اهتمّ البحث العلمي - في السنوات الأخيرة - بسيكولوجية الموظف الصغير، فظهرت رسائل ودراسات ومقالات متعدّدة حول سيكولوجية: «العامل في الصناعة»، و»العامل ورفع كفايته الإنتاجية»، و»المرأة العاملة»، و»الموظف العام»، و»معلم الكبار»، و»ظاهرة الاغتراب في مجال العمل»، وغيرها من الدراسات التي تشفّ عن أهمية مقاربة الجانب النفسي للموظف الصغير في القطاعين العام والخاص؛
لتحقيق غايات نفسية مغلقة (خاصة بالعامل)، أو نفسية وثقافية واقتصادية (تتجاوزه إلى طبيعة المنتَج، ومعدلات الإنتاج، والمستفيد) .
في حين لا نجد - في المقابل - اهتماماً (فضلاً عن أن يكون مماثلاً) بسيكولوجية المسؤول الكبير، رغم اتساع دائرة تأثيره في عملية الإنتاج؛ لكونه صاحب الصلاحية الأولى والأخيرة، والمفتاح الأول لنجاح المؤسسة أو إخفاقها!
وحتى لو استشهدنا ببعض الدراسات في هذا السياق من مثل: «سيكولوجية الصراع القيادي في مجتمعات الشرق الأوسط» فإنّها - من حيث الجملة - لا تتجاوز القائد في القطاع الخاص إلى المسؤول الكبير في القطاع الحكومي كالوزير ونائب الوزير ووكيل الوزارة والسفير والمستشار ومن في حكم هؤلاء، رغم أهمية المسؤوليات المسندة إليهم، إلى الحدّ الذي يمكن أن نجعلها السبب الرئيس في نجاح أو فشل كثير من المشاريع والبرامج التنموية، وانكماش أو اتّساع مظاهر التخلّف في عالمنا العربي!
لذلك أقدّر ابتداءً أنّ مقاربة المسؤول الكبير من الناحية النفسية من أكثر المقاربات أهمية في هذه المرحلة، لأننا إذا استبعدنا العامل المعرفي والبيئي لانكشافهما قبل التعيين فسيبقى العامل النفسي وحده متوارياً عن الرصد المسبق، بحيث لا يمكن كشفه إلا في الأيام الأولى للمسؤول في منصبه، وقد لا يُكشف إلا بعد حين، أي: بعد أن نحصد الكثير من المشكلات بسببه.
إنّ ما تقدمه المقاربات المتخصّصة في هذا السياق يمكن أن يعين على وضع رؤية قادرة على تقويم الجانب النفسي للشخص قبل تعيينه في مناصب عليا، وعلى معالجة ما يطرأ عليه من نقص أو خلل بسبب انتقاله إليها.
أفترض أنّ الخصائص النفسية الواهية للمسؤول الكبير في مجتمعاتنا العربية تبدأ من مرحلة الطفولة، وذلك حين تتشكّل «مخطوطاته الذهنية» حول الوزراء أو مسؤولياتهم بطريقة خاطئة، فتبدو أمامه في صورة متضخّمة وزائفة في كثير من الأحيان، فالوزير - كما يصنعه «الذهن الاجتماعي» - صاحب سلطة مطلقة، وحصانة واسعة تحميه من المساءلة فضلاً عن العقاب، ولديه فرصة كبيرة لبناء رصيد مادي ضخم، وعلاقات مفتوحة مع الجميع، وهذه وإن كان لها أصل لا يخفى فإن مشكلتها في سكوتها عن الشقّ الآخر (الذي تمثّله واجبات الوزير ومسؤولياته)، فهي تمنح الوزير كلّ شيء (المزايا المادية، المعنوية، الفرص) دون أن تكلفه شيئاً.. أي إنها تنقل المناصب الكبيرة من دائرة المسؤولية إلى دائرة المكاسب الخاصة المجانية، فكأن الوزير لا يعمل ولا يُحاسب، وكأنه وُضِعَ في المنصب ليأخذ دون أن يعطي، وكأنه لا يعاني من مشكلات في بيئة العمل، ولا ضغوط خارجية، ولا رقابة إعلامية؛ لذلك يتطلع الكثيرون في عالمنا العربي إلى أن يكونوا وزراء، لا لأنهم يملكون الاستعداد النفسي أو القدرة المعرفية والإدارية على القيام بواجبات الوزير، ولكن لأنهم متهيئون لأن يحتفلوا بهذا المكسب الشخصي، ومن هنا تحديداً يتساءل بعضهم: لماذا لا يُعين وزير من مدينتا؟ من قبيلتنا؟ من عائلتنا؟ إذ إنّ السؤال هنا يكرّس - في وجهٍ من وجوهه - معنى المكاسبية أكثر مما ينقضها، غير أنه يرتبط بمستوى آخر منها هو المكسب الوجاهي!
إن هذه الصورة النمطية لا تكشف عن وجهها السيئ إلا حين ينتقل الفرد المتأثر بهذا الطرح إلى منصب الوزارة، فيستصحب معه هذه الرؤية المنقوصة، لا، بل يعزّزها - كما يقرّر مصطفى حجازي - ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها؛ لأنها أضحت جزءًا من تركيبته النفسية.
تتجلى أولى سمات هذه المشكلة في محاولة المسؤول الكبير توظيف كل إمكاناته الإدارية - بداية من اليوم الأول - في خدمة صورته أمام نفسه أولاً (المرافقون، الأعوان، الخدم، الأشباه)، ثم أمام الناس (من خلال تقريب الإعلاميين المؤيدين، والاسترسال خلف الأضواء التسويقية، أو الاحتفالات، أو ما شابه ذلك).
كذلك في تعامله مع المنصب الذي أُسند إليه كما لو كان ملكاً خاصاً، ويظهر هذا بوضوح في تصريحات بعض المسؤولين كما في قول أحدهم: «لا أسمح لفلان أن يظهر في قنواتي»، وقول الثاني: «وزارتي»، وقول الثالث: «أنشأتُ في سنتين ما أنشأته الدولة في ربع قرن» ونلحظ في المقتطف الأخير كيف أصبحت (الذات) مقابل (الدولة)؛ لتحكي لنا حالة بعيدة من حالات التضخّم والنرجسية!
وهذه اللغة وإن كانت قابلة للتسويغ - كما يفعل كثيرون - فإنها تتقوّى بجملة سمات أخرى؛ لتعبّر - مجتمعة - عن نرجسية هذا المسؤول، وعن سيطرة ف كرة التملّك عليه.
ويمكن أن أضيف هنا عدم رغبة المسؤول في التواصل المباشر مع الناس، ويتجلى هذا بوضوح في عدم تحديده موعداً دقيقاً ومستمراً لمقابلتهم، بل في سعيه إلى بناء أطواق بشرية من موظفي الجهة تحول بينه وبين المواطنين، إما بإحالات إدارية غير مفيدة، وإما بوضع المواعيد الطويلة التي تفضي بالمراجع إلى حالة من حالات اليأس والإحباط.
ومن يتابع الحالات الإنسانية التي تنشر في الإعلام الجديد بشقيه (التفاعلي) الذي تمثّله الصحافة الإلكترونية، أو (الاجتماعي) الذي يمثّله تويتر في الحالة السعودية يُفاجأ بتفاعل الجهة المعنية مع القضية بعد ساعات (وربما دقائق) من نشر الحالة، وتتضاعف المفاجأة حين تحسم الحالات المنشورة دائماً لصالح المواطن إما وفق النظام وإما بالاستثناء، في الوقت الذي بذل فيه هذا المواطن سنوات من عمره لحلّ هذه المشكلة، وجرَّب أكثر من طريقة للوصول إلى المسؤول الكبير دون جدوى! هذا يعني أنّ النظام لم يكن عائقاً، أو أنّ الحلّ كان متاحاً، فما الذي أخّره أو حجبه؟ سيقول كثيرون: البيروقراطية الإدارية، وسأقول ما وراء البيروقراطية الإدارية، وربما كان العامل النفسي للمسؤول الكبير على رأس القائمة.
ومما يؤكد خطورة العامل النفسي للمسؤول الكبير ما شهدته السنوات الأخيرة من وقائع مثبته لاعتداء بعض المسؤولين لفظياً أو جسدياً على بعض المواطنين، أو عجزهم - في أحسن الأحوال - عن استيعاب غضبهم أو انفعالاتهم، وهذا لا يقف عند حدود الإنتاج وإنما يتجاوزه إلى (تكريس) صور سلبية لا يمكن أن تقبل بها الدولة.
إنّ كل ما سبق ناتج عن مشكلة أو اضطراب أو خلل نفسي لدى المسؤول الكبير، قد يكون مرتبطاً بشخصيته (كالنرجسية، والانكفاء على الذات، وسرعة الغضب)، أو طارئاً مرتبطاً بالمنصب، وبدخوله عالماً لم يُهيّأ إليه كما ينبغي.
في الحالين نحن أمام حاجة ماسّة إلى تهيئة نفسية لكل شخص يُعدّ لمنصب كبير، وليس شرطاً أن تكون التهيئة قبْلية (أي: قبل تسلمه المنصب)، فقد تكون حاضرة بالتوازي مع تقلُّده المنصب (دورات مكثّفة في السنة الأولى)، أو على شكل مرجعية استشارية يعود إليها كلما شعر بالحاجة إلى ذلك، أو على شكل جلسات دورية لمجموعة من المسؤولين تناقش فيها المعرفة النفسية التي يحتاج إليها المسؤول الكبير!
لذلك أقترح:
1 - أن يتبنى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة سمو ولي ولي العهد فكرة وضع رؤية تدريبية للمسؤولين الكبار في الأيام الأولى من تعيينهم، يُشارك في رسمها وزراء سابقون، وعددٌ من مستشاري الديوان الملكي، وأساتذة الجامعات في تخصصات مختلفة، ومن المهمّ أن تسعى هذه الرؤية إلى تغذية الأبعاد الفكرية والنفسية لدى المسؤول الكبير؛ لتخرجه من مرحلة ما قبل المنصب، تلك المرحلة التي سيطرت فيها على ذهنيته الصورة المنمّطة (المال، الجاه، السلطة، الحصانة)، إلى مرحلة مختلفة، تتأسس على الإخلاص والنزاهة والجدّ والإنتاج.
2 - أن تكون السنة الأولى للمسؤول سنة قياس دقيق، ورقابة مشدّدة على نشاطه الإداري والإعلامي، وقياس ردّ فعل المواطنين على أدائه، من خلال متابعة ما يُنشر في الصحافة الرسمية من نقد، أو من خلال ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي من حالات.
3 - أن تُعقد للمسؤول الكبير دورات مكثفة في أهمية التواصل مع المواطنين، وفنون التعامل معهم، وأسس الإدارة، وغيرها من المتطلبات التي تسهم في تطويع جانبه النفسي ليكون بحجم المسؤولية التي أُسندت إليه.
إنّ هذه العوامل ستسهم - من وجهة نظري - في تهيئة المسؤول الجديد لمسؤولياته الجديدة، وستعيد تحديثه فكرياً ونفسياً ليكون قادراً على تحقيق إنجاز للوطن وأبنائه، وليس لتحقيق إنجاز خاص أو مجدٍ شخصي.
- خالد الرفاعي