ثمة اتجاه في التحليل الآلي يعتمد على البحث عن كلمة محددة ومن ثم الكشف عن الكلمات المحيطة بها في النصوص الضخمة، التي تكون قريبة من الكلمة الأساسية الأولى دلاليًا، ومفضلة على مستوى الاستعمال في النسيج النصي المنتج العام في إطارات سياقية متشابهة،
وهو ما يعرف بـ«المجموعات الدلالية» semantic sets أو التقارب الدلالي semantic preference (وهو تقارب أكثر من كونه تفاضل). والذي دفعني إلى إجراء هذا البحث الآلي هو ما يستوقفني كثيرًا في أحوال مجتمعنا السعودي والخليجي (والعربي أيضا) في أحوال الافتنان بما لدى الغرب على المستويين الاجتماعي واللغوي. وكثيرا ما مررتُ في حياتي بأجناس من المجتمعات لا تستهويها إلا المادة الغربية الهشّة، والسياق الغربي الخاص بالغرب، والغنج الغربي اللغوي في سياقات استعمالية لا تحتملها، وفي نظري: فالتقليدي في بقاء أصالته هيئةً وثقافةً مع نيل المفيد من الثقافات الأخرى على المستوى المجتمعي السلوكي (وليس على مستوى الثقافة والعلوم) أكثر تعقلا وأصالة واتزانًا وحصافةً من المفتون (المضطرب) بما لدى الغرب من مواد مجتمعية وسلوكية وجسدية شكلية! وهذه الظاهرة أجدها في شرائح الشباب والشابات، ولا أجدها عند الجيل القديم المتعقّل بثقافاته المتسعة مع ثقافات العالم!
نحن هنا أمام افتنان، ودفعتني هذه الظاهرة إلى البحث عن هذه الكلمة في اللغة العربية المكتوبة، والمفاجأة الكبرى في ذلك كانت في الكلمات التي تقاربت دلاليا مع هذه الكلمة، وهذا التقارب بين خيوط النسيج اللغوي لنصوص الشبكة تضمنت جميعا صورة مجانبة (للتعقّل) على المستوى المجتمعي واللغوي، وتداول هذا المستوى مع مستويات مجتمعية ولغوية كائنة في الغرب. إن (الافتنان) و(التعقل) لا يجتمعان في سلوك واحد، فالافتنان مضطرب ومزيف ومتخبط ويصيبه الإحباط وتناله الصدمات والتناقضات كثيرا، أما التعقّل فهو متسق مع نفسه، وطبيعي في فطرته، ومنسجم مع ذاته، وأكثر تطويرًا لكل جديد يتعلمه، ومن الماتع أن يُخرجَ لنا التحليلُ الآليُّ التقاربات الدلالية لكل منهما على امتدادين نقيضين، فمع الكلمة الأولى؛ ظهرت الكلمات: اضطراب، وبغضاء، وجنون، وشحناء، وفوضى، ومحنة، ونوازل، وغيرها. أما الكلمة الثانية، وهي التعقل؛ فالكلمات التضامّية الدلالية (أي: التقارب الدلالي) معها هي: الحصافة، والدمامة، والسكون، والفرح، والهناءة، والود، وغيرها. ولو قمنا بلعبة لغوية وذلك باستبدال الكلمات التي تضامّت وتقاربت مع دلالة (الافتنان)، لكان نتائج السياق لعنوان المقالة متقاربة أيضا؛ كأن نقول: (الجنون بما لدى الغرب، والفوضى بما لدى الغرب، والمحنة بما لدى الغرب، وهكذا دواليك) والحال نفسه مع دلالة (التعقل)، وعلى ذلك كله: نجد أن الافتنان بما لدى الغرب (سلبي بالدرجة الأولى)، على عكس قولنا: التعقل بما لدى الغرب.
لماذا نفتنن بما لدى الغرب؟ سؤال بسيطٌ تغرق فيه المكاشافات التحليلية، ودوافع الافتنان باللباس والموضة وقصات الشعر وغيرها من المستويات السلوكية/المجتمعية تعبر عن مشكلات نفسية مع الذات قبل أن تكون مهاترات واقعية! والوعي المزيف false consciousness مصطلح علمي يُتداول في علم الاجتماع بمفاهيم غير ثابتة، ومتغايرة بتغاير اتجاهات المختصين ممن تناولوها، وهو مصطلح يُضحكنا كثيرًا في أمثلته التحليلية، ولا غرو أن نضرب بمثال بسيط جدًا لموقف واحد يعكس ظاهرة واحدة من نتائج الافتنان بشكل عام، فعلى سبيل الثمال: التعقل في مجابهة المستعمرين في مطالع القرن العشرين في العالم العربي، والافتنان بلغة المستعمر وثقافته جملةً وتفصيلاً (بالطبع لا يجتمعان!).
وما دامت اللغة والثقافة صنوان لا يفترقان، فإن أول سؤال نطرحه هو: ما سبب الافتنان إذن؟ والجواب بصورة بدهية ستنبثق من محورية (الثقافة)، ومصطلح الثقافة مصطلح واسع ولا يوجد تعريف واحد يحقق جميع متصوراته، لكني أستطيع أن أحصره في جملة من العلاقة بين الإنسان ولغته وفكره والمواد الثقافية من حوله وكيفية التعامل معها استعمالا واستهلاكا وتطويرًا، وهذه-في ظني-جملة المصطلح وأسّه، ولو قسنا ذلك على واقع العالم العربي، فإننا سنجد أن تعامل الأفراد باللغة العربية وثقافتها (وهي ثقافة مخنوقة الجسد والنفس من أهلها) مع المواد الثقافية من حولهم صعبة نظرا لوجود الفجوات بينها. وعلى أية حال، ما دامت كلمة (الافتنان) سلبية فإن واقع حب اللغات الغربية وحب ثقافاتها يزيد من تلك الفجوات، ويخلق نوعا من الغربة مع الذات والمجتمع، وكل ذلك سببه في الأساس أولئك المفتونون مع الثقافات الأخرى والغرب على وجه التحديد؛ لأنهم لا يفقهون من الثقافة العربية ولغتها إلا ذلك الجسد المخنوق. ومن الضرورة المجتمعية أن يكون هناك اتجاه سائد يكون فيه مجتمعنا متصالحا مع ذاته في البحث عن النطاقات الجميلة التي فيها عربية جميلة وثقافات عربية جمي لة، وسلوكيات مجتمعية عربية جميلة، وتداوليات عربية جميلة، وسمات عربية جميلة في الصورة والهيئة والفعل (والجمال هنا يعرفه القارئ الذي يعرف جماليات ما في الغرب بشكل جيد!)، كما أن التفاعل الاجتماعي بين طبقات المجتمعات العربية مغلقة، وليست مفتوحة فيما بينها، وهذا الانغلاق سبب رئيس في صلابة الفعل السلوكي المخنوق الذي لا يجيد إلا توسيع تلك الفجوات دون أدنى استدراكات تغيرية على المستوى السلوك اللغوي/المجتمعي.
لا يمكن أن نصل إلى مرحلة التعقل مع ما لدى الأمم الأخرى لتقديم الجميل بما لدينا له وأخذ النافع فقط من عنده إذا استمرت عوامل ميكانزمية واقعية تميل كل الميل إلى نسخ ما لدى الآخر من مظاهر سلوكياته ولصقه في مجتماعتنا دون فحص عن جدواه، أو استمرت الأفكار المزيفة والمضطربة في الاستمرار بسوداوية ما لدينا وصفاء ما لدى الآخر! وكأن الآخر، وبالتحديد الغرب، خال تماما من السوداويات. بل إن المضحك هنا أن نجد ثقافات غربية مغايرة للثقافة الغربية الرأسمالية لا ترى من مواد تلك الرأسمالية إلا السطحية والسذاجة.
ودعوني أقف هنا مع تجربة واقعية تعكس بالفعل أحوال (الافتنان) المضطربة، حيث نجد في الواقع من يقول: النظام لدى الغرب أفضل من النظام لدينا، والحياة في الغرب أكثر تنظيما وأوقع تنفيذا مما لدينا، والأمان في الغرب أكبر بكثير من الأمان لدينا على المستوى المجتمعي والاقتصادي والقضائي، والرضا مع الذات عند الغرب أكثر من الرضا مع الذات هنا. وفي المقابل، ومع من يقول ذلك، قد نجده يقول على العكس الآتي وعلى التراتبية: النظام لدى الغرب جائر وليس مثل نظامنا الذي نألفه، والحياة في الغرب معقدة جدا ومملة في تعقيدها بعكس الوضوح لدينا، والجرائم ونسبها في الغرب أعلى بكثير من تلك الواقعة هنا، والرضا مع الذات لدينا أعلى من أولئك الذين يعيشون في الغرب نظرا إلى دينيا الحنيف وإيماننا العميق بالواحد الأحد الفرد الصمد. وهذه الأمثلة المتباينة والناتجة من جهوية فردية واحدة تعيش حالات الافتنان والاضطراب وعدم الاتساق على المستوى المجتمعي/السلوكي/اللغوي، وستظل تعيش في مقامات التناقض والاضطراب والخلل المفاهيمي والصعود تارة والهبوط تارة أخرى مع المعطى الواحد! لأنه ببساطة معتمد على وعي مزيف ومغلوط وخالٍ تماما من التعقل.
وأظن أنه لو نشّطنا جوانب التعقل في ثقافتنا العربية، واستحضرنا الكلمات ذات التقارب الدلالي معها لفهمنا سرّ ذلك التخطب والاضطراب في سلوكيات الافتنان بما لدى غيرنا من الأمم، فالحصافة، والدمامة، والسكون، والفرح، والهناءة، والود كلها عناصر لا يمكن لها أن تنتج السلوكيات المضطربة، ومن الطبيعي أن تجد في أي مجتمع في العالم لا تغلب عليه الحصافة، ولا يغلب عليه الفرح، ولا يغلب عليه الود والتودد بين أطرافه، ولا الهناءة في التداول اللغوي المكتوب والمنطوق حالات الافتنان بما لدى الغرب، وهي حالات تفرزها الاختناق اللغوي/السلوكي الداخلي (سيكون موضوع الاختناق اللغوي واللغة الثورية موضوع المقالة القادمة) وعدم تنوعه من جهة، والاضطراب في البحث عن الهشاشة الغربية من جهة أخرى.
يكفي لمجتمعنا أن يُدرك أن ديننا الحنيف المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة كافٍ لفهم حالات التعقل، وكافٍ في مبادئه العميقة أن تُوضع نقاط كل أحوال التعقل على الحروف، فقول الخالق جل في علاه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، ومفاهيم التقوى التي تجمع-أساسا-كل خير في ديننا-وبها تكون محققة للتقاربات والتضامات الدلالية والكلمات المصاحبة في نسيج اللغة العربية الطبيعة للتعقل وما يتقارب معها دلاليًا من حصافة ومودة ومحبة وصدق وإخلاص إلخ-لتُفسر لنا جوهر كل مقولات نظريات علم الاجتماع حول مسائل الاضطراب السلوكي/اللغوي، وهي مسائل يمكن العودة إليها في الإيديولوجية والمثالية Ideology and Utopia لكارل مانهيم Karl Mannheim، وفي تفسير لويس توسيغ Louis Althusser لمسائل الأثر والتأثير في داخل طبقات المجتمعات وفي خارجها. وأمثلة التناقض والإفراط في الأثر والتأثير إلى الدرجة التي فيها يغيب الوعي عن تداركها بشكل تدريجي، كلها ما هي إلا بأسباب داخلية. ومن الضروري أن أكون منصفا حول مشاهد ووقائع الافتنان في مجتمعاتنا العربية، فالصُّوْريات الإعلامية سبب رئيس دون أدنى شك، وما سبب الافتننان إلا بسبب الإعلام العربي اللاهث وراء نسخ هشاشات الإعلام الغربي ولصقه، وبما أن التحليل المذكور في مطلع المقال يبين سلبية كلمة الافتنان وما تضامَّت معها من كلمات، فثق بأن أي فعل لغوي سلوكي صُوري يكون منطلقه الافتنان وآخره الافتنان لن ينتج لنا حينئذ إلا الاختلال.
- سلطان المجيول