الإنفاق الاستهلاكي الخاص بالمملكة يفوق الحكومي بـ(152) مليار ريال ">
إعداد - وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ«الجزيرة»:
طفت على السطح مؤخراً، آراء وتقارير اقتصادية تحلل وتفسر تداعيات التراجع في أسعارالنفط عالمياً على الإيرادات النفطية الوطنية، ومن ثم على موازنة الدولة، وبالتالي ما يمكن أن تخلفه على الإنفاق الحكومي وما قد يتسبب في نقص وانحسار حجم النشاط الاقتصادي.
ا لبعض يتحدث عن ركود والبعض الآخر أكثر تشاؤماً يرى بأن الاقتصاد الوطني معرض لحالة تضييق أو تراجع.. فهل هذه الافتراضات صحيحة؟.. من خلال هذا التقرير، تسعى وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ»الجزيرة» لإثبات عدم صحة هذه الافتراضات.
فاليوم، أتم الاقتصاد السعودي أربعين عاماً يجني فيها إيرادات نفطية، حيث تغيرت ملامح الاقتصاد السعودي من اقتصاد أولي قائم على استخراج النفط إلى اقتصاد وطني متعدد الأجنحة، اقتصاد استخراجي ليس للنفط فقط، ولكن للنفط والغاز الطبيعي، حتى أصبحت المملكة تحتل المرتبة الأولى في احتياطيات وإنتاج النفط، فضلاً عن مراتب متقدمة للغاية في احتياطيات وإنتاج الغاز الطبيعي.. بجانب ذلك، أصبحت المملكة في عالم اليوم تستحوذ على مرتبة متقدمة في تكرير النفط، ثم تلاها تقدماً في تصنيع البتروكيماويات، وبالتوازي، حققت المملكة مرتبة متقدمة للغاية في تنمية وتطوير قطاع غير نفطي، حتى أصبح يساهم بنسبة توازي 41 % في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية.
جوهر الحالة السلبية في التقارير الاقتصادية ينبع من افتراضات تراجع الإنفاق الحكومي نتيجة تراجع الأسعار العالمية للنفط، وهذا الافتراض صحيحاً ولكن ما يبنى عليه يعتبر غير صحيح.. وذلك للأسباب التالية:
أولاً: الإنفاق الحكومي هو السياسة التي تم افتراض بناء دورة النشاط الاقتصادي عليها بالمملكة، وتم افتراض أنها السياسة الاقتصادية الوحيدة القادرة على تحريك الاقتصاد الوطني، وهذا الافتراض غير صحيح.
ثانياً: أن الإنفاق الحكومي هو أحد ركني السياسة المالية التي يمكن أن يتبناها أي اقتصاد وطني، فهناك الإنفاق وهناك الضرائب، ونظراً لما وهبه الله للمملكة من نفط وثروات تعدينية فريدة، فقد تم اعتماد سياسة الإنفاق الحكومي كسياسة اقتصادية رئيسية، يمكن أن تحرك الاقتصاد الوطني بسهولة، سواء في تحقيق التوسع الاقتصادي أو إحراز الانكماش في حالات معينة.
ثالثاً: الإنفاق بالمملكة ليس جميعه حكومي الصفة كما يقول البعض، وإنما يلعب الإنفاق الخاص دوراً أكثر أهمية، فحسب أرقام عام 2014م بلغ حجم الإنفاق الاستهلاكي الحكومي حوالي 742 مليار ريال، في المقابل بلغ حجم الإنفاق الاستهلاكي الخاص عن نفس العام حوالي 894 مليار ريال.. أي أن الإنفاق الخاص يفوق الإنفاق الحكومي.. وحتى رغم ما يقوله البعض من أن الإنفاق الخاص يعتمد في الأساس على الإنفاق الحكومي، إلا إنه لا يوجد أحد ينكر أن هناك إنفاقاً خاصاً قوياً بالمملكة.
رابعاً: السياسة الاقتصادية السعودية تبنت بشكل مستمر سياسة التوسع المالي اعتماداً على زيادة الضخ في الإنفاق الحكومي، والتي حققت نجاحات باهرة في تنمية ورفاهية الاقتصاد الوطني والأفراد.
خامساً: كثير من الدول تتبني في سنوات معينة حالة من الانكماش الاقتصادي، وخاصة عندما تسودها حالة التوسع لفترات طويلة، يتحول بمقتضاها التوسع إلى تضخم، وهي الحالة التي يمر بها الاقتصاد الوطني منذ عام 2008م تقريباً.. إلا إن هذا التضخم خفت حدته خلال العامين الأخيرين والحمد لله.
سادساً: ما يهمنا هنا هو ذكر أن السياسات الاقتصادية ليست إنفاقاً أو ضرائب فقط كسياسات مالية، ولكن توجد هناك سياسات نقدية على قدر كبير من الأهمية، ويمكن الاعتماد عليها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي بالمملكة.
سابعاً: توجد كثير من الدول (وبعضها من الدول المتقدمة) لا تستخدم السياسات المالية مطلقاً، نظراً لأنها لا تمتلك مصادر دخل أو إيرادات حكومية قوية تمكنها من الاعتماد على الإنفاق أو الضرائب كأدوات للتحكم في السياسة الاقتصادية.. هذه الدول تعتمد وبقوة وبشكل مستمر ودائم على السياسات النقدية، تلك السياسات من وجهة نظرها تمتلك القدرة على تحريك التوجهات الاقتصادية (سواء توسع أو انكماش) كما تريد وبشكل فعال وخلال فترات زمنية قصيرة في كثير من الأحيان.
ثامناً: يعتبر الكثير من الاقتصاديين أن السياسة النقدية أكثر سرعة في أحداث التوسع الاقتصادي المطلوب لأي اقتصاد وطني من الإنفاق الحكومي.. فإنفاق أي دولة على مشروع اقتصادي معين قد يحدث تأثيره التوسعي بعد مرور فترة من سنة إلى 3 سنوات غالباً، أما التوسع في عرض النقود مثلاً قد يحدث تأثيره خلال أسابيع أو شهور قليلة.
تاسعاً: المملكة أصبحت تمتلك الآن جهازاً مصرفياً قوياً وكفؤاً، استفاد كثيراً من فترات الطفرة الاقتصادية المتوالية بالمملكة، حتى أنه بات يمتلك من السيولة النقدية القادرة على تمويل السياسة الاقتصادية نفسها وتعبئتها لفترة يشير البعض أنها تصل إلى 12 سنة بلا مخاوف أو هواجس من نقص الإيرادات الحكومية.. وفي اعتقاد وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بالجزيرة أن الجهاز المصرفي السعودي قادر على ضخ سيولة نقدية توازي 500 مليار ريال بالاقتصاد الوطني دونما التأثير على قدراته الائتمانية أو الأمان المصرفي به.. هذه السيولة يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في إدارة سياسة نقدية أكثر كفاءة من الاعتماد على الإنفاق الحكومي كسياسة مالية، لأن السيولة هذه المرة سوف تضخ بفلسفة الاستثمار وطلب عودتها مرة ثانية، أي الضخ سيكون بناء على معايير اقتصادية، ومن المتوقع أن ترتفع درجة استغلاله كثيراً عن أي إنفاق حكومي.. فمعيار التكلفة العائد سيكون هو المعيار الرئيسي للسياسة النقدية الموجهة في هذه الحالة.
عاشراً: من يبالغون في تقديرات تداعيات تراجع أسعار النفط على الاقتصاد الوطني، إنما يتجاهلون الموارد الاقتصادية الأخرى التي يمتلكها الاقتصاد الوطني بجانب النفط.. فأولاً المملكة تمتلك الغاز الطبيعي وهي لا تصدره، وإنما تستغله في تصنيع البتروكيماويات ذات القيمة المضافة التي لن تتأثر بتراجع أسعار النفط، وبالتالي فإذا تضرر النفط بالمملكة، فإن الغاز معزول عن هذا الضرر تماماً لأنه يستغل في صناعة غير نفطية.
حادي عشر: المملكة تمتلك مورد اقتصادي هام للغاية، وهو الحج والعمرة، والتي تضخ في الاقتصاد الوطني إنفاق خارجي، ولنقل هو بيع لخدمات دينية لأطراف أجنبية، وهذه الخدمات نادرة وغير متاحة إلا بالمملكة.
ثاني عشر: المملكة تمتلك موارد سياحية تمثل مخزوناً طبيعياً.. تعتقد وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بالجزيرة أنه سيتم رفع معدلات استغلاله مستقبلاً.
ثالث عشر: المملكة باتت تمتلك كافة سمات مركز خدمي وأعمال ومالي يمكن بسهولة تنميته لكي يصبح مركزاً إقليمياً.
رابع عشر: البعض ينظر إلى الموازنة الحكومية ويرى أنه من الصعب توفير حجم الإنفاق الحكومي الحالي كما في السنوات الأخيرة، ولكن ما لا ينتبه له هؤلاء أن النسبة الكبرى من هذا الإنفاق الحكومي تصنف على أنها دعم حكومي صافي لقطاعات أو أنشطة اقتصادية معينة، وكثير منها يمكن الاستغناء عنها.
إن المملكة ضخت إنفاق حكومياً خلال الفترة (1981-2015م) أي خلال الـ 34 عاماً الأخيرة يناهز 10.8 تريليونات ريال، هذا الضخ ساعد على إيجاد بنية تحتية قوية الآن قادرة على تحمل أي تراجع في أسعار النفط، بل إن هذه البنية التحتية قادرة الآن على الانطلاق في مسارات لسياسة نقدية كفيلة بإدارة الشئون الاقتصادية .. إن ما تواجهه المملكة حالياً من تراجع في أسعار النفط لن يمثل إلا خطوة في طريق تأسيس سياسة اقتصادية جديدة آن الأوان أن تعتمد على السياسة النقدية، سواء اعتماداً على عرض النقود أو نسب الاحتياطي النقدي أو سعر إعادة الخصم أو سياسة السوق المفتوحة .. ولعل السياسة الأخيرة (سياسة السوق المفتوحة) يمكن وحدها أن تحقق كافة أهداف التوسع المنشود حالياً كبديل لسياسة الإنفاق الحكومي، وخاصة أن السوق المحلي معبأ ومليء بالسيولة النقدية في أيدي الأفراد.