من المعلوم أن الحاجز المستخدم في حضيرة للطيور هو أقل كلفة من حاجز يستخدم في حضيرة للمواشي، وهكذا كل ما كبرت الدابة احتاجت إلى مانع أقوى. فكل نوع من الحيوانات يحتاج أن نصنع له حاجزا يناسب حجمه وحاجته. ولما كان العبد مجبولاً على حب الشهوات والإفراط فيها جاءت الأوامر لكل مسلم بأن يصنع حاجز التقوى الذي يحول بينه وبين شهوته المحرمة التي تقود إلى غضب الله وسخطه وكذلك يوجه سلوكه في الماديات والمعنويات.
كذلك حين قال ربنا: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} وكما هو معلوم أن اللباس لا يكون مناسباً لكل شخص وذلك لتفاوت الأبدان والأزياء والأذواق فهو متباين في حاجة الذكر والأنثى وتقلبات الأيام في فصولها فكذلك التقوى.
فكل مسلم أعلم بحاله مع شهواته ولذلك جاء التكليف على كل أحد أن يصنع الحاجز الذي يناسبه ويناسب مواصفاته ومقاييسه قال سبحانه: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.
ألا ترى أنه إذا جاء فصل الشتاء أخذ الناس يتقون تأثير البرد بأنواع الملابس اللائقة لهم، فما يقي عمراً من البرد، قد لا يكفي زيداً، فكل شخص له ظروفه الخاصة وأسلوبه الخاص الذي يتقي به البرد، وهم كذلك مختلفين في اتقاء الحر فمنهم من يكتفي بلبس الخفيف ومنهم من يشغل آلة التبريد. والتقوى تختلف أيضا باختلاف الأماكن فالذي يعيش في القطب الجنوبي يحتاج من الأدوات التي يتقي بها البرد غير تلك التي تستخدم في جزيرة العرب. فما يحتاجه المسلم من التقوى في بلاد الغرب غير تلك التي يحتاجها في بلاد المسلمين.
وكما أن التقوى تختلف باختلاف الأشخاص والأماكن فإنها تختلف باختلاف العلاقات فإن التقوى المطلوبة بينك وبين أبيك غير تلك المطلوبة بين أبيك وصديقه. فإنك إذا أردت أن تتقي الله مع أبيك اقتضي ذلك منك الاحترام والخضوع وتقبيل الرأس واليد، وهي غير ما يتقي الله صديق أباك أبيك به من المصافحة وإظهار السرور لاختلاف الحقوق بينكما. فاللين واليسر مع الأهل والأصحاب هو من التقوى، والشدة والعسر مع الشهوات هو أيضا تقوى. فليس كل لين تقوى وليس كل خشونة تقوى، لكن اللين في مكانه تقوى والجدية في مكانها تقوى.
فالتقوى هي العملة التي تشتري بها كل شيء وتقضي بها كل حاجاتك. بمعنى أنه إذا أتيت صاحب دكان وقد أخطأ في الحساب وأعطاك أكثر مما يجب أن يعطيك، تقول له قد أخطأت ولك أكثر مما أخذت. وإذا جاءك من يريد أن يغشك في سلعة ويبيعك إياها بأضعاف سعرها فالتقوى ألا تشتريها منه، لأن المؤمن ليس بالخب ولا الخب يخدعه. فالتقوى يجب أن تكون ملازمة للعبد في جميع أحواله وتصرفاته تختلف باختلاف الأحوال والزمان يكيفها بما يضمن به تجنب غضب الله بإقامة أسوار منيعة تحفظه وتؤمن حياته من الذل.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي