليس الاستثناء!!
لا يشطح ملوك السعودية بطموحاتهم كثيراً، ليصبحوا الناطق باسم الشريعة الإسلامية، ولكنهم سعوا أحياناً لجعل العلماء يجتمعون ويتفقون على ماهيتها، وتسجيل موافقتهم بشكل مكتوب كلائحة لتوجيه عمل المحاكم.. ولكنهم لا يزالون غير ناجحين تماماً في مسعاهم.
هيئة كبار العلماء ترفض التدوين
قبل عقدين من الزمن، أصدرت أخيراً وبعد طول انتظار هيئة كبار العلماء في السعودية ردها على سؤال ملكي قديم حول التدوين. لقد رفضت الهيئة التدوين بأغلبية ضعيفة. وذكرت الأسباب والحجج في رد هيئة كبار العلماء بعناية فائقة في كتاب محمد بن عبد الله بن محمد المرزوقي المعنون (سلطات ولي الأمر في تقييد سلطات القاضي). ولكن بدلاً من اعتبار الرفض إجابة دائمة، ضغط خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز مرة أخرى، وأخيراً أمر أن يبدأ التدوين في عام 2007.
في المملكة العربية السعودية، كان الحكام على استعداد للتنازل عن العمل الرئيس للصياغة لعلماء الدين، فهم لا يسعون بالضرورة للمركزية الطموحة. بدلاً من ذلك، هناك ثلاث مجموعات من المخاوف يبدو أنها الدافع وراء التدوين:
أولاً، غالباً ما يضطر المتقاضون للخروج من المحاكم لحل نزاعاتهم، وإلى حيث يُوجد قدر أكبر من المعرفة حول القانون الذي ينبغي أن يحكم. البدائل - مثل التحكيم أو اللجوء إلى المحاكم الأجنبية - تختلف وفقاً لطبيعة النزاع.
ثانياً، اضطرت الدولة السعودية في الماضي لإنشاء سلسلة من التركيبات المخصصة (هيئات ومجالس ولجان خاصة) للفصل في بعض المجالات واتباع قواعد أكثر تحديداً لما تريد أن تراه مطبقاً.. ولكن تلك الهيئات شبه - القضائية لم تكن تملك منزلة ووضع واستقلالية المحكمة.. فغالباً ما يعمل بها أشخاصٌ من خلفية إدارية بدلاً من الخلفية القضائية. وفي بعض المجالات كان من الممكن أن يكون القاضي مسؤولاً يعمل في نفس الهيئة المتورطة في النزاع؛ أي أنه غير محايد.
ثالثاً وأخيراً، اضطرت الدولة السعودية في الماضي أن تعيش في حالة من الشك وكذلك الخصوم المتنازعون.. فليس من الواضح أي من قوانينها غير الخاضعة للشريعة سيتم اعتباره شرعياً، وبالتالي مستحقاً للتنفيذ.
وقد نمت هذه المخاوف في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت المملكة العربية السعودية أكثر ارتباطاً بكثير في نشاطات التجارة والتمويل الدولية - ويبدو أن طموحاتها في هذا الشأن في الوقت الراهن بلا حدود.. وبينما يوجد قطاع نشط للمالية الإسلامية، على سبيل المثال، إلا أن كثيراً من قضايا المنازعات المصرفية تجري خارج إطار نظام المحاكم العادية، وتتوافق مع الآليات الدولية وكذلك هيئة تسوية المنازعات التابعة لمؤسسة النقد العربي السعودي.. ولذلك ليس من المثالي الانخراط في التجارة والمعاملات المالية الدولية في بلد ليس من الواضح فيه القواعد التي تتبعها المحاكم.
وهنا يكمن حسم الملك عبد الله. أمره أن يبدأ إعداد التدوين كان لا يزال يحترم القضاء، لأن القوانين سيتم استخلاصها من الفقه الإسلامي وفقهاء القانون الإسلامي من المرجح أن يشرفوا على العملية. كثير من العلماء مقتنعون بأن الملك محق، مشيرين لكون معظم القضاة الجدد على الأرجح لا دراية لهم بما فيه الكفاية لاستخراج استنتاجات فقهية من الشريعة الإسلامية تماماً من تلقاء أنفسهم.. وبالتالي قد يكون التدوين وسيلة لفرض وتطبيق قواعد الشريعة بدلاً من تجنُّبها، بل إنها قد تعيد مجدداً تحت ولايتهم مسائل كان يتم تحويلها إلى تركيبات (هيئات) شبه - قضائية سابقاً.
ولكن لا شيء واضحاً حدث.. ففي زيارة قمت بها مؤخراً إلى الرياض سألت مسؤولاً قانونياً رفيعاً مؤيداً للتدوين، ما إذا كان قد تم تشكيل لجنة أو أنجز أي عمل. قال إنه لا يعلم شيئاً (رغم أن موقعه يُفترض أن يمكّنه من المعرفة). في مناسبة عامة مؤخراً، تم الضغط على مسؤول من وزارة العدل حول قانون أحوال شخصية وضع بالاشتراك مع دول مجلس التعاون الخليجي (لصنع انسجام في قوانينها في هذا المجال). أجاب بأن وزارته ستقوم بكل ما يطلب منها ولكن هذا الأمر كان في أيدي علماء الدين الذين من المفترض أن يدرسوه. ولكن إذا كانوا يفعلون ذلك حقاً، فهي عملية صامتة!
في الواقع قد يكون انطلاق عمليات واسعة من التغيير السياسي في أماكن أخرى في المنطقة أثّرت سلباً على جهود الإصلاح القضائي الحالية في المملكة العربية السعودية.. ومثل المماطلة في العديد من الوعود التي قطعت في الماضي - كتأسيس مجلس الشورى، على سبيل المثال - فإن التدوين قد يحدث ذلك، ولكن الأمر قد يستغرق عدة عقود.
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى