البشر على هذه الأرض يُولدون وهم يصرخون، ويعيشون وهم في كبد وقلق، ويموتون ولا يدرون هل إلى نعيم مقيم أم إلى شقاء أزلي سيكون مصيرهم، وهم في حياتهم يحاولون أن يحظوا بالسعادة وراحة البال، وأن ينأوا بأنفسهم قدر المستطاع عن كل ما يكدر صفوهم من مثيرات التعاسة.
والشعراء هم مكامن الاستشعار من البشر، وهم الناسُ، كما قال المتنبى: «أنتم الناس أيها الشعراء»، هل أدركوا كنه السعادة ووجودها، وهل هي في نظرهم من المستحيلات أم حقيقة كائنة أو ممكنة، وما تصورهم لها، وكيف الوصول إلي حماها، والظفر بها، تلك الغاية الكبرى، والمطمح الملح، إن النظر إلى تراثنا الشعري الممتد يجد أنها، أي السعادة، هي الأمنية التي تتأرجح بين المستحيل والممكن.
من الصعب أن نجد تعريفاً محدداً للسعادة، فقد اختلف في ذلك الفلاسفة وعلماء النفس قديماً وحديثاً، غير أن الإيمان بوجودها كغاية قديمٌ قدم الحضارات الإنسانية، فالحضارة المصرية القديمة قد جعلت للسعادة والمرح ربة تُعبد، ويراها كبير فلاسفة اليونان «أرسطو» أنها معنى الحياة وغايتها، وأنها هبة من الله. واعتبرها علماء المسلمين ناقصةً في الدنيا كاملةً في الآخرة، وكذلك اختلف الشعراء فيها. فيراها بعضهم ضرباً من ضروب المستحيل، وأمنية لا وجود لها، كالجنة المستحيلة، والحلم البعيد المنال، نتشوق إليه، ونتلهف عليه، وتضحي الأمم بأيامها وعمرها في سبيل الوصول إليه وقد لا تجده. تقول الشاعرة العراقية نازك الملائكة في قصيدتها «البحث عن السعادة»:
يا لحلمٍ نريد منه اقترابا
وهو ما زال أيّها الشطّ ينأى
ويقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
فما السعادة في الدنيا سوى حلمٍ
ناءٍ تضحّى له أيامَها الأمم
ويرى إيليا أبو ماضي في قصيدته «لم يبق غير الكأس» أن السعادة يكتنفها الشك والوساوس والظنون، فيقول:
إن السعادةَ لا وصولَ لعرشها
إلا بأجنحةٍ من الوسواسِ
وهي اللغز الغامض، والسر المكنون في كوخ مسحور، لا يمكن الوصول إليه، تقول نازك الملائكة:
قد بحثنا عن السعادة لكن
ما عثرنا بكوخها المسحور
أبدا نسأل الليالي عنها
وهي سرّ الدنيا ولغز الدهور
وهي في بحثها الدؤوب عنها لا تجدها، وتتملكها الحيرة، ويضنيها السؤال:
لم أجدها وقد بحثت طويلاً
ولم أزل أصرف الليالي بحثاً
أين ألقاكِ؟ أين مسكنُكِ المرموقُ؟
في الأفقِ أم وراءَ الوجودِ؟
هي إذاً في نظر البعض من المستحيلات كالعنقاء والخل الوفي، بل هي شبح نسمع عنه، وقد نراه ولا نستطيع لمسه أو الإمساك به، وحتى عندما ندركه ونستشعر وجوده، ويصير هذا الشبح جسداً كائناً يصيبنا الملل والفتور منه، وكأن السعادة تكمن في تشوقنا لما نحن محرومون منه ممنوعون عنه، وذلك حسبما يرى «جبران خليل جبران»:
وما السعادةُ في الدنيا سوى شبحِ
يُرجى فإن صار جسماً ملّه البشرُ
كالنهر يركضُ نحو السهلِ مكتدحاً
حتّى إذا جاءه يُبطي ويعتكرُ
لم يَسعد الناسُ إلا في تشوّقهم
إلى المنيع فإن صاروا به فتروا
ومع شك البعض في الوجود الحقيقي للسعادة، فإن البعض الآخر من الشعراء يستشعر وجودها النسبي، الطفيف.. النذر، فهذا أبو العلاء يقول:
وإنْ يكُ في الدنيا سُعودٌ فإنّما
تكون قليلاً كالشُّذوذِ الشوارِدِ
هي إذاً أيامٌ معدودة من السعادة في حياة البشر. يقول «نابليون بونابرت»: إنني لم أذق طعم السعادة ستة أيام». ويقول أفلاطون «الإنسان لا يسعد السعادة الكاملة إلا بعودة روحه إلى العالم الآخر» يعني السعادة بعد الموت.. وأمام هذه الأيام المعدودة، واللحظات الخاطفة المنقوصة من الهناءة، لا سبيل للمرء سوى اغتنامها والاستمتاع بها قبل زوالها. ما مضى قد مضى، ولسنا ندرى ماذا تخبئه الأيام، فقد تحمل ما يكدّر الصفو ويفرّق الجمع، وهذا ما يتفق عليه الكثير من الشعراء. يقول «المتنبي»:
ما مضى فات والمؤمَّلُ غيبٌ
ولكَ الساعةُ التي أنت فيها
ويقول أحمد شوقي في قصيدته «آذار أقبل»:
صفوٌ أُتيح فخذ لنفسك حقَها
فالصفوُ ليس على المدى بمُتَاحِ
ويقول إيليا أبو ماضي في قصيدته «فلسفة الحياة»:
فإذا ما وجدتَ في الأرض ظلاً
فتفيأ به إلى أن يزولا
فتمتع بالصبح ما دمتَ فيه
ولا تخف أن يزولَ حتى يزولا
ويقول عمر الخيام في رباعياته:
واغنم من الحاضرِ لذاته
فليس فى طبعِ الليالى الأمان
والواقع يقول بأنه ليست السعادة وحدها هي التي لا تدوم، فالحزن والقلق والخوف أيضاً لا «يدومون»، فكل شيء وله منتهى، وما على الإنسان إلا أن يتسلح بالصبر، فقد قال أحدهم:
اصبر لدهرٍ نالَ منك
فهكذا مضت الدهور
فرحٌ وحزنٌ مرّة لا
الخوفُ دامَ ولا السرور
ويقول أبو العتاهية:
ولا شيءَ إلا له آفةٌ
ولاشيءَ إلا له مُنتهى
والإنسان أحياناً لا يعجبه حاله ولا يرضيه مآله، ولا يرتاح مسروراً أو حزينا، فالسرور غير دائم، والحزن لا يعيد ما ضاع منه أو ما افتقده، وهذا ما يؤكده المتنبي:
فما يدوم سرورٌ ما سُررت به
ولا يردُ عليك الغائبَ الحزنُ
وبعض الشعراء يرون أن ما في الحياة من مثيرات الشقاء والعناء أكثر مما فيها من محفزات السعادة والهناء. وهذا يدفعهم إلى عدم الاعتراف بوجود السعادة، واليأس من الظفر بها، أو التقاعس فى البحث عنها. فهذا أبو العلاء المعري يقول:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ
إلا من راغبٍ في ازدياد
وهذا إيليا أبو ماضي، على غير عادته من التفاؤل والأمل، يقول في يأس كالح:
أصبحتُ أنظرُ في الحياةِ فلا أرى
إلا سواداً آخذاً بسوادِ
وهذا عبدالرحمن شكري يتمنى أن يحمل له الغيب ما يسعده:
يا ليت لي نظرةً للغيبِ تسعدني
لعلّ فيه ضياءَ الحقِ يبديه
وهذه نازك الملائكة، الشاعرة الرقيقة، تقول:
أين من هذه الحياة ابتساماتُ
الأماني ونشوةُ الأفراحِ؟
كيف يحيا فيها السعيدُ وليست
غير بحرٍ تحت الدجى والرياحِ
انظروا كلّ ما على الأرض يُبكي
فأفيقوا يا معشرَ الحالمين
وفي الحقيقة أننا لا نستطيع أن نمنع الكآبة من أن ترفرف فوق رؤوسنا ولكن بوسعنا أن نقص شعرنا حتى لا تعشش فيه.. وهروباً من هذه الكآبة يتشبث البعض بأشياء يعتقد أنها طريقه إلى تحقيق السعادة المنشودة كأن يحقق ما يتمناه، ويبعد عما يسبب أذاه.. وهذا رأى الشاعر العراقي جميل صدقي الزَّهاوي، فيقول:
إنَّ السعادةَ في أن تنالَ نَفسي مُناها
وأن تكونََ بِمنْأَى عمَّن يريدُ أذاها
وقد يراها البعض في جمع المال الذي يتحدث ويمشى كما يصوره المثل الأمريكي، وكما يقول الدكتور يوسف القرضاوي في قصيدته السعادة:
قالوا: السعادةُ في الغنى
فأخو الثراءِ هو السعيد
غير أن المال في الحقيقة لا يجلب السعادة ولا يشتريها ولكنه فد يساعد عليها، وقد يُهدّأُ الأعصاب أحياناً كما يقول جمال الدين الأفغاني. وسواءٌ كانت السعادة في المنى أو المال، فلسوف يختلف الناس عليها كعادتهم. ويدّب حوار مع النفس أو مع الآخر قد لا يتوصل فيه الطرفان إلى الصواب، كما يقول إيليا أبو ماضي:
قلتُ: السعادة في المنى فرددتني
وزعمتَ أن المرءَ آفته المنى
ورأيتُ في ظل الغنى تمثالها
ورأيتَ أنت البؤسَ في ظل الغنى
يا صاحبي هذا حوارٌ باطلٌ
لا أنت أدركتَ الصوابَ ولا أنا
وقد يراها البعض في رحاب السلطة والجاه كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي:
قالوا: السعادةُ في النفوذ
وسلطةِ الجاهِ العتيد
وقد تكون نظرة الإنسان قاصرة عن إدراك أسرار الأشياء، فقد تكمن سعادة الإنسان فيما يظن أنه شقاؤه، فلقد قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (سورة البقرة 216). كما يقول ابن عطاء الله السكندري «ربما منع فأعطى، وربما أعطى فمنع». وهذا ما قاله عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبى طالب: ولربما كره الفتى أمراً عواقبه تسره.
وكذلك رأى سليمان بن المهاجر البجلي:
إنّ المساءةَ قد تسرّ وربّما
كان السرورُ بما كرهتَ جديرا
قال أحدهم:
رُبَ أمرٍ سُر آخره
بعدما ساءت أوائلهُ
وقال الآخر:
وقد تُحسن الأيّام بعد إساءةٍ
وإن كان في الأمر المؤجّلِ تبعيدُ
وقال ثالث:
وخير الأمور خيرهنّ عواقبًا
وكم قد أتاك النفع من جانب الضرّ
وربما ينفق البعض عمره باحثاً عن السعادة وهو يملك أسبابها، يبحث عنها بعيداً وهي إلى جواره قريبةٌ منه، وكما يقول الروائى الروسى «تولستوى»: إننا نبحث عن السعادة غالباً وهي قريبة منّا كما نبحث في كثير من الأحيان عن النظارة وهي فوق عيوننا. وقد ندرك هذا بعد فوات الأوان كما يقول إيليا أبو ماضي:
فعلمتُ حين العلم لا يجدى الفتى
أن التي ضيعتُها كانت معي
وقد يملك الإنسان السعادة وتُسرق منه، وليس أمامه إلا أن يتشبث بالأمل ويسعى إليه جهد طاقته، كما يقول الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي في قصيدته «شىءٌٌ من السعادة»:
سُرقت منا السعادة.. وأنا رغم العذاب.. فى طريق الشمس سائر.
والواقع أن تطلعات البشر كثيرة، وطموحهم ممتد، لكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن. والأولى له أن يأخذ من الدهر ما صفا ومن العيش ما كفى. وأن يرضى بالقليل وبما قسمه الله له، ويسلّم بأمره. وفي المعاجم اللغوية تُعرّف السعادةُ بالرضا والاطمئنان.. ولقد صدق رسول الله؛ حيث يقول: «من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله»، رواه الترمذي (مسند أحمد (5/280) وأخرجه أيضًا ابن ماجه (ح 4022). ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا، أصابه سُعار الجشع؛ فهو يطمع ولا يقنع ويجمع ولا يدفع، يظل أسير نهمه وعبد تطلعه وجشعه. وهكذا يرى الشاعرُ محمد عبدالغني حسن أن السعادةَ الحقيقيةَ في الرضا والقناعة بما قسمَ الله. أما الجشعُ فليس وراءَهُ إلا الشقاءُ والضياع:
أنا بالقناعة سيدٌ لسعادتي
فإذا جشعت فإنني العبدُ الشقي
وقد تكون السعادة في الزهد والترفع عن متع الدنيا وملذاتها:
النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت
أنّ السعادةَ فيها تركُ ما فيها
والإنسان مشدود بين تحقيق مطالب الجسم والروح؛ وبين مطالب الفرد ومطالب الجماعة؛ وبين أعمار الدنيا وأعمار الآخرة؛ ومطلوب منه أن يحقق التوازن بينها جميعاً حتى يحيا في سلام نفسي. وهناك من استبان طريق السعادة وأدرك السبيل إليها. فمنهم من يراها في نقاء الضمير، والإحساس بالعطاء، والتواضع، والزهد في الشهرة، لا في الثراء ومعيشة الترف.. يقول أحمد شوقي:
فإن السعادةَ غيرُ الظهورِ
وغيرُ الثراءِ وغيرُ الترف
ولكنها في نواحي الضمير
إذا هو باللومِ لم يُكتشف
أو أن يحيا المرء لهدف نبيل ويجاهد في سبيله، فيعطى لحياته قيمة ومعنى، هكذا يراها الدكتور يوسف القرضاوي، فيقول:
إن السعادةََ أن تعيشَ لفكرةِ الحقِ التليد
تعطي حياتَك قيمةً ربُ الحياةِ بها يُشيد
فتعيش في الدنيا لأخرى لا تزولُ ولا تبيد
وهذا نابغة بني شيبان لا يرى السعادةَ إلاّ في التقوى، فيقول:
ولستُ أرى السعادةَ جمْعَ مال
ولكنَّ التقي هُوَ السعيدُ
وتَقوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا
وعندَ اللهِ للأتقى مَزِيدُ
وقد تكمن السعادة في الإحساس بالآخرين، ومشاركتهم همومهم، ومساعدتهم على تجاوز آلامهم ومحنهم. فكما يقول غاندي «تتوقف السعادة على ما تستطيع إعطائه لا على ما تستطيع الحصول عليه». هو فعل الخير إذاً طريق السعادة، إلا أن هذا يجب أن يكون دون خيلاء، وزهو، وتظاهر، كما يقول أحمد ذكى أبو شادي:
َبَنُونَ لا قَصْد زَهْوٍ ولا لأَجْلِ الإشَادَةْ
لكنْ وُلُوعًا بخيرٍ فالخيرُ أصْلُ السعادة
وهناك من يملك القلب النقي والبصيرة المنيرة التي تأخذ بلبه وتهدى قلبه إلى أن يحيا سعيداً، فيرى السعادة الحقيقية الكاملة في رضا خالقه. فلقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخاطبًا ربَّه «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالِي. فرضاء الله هو الأمنية المراده، ومنبع السرور والسعادة، وقد ردَّدَتْ رابعة العدوية هذا المعْنَى في قَولِها:
يا سروري ومنيتي وعمادي
وأنيسي وعدتي ومرادي
إن تكن راضياً علي فإني
يا منى القلب قد بدا إسعادي
- د. محمد أبو الفتوح غنيم