فضل بن سعد البوعينين
ثبتت وكالة التصنيف العالمية «فيتش» تصنيفها السقف الائتماني للمملكة عند (AA+?)؛ وأكَّدت متانة القطاع المصرفي السعودي الذي وصفته بأنه «متقدم على أقرانه بالمنطقة؛ وأن السعودية تحتل المرتبة «A» في مؤشر مخاطر النظام المصرفي؛ وأنه «الأقوى في دول الخليج، ويتماشى مع عدد من الاقتصاديات المتقدمة».
جاء التركيز على القطاع المصرفي بعد انخفاض أسعار النفط؛ وتقلص الدخل؛ وبالتالي الانخفاض المتوقع للإنفاق الحكومي؛ ما فتح الباب أمام البدائل التمويلية المتاحة.
تاريخيًا؛ لعب القطاع المصرفي السعودي دورًا مهمًا في التنمية إبان تقلص الدخل في التسعينيات؛ ونجح في توفير التمويل للحكومة والقطاع الخاص على حد سواء؛ إلا أن التحول الإيجابي في ملاءة الحكومة قلص من دوره المعهود في تمويل مشروعاتها.
سياسة إطفاء الدين العام؛ ووقف إصدار السندات الحكومية؛ حمل البنوك على التوسع في تمويل القطاع الخاص؛ والأفراد. تغير الظروف المالية؛ وتقلص الدخل دفع بالقطاع المصرفي للواجهة من جديد.
تلعب القطاعات المصرفية دورًا مهمًا في الاقتصاديات العالمية من خلال التمويل؛ لذا نجد أن غالبية دول العالم الصناعي تصنف ضمن الأكثر استدانة مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي. تتعامل السعودية بتحفظ مع الديون السيادية؛ على الرغم من أهميتها لإدارة السيولة المتاحة وتوجيهها التوجيه الأمثل لبناء قطاعات الإنتاج ودعم الاقتصاد؛ وضبط معدلات التضخم.
ظهرت الحاجة لبدائل التمويل المتاحة بعد تقلص الدخل؛ وعلى الرغم من وجود الاحتياطيات المالية الضخمة القادرة على تمويل العجز بسهولة؛ إلا أن خيار إصدار السندات ربما كان الخيار الأفضل لاعتبارات مختلفة؛ أهمها الاستثمار الأمثل للسيولة؛ وضبط معدلات التضخم؛ والحصول على تمويل منخفض التكاليف؛ ودعم سوق الصكوك والسندات؛ إضافة إلى رفع كفاءة الاستثمارات المصرفية التي ستحصل على فرص استثمارية آمنة ترفع من كفاءة التمويل.
بالرغم من أهمية السندات الحكومية في تمويل المشروعات التنموية وإدارة السيولة المتاحة في الاقتصاد؛ وأفضلية استثمارها محليا؛ بدلاً من تصديرها للخارج؛ واجه الشأن المالي السعودي بعد إصدارها؛ حملات تشكيك مكثفة؛ وصل بعضها حد الإتهام بـ «الإفلاس». الخلط بين الأمنيات والحقائق؛ دفع المتربصين إلى استثمار المتغيرات الاقتصادية العالمية؛ لزعزعة الثقة بالاقتصاد السعودي؛ وقدرته على مواجهة أسعار النفط المنخفضة؛ وإمكانية الاستمرار في استكمال الخطط التنموية؛ والإصلاحات الهيكلية النوعية. لا خلاف البتة على أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط؛ وإمكانية استمرارها على مستوياتها الحالية؛ أو ربما أقل؛ سيتسبب في انخفاض حاد للدخل؛ وسيؤثر سلبًا على المشروعات التنموية؛ ومعدلات النمو؛ إلا أن وجود البدائل التمويلية سيوفر للحكومة مصادر تمويل موازية تسهم في استمرار مشروعات التنمية؛ وتكرس الاستقرار المالي؛ وتساعد على المضي قدمًا في استكمال خطط المعالجة الاقتصادية.
لا يمكن تجاهل الآثار السلبية لانخفاض الدخل؛ وتدهور أسعار النفط؛ واعتماد الموازنة بنسبة 90 في المائة على إيرادات النفط. ولا يمكن إغفال المخاطر المترتبة على التأخر في هيكلة الاقتصاد؛ وتنويع مصادره؛ غير أن تجاهل مقومات البناء والتحوط؛ والبدائل المتاحة لحماية الاقتصاد؛ والإصرار على مواصلة عمليات البناء فيه من عدم الموضوعية الكثير.
دوام الحال من المحال؛ ورخاء الدخل لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ لذا انتهجت الحكومة سياسة مالية منضبطة خلال العشر سنوات الماضية؛ تعتمد فيها على خفض الدين العام الذي انخفضت نسبته من 109 في المائة إلى 1.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وتعزيز الاحتياطيات المالية التي بدأت من الصفر لتصل إلى مستوى 2.5 تريليون ريال؛ والإنفاق التوسعي لاستكمال مشروعات التنمية؛ والبنى التحتية التي ينتظر أن تكون المحرك المستدام للاقتصاد مستقبلاً. يبدو أن احتلال السعودية المرتبة الثالثة في التصنيف العالمي للاحتياطيات النقدية الأجنبية بعد الصين واليابان؛ وتذيلها قائمة الديون السيادية بنسبة 1.6 في المائة؛ لم يمنع من التشكيك في وضعها المالي وقدرتها على المواجهة. التعامل مع الأمنيات كحقائق ثابتة ينزع عن المراقبين صفتي الموضوعية والحياد؛ وهذا ما يفسر تضارب الآراء التحليلية حيال وضع المملكة المالي؛ وهو تضارب كان من الممكن للجهات المسؤولة التعامل معه بسهولة من خلال المؤتمرات الصحفية والبيانات التحليلية.
عود على بدء؛ فالقطاع المصرفي قادر على أن يكون قاطرة التنمية والمحرك الرئيس للاقتصاد. تفعيل دور القطاع في تمويل المشروعات الطموحة؛ والمدرة للدخل؛ يمكن أن يعاد من خلالها بناء الاقتصاد على أسس إنتاجية ربحية؛ وأن تكون السيولة المتاحة في الاقتصاد هي المحرك لبنائه من الداخل بدلاً من الإيرادات النفطية.
أختم بقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} يونس 31؛ وقوله تعالى {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} الروم 36.