منصور الرفاعي ">
إنّ أحد أهم المشاكل التي تواجه العالم البشري هو حالة التصادم الذي تعيشه المجتمعات في كيانها، نتيجة للتناقضات والخلافات في المصالح والأفكار، والتي تضعها أمام الأزمات التي تعصف بها وتهز أركانها وأسسها وقد تقودها نحو الحرب، وهذا يعني أن تكون هذه المجتمعات هشة وضعيفة وسهلة الانفراط والوقوع في الطريق المسدود الذي لا ينفتح أمام العدل والسلام والاستقرار التي هي أماني وأحلام البشرية. ولكي يتم فك التشابك والاختلاف الذي قد يحصل بين أفراد المجتمع، ووضع حد لأولئك الذين لا تقف أطماعهم إلى حد، كان لابد من وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي والجنائي، وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد. فالإنسان كائن اجتماعي بفطرته وطبيعته لا يستطيع أن يعتزل الناس لأنه عاجز بمفرده عن الوفاء بحاجياته، وبالتالي فإنّ ذلك يستلزم وجود علاقات عديدة بين أفراد المجتمع، وهي علاقات لا يمكن أن تترك فوضى ينظمها كل فرد وفق رغبته، لذلك لابد من وجود قواعد موضوعة تهدف إلى إقامة التوازن بين الحريات المتعارضة والمصالح المتضاربة محققة بذلك العدل والاستقرار، فالنفس البشرية جبلت على الأنانية المفرطة التي تلازم الإنسان، وهي التي تجعله متمسكاً بمصالحه الشخصية والذاتية مهما كانت الظروف والنتائج والسبل التي يختارها لتحقيق أطماعه. لذلك كله لا بد أن يكون هناك نظام في المجتمع هو الذي يحدد مجال حركة كل فرد، وعلاقته ببقية الأفراد في المجتمع وبالدولة، وعلاقته بالشأن العام في المجتمع، لذلك شرع الله ورسوله لنا التشريعات واجتهد علماء الأمة وفقهاؤهم الشرعيون والقانونيون في التزامن مع بعضهم البعض، بوضع الأنظمة والقوانين العامة والخاصة والمبنية على الأسس التي شرعها الله سبحانه وتعالى لدى الدولة الإسلامية أو لدى المنظمين في الدول الأخرى. ويرى بعض الباحثين وهو روسكو باوند: أن القانون هو علم الهندسة الاجتماعية الذي يتحقق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظم سياسياً، أو الضبط الاجتماعي، عن طريق الاستخدام المنهجي المطرد لقوة المجتمع المنظم سياسياً. فالنظام حسب الآراء الكثيرة إنما وجد ليقوم بدوره ألأساسي في حفظ لحمة المجتمع والحفاظ على استقراره وتماسكه عن طريق توفير العدالة والأمن والحرية، عبر الالتزام بالنظام والقواعد التي تأمر بها السلطة العليا. وهنا يأتدور الجهات التعليمية الثلاث (المسجد والمدرسة والمنزل) في التربية السليمة وزرع النظام في نفوس الجميع على أسس علمية. فالنفس البشرية مجبولة على المشاحنات وهي بحاجة إلى ما ينظم المجتمع الذي تكونه تلك الأنفس البشرية، عبر مختلف أطيافها ومذاهبها وأديانها، ننقل الآن لكم تلك الأسس التي يجب أن تنطلق منها الأحكام أو بمعنى أوسع لنقل الحاكميّة. فمنذ بداية البشرية أوجد الله جل جلاله التشريع والنظام الكوني والديني والبشري الذي يفترض أن تسير بموجبه البشرية، وذلك عبر الكتب السماوية وتشريعات الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل وقام الكثير من المنظمين وكبار المجتمع، بإيجاد القوانين والتنظيمات التي يفترض أن تسير المجتمعات عليها حتى أيامنا هذه، وبالتالي ظهرت المدارس القانونية والنظامية التي بدأت تؤصل للمبادئ القانونية، ومن هذه المدارس على مر العصور :
1- نضع في البداية الشريعة الإسلامية بما تحتويه من قانون شامل لجميع أوجه الحياة وهي أم القانون والنظام وأساسه، بها تسعد الأمة وعليها تستقيم تعاملات البشرية مع خالقهم وأفراد المجتمع بجميع فئاتها.
2- المدرسة اليونانية والرومانية (وهي زمنياً تعتبر قبل الرسالة النبوية والشريعة الإسلامية).
3- المدرسة الفرنسية والتي استمدت كثيراً من قوانينها ومواردها من المذهب المالكي (لماذا؟) لأنّ المذهب المالكي كان منتشراً في الأندلس وهو المذهب السائد في تلك الحقبة، وكان انتشاره سريعاً للدول المجاورة. والمدرسة الفرنسية الحقيقة هي أم القانون الحديث بتفريعاته وأنواعه، ومن القانون الفرنسي استمدت الدول العربية أغلب موادها أثناء حقبة العلمنة والبعد عن الدين والتي للأسف مازالت تعتمد عليه.
4- المدرسة الأنجلوسكسونية وهي المدرسة الإنجليزية والذي يميزها أن المادة النظامية أو القانونية توضع بناءً على الواقعة وليس العكس.
5- المدرسة الأمريكية وهي مدرسة معاصرة تعتمد كثيراً على المدرسة الفرنسية مع تطوير كبير وملحوظ ليس هذا موقعه. وننوه هنا أن جميع المدارس بغض النظر عن تأصيلها قامت بعمل تصنيف لقوانينها ولكن باختلاف المسميات، فتجد في الشريعة الإسلامية باب المعاملات والتعاقد والتعامل مع غير المسلمين والسياسة الشرعية والنظام الإداري والولاية وغير ذلك، بينما تجد أن القوانين الأخرى قامت بعمل تصنيف آخر كالقانون العام والقانون الخاص والقانون العام الدولي والداخلي والقانون الخاص وغير ذلك. القانون من أين جاءت هذه الكلمة وما أصلها وما تعنيه فنقول نقلاً عن المراجع: هي اقتباس من اليونانية حيث كلمة «Kanon» تعني «العصا المستقيمة» ويعبرون بها مجازياً عن القاعدة («Regula»: la Règle)، ومنها إلى فكرة الخط المستقيم، ويستخلص من هذا أن كلمة «قانون» تستعمل كمعيار لقياس انحراف الأشخاص عن الطريق المستقيم، أي عن الطريق الذي سطره لهم القانون لكي يتبعوه في معاملاتهم. معنى القانون: هي مجموعة القواعد القانونية والنظامية الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع باعتبارهم أطرافاً فيما بينهم، وكذلك باعتبار أنهم طرف والسلطة طرف آخر، وتتضمن هذه القواعد أحكاماً موضوعية تبين الحقوق والواجبات المختلفة في مجتمع ما، والتي تسهر على احترامها السلطة العمومية (Droit Objectif). وفي تعريف آخر: هي قواعد عامة مجردة تنظم سلوك الأفراد بعضهم ببعض وبين الأفراد والدولة في المجتمع تنظيماً عادلاً، وتطبقه السلطة على الأفراد ولو بالقوة عند الحاجة أو الاقتضاء. شرح التعريف: أي المواد والنظام واللوائح والتفاسير والمواد والفقرات.... الخ، والتي يتم وضعها من قبل الشعب (مجلس الشورى - مجلس الشعب - الكونجرس - مجلس الأمة...... الخ) ويفترض ألا تكون مخالفة للقواعد والثوابت والتشريع الإسلامي، والتي تكون دليلاً ومرجعاً لكافة أفراد المجتمع سواء أفراداً أم جماعات أم السلطات، وتكون ملزمة أي يجب تطبيقها من قبل السلطة. ذكرنا في التعريف أن القانون هو عبارة عن قواعد، والسؤال هنا ما معنى كلمة قاعدة ؟ القاعدة هي المادة النظامية ذاتها أو قل البند كما يسميه البعض أو فرع من مادة، وهذه المواد أو البنود لو اجتمعت كوّنت لنا اللائحة أو النظام أو الدستور، والقاعدة إما فقهية (مصدرها الشريعة الإسلامية) أو قانونية ونظامية (مصدرها البشر)، والقاعدة سواء كانت فقهيةو نظامية فهي إما أن تكون آمرة أو مكملة، ومعنى آمرة ومكملة: الآمرة: هي القواعد التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف حكمها وإذا تم مخالفتها يكون نتيجتها إثم أو عقاب أو جزاء، يتم إيقاع هذه النتيجة من الله جلّ ذكره في الدنيا والآخرة أو من الحاكم في الدنيا. المكملة: هي القواعد التي يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف حكمها والتي لا يكون فيها أية نتائج جزائية لو تم الاتفاق على سواها.
أولاً: أوجه الاتفاق:-
أ- من حيث الهدف:- يهدف كل منهما إلى تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع.
ب- من حيث الجزاء:- يقترن كل منهما بجزاء، وإن اختلفت طبيعة هذا الجزاء بالفقه عن النظام.
ثانياً:- أوجه الاختلاف:
من حيث المصدر:- الفقه مصدره سماوي أما النظام فمصدره وضعي (أي من وضع البشر).
من حيث النطاق:- الفقه أوسع نطاقاً من النظام، فهو ينظم علاقة الفرد بربه وعلاقة الفرد بالآخرين وعلاقته مع الجماعة، وأما النظام فهو ينظم علاقة الفرد بالآخرين وعلاقته مع الجماعة فقط.
من حيث الجزاء:- الجزاء بالفقه يتميز بأنه أقوى من الجزاء بالنظام لأنه يشتمل على نوعين من الجزاء (الدنيوي - الأخروي) أما النظام فلا يشتمل إلا على الجزاء الدنيوي.
من حيث الهدف:- الفقه يسعى بالوصول بالفرد إلى الأخلاق الفاضلة أما النظام فأنه يسعى إلى تحقيق الأمن والاستقرار ولو على حساب الأخلاق في بعض الأحيان. (في بعض الدول التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية) فمثلاً:- في أنظمة بعض الدول: لا يعاقب النظام علي شرب الخمر إلا إذا أدى إلى الضرر بالآخرين بعكس القاعدة الفقهية، وكذلك الأمر بالنسبة للزنا فإن في أنظمة بعض الدول من ارتكب واقعة الزنا برضاه وكان بالغاً سن السابعة عشر فإنه لا يعاقب إلا إذا حصلت الواقعة على فراش الزوجية.
أهداف القاعدة الفقهية والنظامية
أولاً:- تحقيق العدل في المجتمع فالمساواة جوهر العدل فإذا ما تحققت المساواة بين أفراد المجتمع تحقق العدل وإذا تحقق العدل تحقق الأمن والرخاء. وينقسم العدل إلى ثلاثة أنواع:
1- العدل التوزيعي: مثل الضرائب المأخوذة من شركة كبرى تختلف عن شركة صغرى، وهو الذي يسود علاقة الفرد بالجماعة ويهيمن على توزيع الأعباء في المجتمع. وأساسه يقوم على المساواة النسبية تبعاً لقدرات وفروق كل فرد في المجتمع وهو الذي يبرر لنا عدم المساواة المطلقة بين الأفراد في المجتمع أمام تولي الوظائف العامة وكذا دفع الضرائب وكذا الأعباء المعيشية.
2- العدل الجماعي:- وهو الذي يسود في علاقة الجماعة بالأفراد باعتبارهم أعضاء في المجتمع. وأساسه يقوم بالنظر إلى الفرد باعتباره جزءاً من المجتمع، أي جزء من الجماعة، والعدل الجماعي حسب هذا المفهوم يقوم بتفضيل وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، فهو أساس السلطة في الجماعة، وهو ما يبرر مطالبة الدولة الأفراد بأداء ضريبة الدم (الدفاع عن الوطن والتضحية من أجل صالح المجتمع).
3- العدل التبادلي:- وهو الذي يسود في علاقة الأفراد بعضهم مع بعض. وأساسه يقوم على المساواة التامة بين الأفراد أي المساواة الحسابية البحتة، فمثلا: في عقد البيع، يلتزم البائع بتسليم المبيع للمشتري ويلتزم المشتري بدفع ثمن المبيع على أن يكون مساوياً لقيمته تماماً. ومثلاً: إذا قام شخص بإحداث ضرر للغير، التزم هذا الشخص بإصلاح الضرر الذي أصاب المتضرر، وفي حالة عدم إمكانية إصلاح الضرر يلتزم الأول بتعويض المتضرر تعويضاً نقدياً مساوياً للضرر، وهذا طبقاً لفكرة العدل التبادلي.
ثانياً:- تحقيق الأمن والاستقرار، إن تحقيق العدل والأمن والاستقرار في أي مجتمع، يؤدي بطريقة غير مباشرة إلى تقدم المجتمع وتطوره وهو ما يسمى بالتطور السلمي للمجتمع، لأن توفير الأمن والطمأنينة للفرد يدفعانه إلى زيادة النشاط، وبالتالي إلى زيادة الإنتاج الذي يعود على المجتمع بالخير الوفير. فهدف القاعدة الفقهية والنظامية هو تحقيق الأمن والاستقرار والعدل في المجتمع والذي يؤدي إلى التطور السلمي للمجتمع، والإنسان مدني بطبعه أي أنه يعيش في جماعة، ولتحقيق رغباته فإنّ علاقته بالمجتمع تقوم على أساسي (التعاون والتنافس) ولكن الإنسان بطبعة يحب الاستئثار، ولذا وجب وجود القواعد الفقهية والنظامية، فنقول إن القاعدة الفقهية والنظامية ضرورة اجتماعية.