نحن الأثريين قد نتغير مع تغير الأصوات الصافرة في جنبات المواقع الموحشة الخالية من الأوناس، وقد نتغير مع تغير الأحداث وتضارب المصالح التي تُسُخر بعضنا ماسحة إرادته ليظهر بمظهر التغير تابعاً للأهواء، وقد نتغير كتغير الأجداث التي دفنت لآلاف السنين؛ وقد نتغير مع كل نسناس هواء يطرقنا في زوايا وادي لاحي فيه وأمواته راقدون، فإن جاء النسناس حاراً تململنا ولمنا وتغيرنا، وإن كان مجيئه بارداً ينعش الجسد والروح تغنينا به وأشدنا. ومع قابليتنا للتغير السلبي، يبقى البعض منا شامخاً فوق كل الأسباب والمسببات لا يريك إلا أصالة معدنه ونقاء سريرته، ولا يسمح للمتغيرات أن تقلبه من حال إلى حال بل يجبرها هي على أن تتغير ليبقى هو أبلقاً ناصعاً على سجيته الأولى.
ولكوننا ندخل في عامنا الستين، ومقبلين على التقاعد بعد بضعة أشهر، ولم يعد لنا في الدنيا مطلباً إلا رضا الله ورضا الوالدين الأحياء منهم والأموات مع صلاح الأبناء والأحفاد ذكورهم والإناث؛ نرى أن من الواجب علينا وعلى كل كاتب أن يسجل ما عرف وصادف ورأى من زملائه الأفذاذ ليبقى ما سجل دروساً للأجيال الجديدة.
في العمل تربطنا زمالة عمل وتخصص مع عدد من أبناء جيلنا مثل أ.د. سليمان الذييب وأ.د. سالم طيران وأ.د. سعيد السعيد وأ.د. مشلح المريخي، ود. حميد المزروع، ود. عبدالله الشارخ، والأجيال التي تلت مثل، د. فهد الحسين ود. أحمد العبودي، ود. فهد الحواس، ود. محمد الذيبي، ومع تلاميذنا الذين أصبحوا زملاء لنا. من هذا الإتلاف عرفنا أن الأشخاص تختلف في نوازعها وأمانيها وقدرتها على الاتزان والثبات وتقدير الأمور، فمنهم من تجرحه الأنملة، ومنهم من يقف لعوادي الأيام فلا تنجح في تحوير جوهره أو تكسوه لوناً غير لونه، أو تكسبه تعددية الألوان.
ومن نوادر زملائي الذين زاملتهم طيلة دراسة في الجامعة، ثم عملي فيها، وهي فترة تجاوزت سبعة وثلاثين عاماً؛ الدكتور محمد بن سلطان العتيبي، أستاذ العمارة القديمة في قسم الآثار، كلية السياحة والآثار، جامعة الملك سعود. عرفته أيام الدراسة الجامعة، وكنا جميعاً في فوران الشباب والتسابق على التحصيل العلمي طلباً للإعادة ومن ثم الدراسات العليا. استمرت زمالتي ومعرفتي به حتى حلّ التقاعد ليّ هذا العام، ويحل له هو بعد ثلاثة أعوام. زاملته في العمل الميداني وهو آخر فصل لنا في الكلية كنا نتدرب على التنقيب في قرية الفاو التي تقع على أطراف الربع الخالي في محافظة وادي الدواسر، سكنت أنا وهو وبضعة زملاء في خيمة واحدة لمدة شهرين كاملين ثم عدنا وتخرجنا من الجامعة وعملنا سوياً كمعيدين في قسم الآثار، ثم أساتذة حتى دحرجنا الزمن إلى عالم التقاعد.
إنني أقدر هذا الزميل الذي لم يتغير لونه على مرّ السنين؛ بالرغم من أنه يحدث بيننا خلافات علمية قوية، وإدارية أقل قوة. ولكن هذه الخلافات لم تغير من جوهره وصدقه وصفاء نيته، يحدثك فيصدق، يعدك فيفي، لا يعرف الحقد إلى قلبه طريق، ولا يفكر بالانتقام مطلقاً، إنه رجل أبلق يقدر الزمالة، ويقدر الرجال، ويبخص سجاياهم. ولمعرفتي الشخصية بصفاته الإيجابية أبقي دوماً على احترامي له ولزمالته حتى وإن تسبب الاختلاف في الرأي إلى الشك في النوايا، يبقى الأمل في التسامح أكبر من شك النوايا؛ ودائماً ما يصدق أملي في زميلي. إنه رجل يعرف للرجال مواقعها، لا يخدعه منصب، ولا يذهله بريق أمل في متاع دنيا. إنه الزميل الذي اختلفت معه عندما كنت رائسا له، واختلفت معه عندما أصبح رائساً ليّ، وتجري الاختلاف في وجهات النظر في المجالس مثل مجلس القسم ومجلس الكلية واللجان المختلفة؛ ويبقى هو الرجل الذي يمكن أن تعتمد عليه ويصدق حسن ظنك فيه، كريماً في تسامحه، كريم في جاهه، كريماً في ماله، كريماً في حديثه.
وأخيراً، أقولها بملء فمي إنه الزميل الذي لم تغيره الاختلافات مهما كان حجمها، يبقى أبيضاً ناصحاً في نواياه وتصرفاته وصداقته واحترامه للغير. وأقولها وأنا صادق: إنه الزميل الذي تطمع بنصرته فتجدها، وتأمن غوائله فتنام نوماً هادئاً.
- أ.د. عبدالعزيز بن سعود بن جارالله الغزي