تقديم المترجم: نقدم هنا ترجمتنا لمقال فريد ونادر بقلم البروفيسور ناثان براون الذي يقدم لمحة سريعة عن مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - لتطوير القضاء السعودي.. ونُشر المقال في 23 يناير 2012 في مجلة (فورين بوليسي) السياسية الأمريكية.
بروفيسور براون هو أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن الأمريكية (واشنطن، دي. سي.)، وهو باحث مرموق ومؤلف لستة كتب في السياسة والقوانين العربية.. ويملك بروفيسور براون خبرة عميقة في الحركات الإسلاموية والسياسة الفلسطينية، وقضايا القانون والدستور والوقف العربية. أحدث كتاب لبروفيسور براون هو (عندما لا يكون النصر خياراً: الحركات الإسلاموية في السياسة العربية) وصدر عن قسم النشر بجامعة كورنيل في أوائل عام 2012. يركز براون عمله حالياً على الحركات الإسلاموية ودورها السياسي في العالم العربي. انتهى تقديم المترجم.
عن تدوين أحكام الشريعة
في عامي 2007 و2009 توّج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله عقداً من الإصلاحات القانونية والقضائية في بلاده عبر إعادة تنظيم القضاء، وأمر أن تتبع المملكة العربية السعودية الخطوة التي اتخذتها جميع الدول الأخرى في المنطقة تقريباً؛ أي تقنين قوانينها - أي أن يُكتب على الورق خلاصة وافية وشاملة للقوانين المعمول بها في المملكة.. ولكن منذ ذلك التاريخ، لم يتم تحدي أمر الملك ولم ينفذ أيضاً!! والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يعتبر هذا التدوين القانوني بمثابة خطوة دراماتيكية في المملكة العربية السعودية؟ ولماذا تَعَرْقَلَ تنفيذ قرار الملك؟
كرَّس ملك السعودية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اهتماماً كبيراً لإعادة بناء النظام القضائي. الخطوات الأولية التي اتخذت كانت قوانين إجرائية جديدة مع مراسيم جديدة تصر (مع فعالية غير مؤكدة) بأن على المحاكم اتباع قواعد محددة في عملها - وجَعْلْ المحاكم، المترددة دائماً حول دور المحامين أكثر مودة وتفهماً لمهنة المحاماة.. وفي التحركات الأخيرة، بالإضافة لأمر التدوين، وَحّدَ الملك جميع أنواع الهيئات شبه - القضائية المتناثرة داخل الفضاء القانوني للمملكة، ونزع مهام التقاضي من مجلس القضاء الأعلى (وسلمها إلى المحكمة العليا التي أُنشئت حديثاً)، وأعفى كبير القضاة في البلاد، وهو أحد أعمدة النظام القديمة، من وظيفته على رأس النظام القضائي. لقد كانت خطوات الملك دراماتيكية بما فيه الكفاية - بينما تعاني هوية الدولة السعودية من مزاعم خصومها بأنها ليست إسلامية بدرجة كافية لا سيما في تركيبتها القانونية - لدرجة جعلت الباحث القانوني المتمرس في القضاء السعودي البروفيسور فرانك فوغل يصف تلك الخطوات بأنها (ليس مواجهة واحدة ولكن وابل من المواجهات مع شركائه في الحكم أي المؤسسة الدينية).. وأضاف: إنها كانت بوضوح، مثل (زلزال داخل سياسة الشريعة في السعودية).
من الصعب فهم المملكة العربية السعودية، ونظامها القانوني غير العادي بصورة خاصة - وليس ذلك، لأنها غامضة ولكن لأنها فريدة بشكل لا نظير له. عندما تكون للبلد تركيبات (هياكل) قانونية مماثلة لتلك الموجودة في البلدان المجاورة، فإنها تستخدم كلمة مختلفة - مثل تسميتها الخاصة للمحاكم الإدارية أو حتى الكلمة المستخدمة لترمز للقانون.. وتماماً بمثل هذا الإرباك نجد في تلك الأحيان عندما يتم استخدام نفس الكلمة أو المصطلح، فإن التشابه في اللغة هنا يخفي خلافات عميقة في التركيبة والمعنى.. (فعلى سبيل المثال، معظم الدول العربية لديها هيئة تُسمى (المجلس الأعلى للقضاء) أو (مجلس القضاء الأعلى) للإشراف على الشؤون القضائية وإدارة قطاع القضاء - وغالباً لإخضاع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية.. ويوجد في المملكة العربية السعودية هيئة تحمل نفس الاسم، وتعمل في كثير من الأحيان لمقاومة وعرقلة ضغوط السلطة التنفيذية، وليس فقط للإشراف على الشؤون القضائية، وكانت حتى وقت قريب جداً تعمل كمحكمة استئناف عليا.
التجارب السياسية المختلفة التي مرت بها دول عربية أخرى كالإمبريالية، وبناء دولة طموحة، والاشتراكية، والاستقلال لم تؤثر على المملكة العربية السعودية بعمق. معظم النظم القانونية العربية الأخرى متجانسة تقريباً، حيث يمكن - نسبياً - لمحامٍ مغربي أن يسهم في حل نزاع قانوني سوري دون صعوبة تذكر تقريباً.. وبخلاف استثناءات قليلة، فإن الأنظمة القانونية للدول العربية هي في جوهرها أنظمة قانون مدني أكثر شبهاً لما يتعلمه محام في كليات باريس أو روما مما كان يُدَرَّسْ في كتاتيب القرون الوسطى.. وفي معظم الدول العربية، فإن تأثير القانون الإسلامي قوي في بعض المجالات (كالزواج، والطلاق، والميراث)، ولكن يحكم القضاة غالباً على أساس نصوص وقوانين مدونة، وأنظمة المحاكم مركبة، مثل تلك التي في القارة الأوروبية (وحتى قاعات المحاكم لها مظهر مشابه). وعموماً في البداية، تُركت المؤسسات المرتبطة بشكل مباشر أكثر مع الشريعة الإسلامية (مثل المحاكم التي تعمل على أساس الشريعة أو الكليات التي تدرس الفقه الإسلامي) لوحدها من قبل الدول المركزية التي بنت محاكمها الخاصة، وأصدرت قوانينها الخاصة وأنشأت كلياتها القانونية الخاصة بجانب التركيبات الأقدم والأكثر ميلاً للشريعة الإسلامية.. وتدريجياً تم تقييد مجال التركيبات الإسلامية القديمة، ولم تحدث إلا ضجة قليلة عندما ألغتهم الدولة بالكامل، وأحياناً حوّلت عملهم إلى محاكم الدولة، وتم تقنين المجالات المتبقية من القانون، حيث يحكم القضاة بناء على نصوص تشريعية مدونة بدلاً من فهمهم الشخصي للشريعة الإسلامية، والمناهج المنظمة لها.
وبعكس بقية الدول العربية لا تزال محاكم الشريعة في المملكة العربية السعودية تملك ولاية قضائية عامة.. ويحكم القضاة على أساس فهمهم لقواعد الشريعة ذات الصلة بالتعاليم الفقهية الإسلامية.. وفي حين أن هناك آلاف المجلدات في الفقه الإسلامي، فلا يوجد مصدر تمت فيه كتابة القواعد القانونية بأي شكل أو بحجية ملزمة.. وبدلاً من ذلك، يعتمد كل قاضٍ على سنوات من التدريب الشخصي لإتقان الفقه المستنبط من القرآن، وممارسات النبي والصحابة في بداية الإسلام لتطبيق ذلك الفهم على القضية التي أمامه.
... يتبع.
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى