د. هدى بنت دليجان الدليجان
انتشرت في الإعلام العربي والغربي خصوصاً بعض الصور التي تُسيء للمصطافين السعوديين خصوصاً والخليجيين عامة، في أوروبا بالذات.
وتداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مرئية وصوتية وصوراً لأُسر سعودية ونساء متحجبات بالعباءة السوداء داخل الأسواق والمجمعات والمنتزهات الثلجية، وصوراً لفنون الطهي وإعداد القهوة..
.. في مرتفعات زيلامسي الخضراء وتحت هيكل برج إيفل وشوارع روما في هجمة غريبة على السائح السعودي المتميّز.
ومع استمرار هذه الحملة المنظمة ستخسر السياحة الأوروبية السنوية المليارات التي يدفعها السائح السعودي مع عائلته، وستخسر المناحي والمناظر الجميلة عدسات لاقطة للحب والخير والجمال.
وإن كانت هناك اعترافات - ولا بد - من أخطاء سلوكية وتصرفات غير مرعية من السائح السعودي في بلدان العالم.
فالمجتمعات الإنسانية باختلاف جنسياتها وأعمالها وثقافاتها تحب الحركة، وتسعى إليها، فتنتقل المعارف والثقافات والأذواق بين بني البشر، وتتلاقح الطبائع البشرية في لوحة فسيفساء جميلة تُعبّر عن التنوع والامتداد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.. فالتعارف سنّة إلهية بين الشعوب المختلفة الأعراق والقبائل المتنوعة من البيض والسود والملونين.
وقد عرفت البشرية الرحلات مبكراً، ومن أكثر الرحلات شهرة في كتاب الله تسجيلاً وذكراً رحلة نبي الله نوح - عليه السلام - في السفينة والطوفان للهروب من الملأ المعاندين وإقرار دين الله في أرضه.
ثم انتقل مفهوم الرحلة البشرية للبحث عن الماء والكلأ والرزق الوفير والعمل الجاد وتنوعت صوره ووسائله فسكن الإنسان في الغابات والبحار والقطب الجليدي والصحاري الرملية.
وتطورت العادات الإنسانية والمعالم الكونية واجتهد الإنسان في توفير ما يلزمه من احتياجات مادية ومعنوية في إطار متبادل من الحرب أحياناً والسلم أحياناً أخرى.
وكان للأديان أثر كبير في تغيير مسار البشرية من الجبروت والطغيان والكفر بالله إلى الهدى والصلاح والفلاح بإرسال رسل الله الكرام وإنزال الكتب والشرائع خصوصاً لكل قوم وملة.
وفي التفاتة قرآنية عظيمة ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أمثلة لقصص الأنبياء الكرام وحال كل نبي مع قومه في صورة فريدة ومتتابعة كأنّما هي سجل متتابع الورقات بينة سطوره وملامحه.
فالرسالة المحمدية التي أضاءت الكون في زمن فلتة من الرسل والأنبياء جاءت خاتمة لكل تلك الشرائع السابقة ومهيمنة عليها بصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وهذا يجعل لهذا الدين قوة عجيبة في الانتشار بين البشر، إما لسبب أو بدون سبب بما يقذفه الله في قلوب عباده من حب الهدى والخير، فينساقون بفطرتهم إلى توحيد الله.
وهناك نوع من الناس تأثّروا تأثراً جلياً بمجاورة المسلمين ومعرفة أخلاقهم وعاداتهم، فانطبع حب هذا الدين في قلوبهم فأسلموا مختارين.
أما النوع محل البحث وصنو النظر فهي تلك الوجوه الناعمة والأيادي الطاهرة التي مشت في مناكب الأرض بحثاً عن السلم والرزق فأثابها الله فتحاً من الفتوحات الربانية فأقاموا المساجد وأسسوا المراكز وحرروا الدورات العلمية والتدريبية، وأشاعوا الخيرات.
إنها الجالية الإسلامية في بلاد العالم يا سادة يا كرام، تحوَّلت تلك الجالية العظيمة من مرحلة البناء الشخصي إلى بناء مجتمعي آمن خيّر تفوح منه روائح الجمال العربي والذوق الهندي والحضارة التركية وغيرها في مدن وقرى بعيدة عن مواطنهم الأصلية.
لقد زرت مراراً مساجد كثيرة وحضرت خطباً ودروساً في مراكز إسلامية ثريّة بالخير تبحث عن الكلمة الطيبة والسند الصالح الذي يرفق بها ويعالجها من مشكلات الغربة وسلاسل التغيير من جيل إلى جيل برفق وأناة.
لقد تطبعت في تلك النفوس الأنظمة القانونية والعادات القومية والمنازل الفنية، فأصبحت الجالية تمثّل قوة مادية ومعنوية في بلداتها المختارة بسبب علومها وتفوقها.
فالسائح السعودي لأول وهلة يرى في مشاهد المدن والقرى الأوروبية والأمريكية والجنوب شرق آسيوية والروسية والهندية والصينية وغيرها منظر المطاعم (حلال)، فيفرح بذلك فرحاً عجيباً ثم ينتقل في شوارع المدينة فيرى بين سهولها وهضابها وأنهارها إطلالة مسجد بنته أيادٍ وقلوب تحب الخير وتقيم الحق.
ثم يتذوق التندور الإيراني والكباب التركي والكبسة العربية والحمام المشوي في مطابخ متنوعة اللذة ومتميزة الذوق.
فيسافر من بلده فيرى بلداته الجميلة وذكرياته الماضية، بل وأغنيات الماضي الجميل حاضرة معه في روحاته ورحلاته، نعم إنها السياحة المعولمة مع الجالية الأصيلة التي لم تخلع ثوبها الإسلامي، وبقيت تنافح حرا ومرا لترسيخ مجدها بين أمجاد قريتها المنكوبة وظلال رحمات أرحامهم البعيدة إلا فئة قليلة أنساها الله ذكره فنست ماضيها وحاضرها وضيّعت مستقبلها.
لقد سمعت مئات القصص من الجالية بكل ألوانها عن الحنين للوطن الأول مع صناعة مجد جديد قويم في وطنهم الثاني، رأيت الدموع في عيون خاشعة لفقْد أم بعيدة ومرض أب زمناً وزواج أخت وطلاق أخ وهجرة أعمام ورحلة أخوال.
إنها الجالية يا سادة!!
ما زالت تقطر قلوبهم حباً وحنيناً لبلداتهم ومرابع أهاليهم، فإذا رأوا مصطافاً سعودياً أو مبتعثاً علمياً أخذوه بالتهليل والترحيب وتقديم الأعاجيب ليبقى بينهم ضيفاً عزيزاً وأخاً كريماً، ولا يختلف في ذلك النساء عن الرجال.
فكم رأيت من عناقيد الأفراح تتدلى من تلك القلوب الزكية لرؤية سحنة حنونة تبادلهم الذكريات.
وكم من عظائم الخدمات والدعوات سكبتها تلك القامات الطيبة لتجري أنهار الود بينهم، وبين تلك الوجوه السائحة الراحلة.
ومع كل هذا الشموخ من الذكرى والحنين، تجد الكل من أفراد الجالية يعمل ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً لينقذ نفسه وأسرته من مخالب العولمة الأليمة ومراتع الضلال الوهمية ومرابض الوهم والتزييف.. فيحتاجون كلمة طيبة وروحاً نافعة تحمل لهم الحب والود في أوراق الصفصاف وشماريخ التمور وأفنان الخزامى والنفل والشمر.
فهل السياحة في منأى عن الجالية القوية والأصيلة؟
فأي ناظر لأمجادها يحتاج الدرس بعد الدرس.. كيف استطاعوا التكيُّف أعواماً ولياليَّ، وقلوبهم تحن وتبكي لبيوتهم القديمة.
وتتطاير أسئلة من مقلات العيون كيف تحوّلت بلداتهم الهادئة إلى فرقة موسيقية صاخبة من المصطافين الملونين بألوان مختلفة.
نعم.. نحن بحاجة أكيدة لمد الخيوط الأنيقة مع الجاليات العربية والإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.. نحتاج لمخرجين يحسنون إبراز صورة المجتمع السعودي السياح الذي لوّثته الآلة الإعلامية الخبيثة بصورة المواطن الهارب من لهيب الحر والمتحرر من القيود وصاحب الفوضى المنثورة في جنبات الأرض.
نحتاج لوعي لدى وكالات الطيران بعدد المساجد والمراكز وأماكنها وكيفية التواصل معها والمشاركة في أنشطتها خلال فترة سياحتها، والتعرف على أهاليها في ود وورد وريحان مجد مشترك تصنعه الأجيال من الجالية الطيبة المقيمة وأجيال الأسرة السعودية المصطافة التي تحمل كاميراتها وبرامج تطبيقاتها وصور سناباتها لتنقل وتوثق اللحظة المعرفية الجميلة بين أبناء الشعوب والقبائل.
فكل عام يزداد المسافرون وتزداد الجاليات شوقاً لما يحمله هؤلاء من حقائب الذكرى والذكريات.
فهل نرعى حق الجالية في سياحتنا المعرفية والثقافية الصيفية؟