إسطنبول العاصمة السياحية لتركيا اليوم، باتت تتخذ مشهداً جديداً تخالط فيه بين رواق عاصمة الضباب البريطانية، وبين ليالي بيروت العربية، من حيث حكايات السياحة الثقافية،
وجدل المثقفين العرب وسجلاّت نقاشاتهم، التي كانت تعج بها تلك المقاهي، وجوانب الساحات حيث تمتلئ الردهات بين المثقفين الرُحّل، أو مثقفي المنافي الاضطرارية في رحلتهم السياسية المتنوعة، وهي مواسم أنتجت مرحلة تدوين كاملة برزت فيها أقلام وكُتب ومشاركات لشخصيات كانت رائدة أو مُصدّرة في منضدة الوعي العربي الحديث.
وظل هذا الشارع اللندني أو المساء البيروتي يُعطي زخمه حتى اليوم، وإن قل في لندن لكنه يكاد ينصرم في بيروت، بعد هيمنة الطائفية السياسية التي حاصرت خيم المثقفين اليوم، في حين عجزت دوامة الحرب الأهلية، وعواصف العصبيات المتعددة والتدخلات العربية والإسرائيلية القاسية عن إسكات بيروت الثقافة، وإن راح في طيّاتها شهداء للكلمة والحرف والنضال الشريف.
وفي إسطنبول العريقة بميراث الثقافة والفنون والتعدد الإنساني اليوم، خارطة مشهد ثقافي تتشكّل لكن لم تكتمل بعد، وخاصة كرواق ثقافي عربي مفتوح، لكن في ضواحيها ومبانيها المتعددة يقام صالون خاص، يجمع هذا الشتات العربي مُفَرَقاً، لكنه يوحده في هذا الصالون ليستمع المثقف والمشاهد العربي لصوت الثقافة العربية وتنوعاتها وعواصفها، هذا الصالون هو برنامج لقناة التركية العربية تي آر تي الشهير قهوة تركية.
وقهوة تركية هو مسمّى لطيف لهذا الصالون، المُجسّد في استوديو متنقل، يغوص مع ضيفه في مواسم الرأي العربي، ويطوف مع خِيمه المتعددة في جغرافيا الوطن العربي الكبير، وفي ظني أن البرنامج يسجل حضوراً نوعياً ونجاحاً مختلفاً للقناة.
أمّا البوابة الرئيسة للبرنامج فهو ارتبط بصورة كبيرة بمقدمته الأديبة التونسية هاجر بن الحسين، ومع صعوبة نجاح مثقف النخبة الغزيرة والشراكة الأدبية في إدارة برنامج إعلامي وفقاً لبعض النظريات، إلاّ أنه في حالة هاجر نجح للغاية بل كان بصمته، فمن الواضح أن هاجر وطبيعة مشاكستها الثقافية العنيدة، وجدلها القوي الباحث عن تحرير المعنى بحرية أو الرد على الأسئلة الصعبة، يُضفي على البرنامج غزارة حضور، وإن كان اعتدادها الذاتي قد يُغفلها عن قراءة الضيف أو بعض طرحه في مضمار عرض رؤاه للمشاهد، مع مناقشته في أسئلة البرلمان العربي الثقافي الواسع.
ولكنها تنجح وفريقها المساعد مع كل ذلك، نجاحاً يعني الكثير لحضور قناة تركية، في جمهورية المثقف العربي وقرّاء سرادقه، ولعل بعض البأس الثقافي الجاذب للمشاهد، الذي تختطه هاجر هو جزء من تشكيلة شخصيتها، التي يصعب أن أحدد معالمها في ظل لقاء تلفزيوني وأسئلة محدودة بعده وقبله، لكن لعل يكفي لدي طبيعة الهوية الثقافية السياسية لهاجر والتي نصّبتها في مقدمة المثقفين العرب المدافعين عن المستقبل العربي المغدور.
ولا أدرى لماذا تُطرح صورة هاجر بن الحسين مقاربةً لتجربة تونسية سابقة كانت فاعلة في الساحة، لكنها تبدو مقاربة مستحقة، فهناك مشترك ومختلف بين كوثر البشراوي وبين هاجر بن الحسين، ربما طبيعة حيوية المثقفة التونسية وجاذبيتها الإعلامية عند انطلاق كل تجربة، وهنا نحن أمام حقيقة، وهي أن إعلاميي تونس يُسجَّل لهم حضور لافت ونجاح، في شخصيات عديدة يصعب حصرها، ولهم كل التحية من مهجرهم إلى خضرائهم الحرة.
لكن المفارقة بين هاجر وكوثر لها بعد آخر، فأمام دعم هاجر لحرية العربي، برز مشهد كوثر الأخير الذي تُقبّل فيه حذاء جندي النظام السوري الذي سفك دماء أطفال الحولة، وعشرات الآلاف معه ورفعت في البرنامج راية الولاء لمنظومة إيران في الوطن العربي، وهي ضمن فريق يقوده الأستاذ غسان بن جدو اليميني المتطرف في حبه لإيران، ومن الصعب أن تدمج الموقف السياسي بحوار الإنسان الثقافي كما أفعل هنا، لكن ربما طبيعة القلم أو دهشة المقاربة بررت ذلك، وللقارئ المعذرة.
لكن هاجر هنا أبلغ وأنقى راية لتونس وللمثقف العربي، وتوقيعها ناصع مع شهداء الحرية، في مقابل من وقفوا مع البيّادة، وهي مفارقة كبيرة اليوم أن من دعم البيّادة في طرف عربي، اليوم يدعم بيّادة الأسد ويدعو لكل بيّادة بطول العمر!
وقد يكون لتوجه القناة تأثير، لكنّ هناك ما يكفي لفهم موقف الإعلامي، الذي قد تتاح له فرص مختلفة في رواق أزياء بمسمى إعلامي أو منبر موجه بالكامل، ويختار أن يبقى في ظلال استقلاله، هكذا فهمت من شخصية هاجر، ومن أسرار نجاح البرنامج أنه خرج من أبارتايد الثقافة العربية التي عزلت كل طيف إسلامي عن شراكته المستحقة في مواسم الثقافة، وهو ما سبب عزلة سلبية فوّتت على الجميع مساحة سماع رأيهم لا السماع عنهم، والأمر الآخر أن رياح الأدب وربيع الفكر ومشتركات الإنسان، فيها الكثير مما يجمع هم ويساعد في تصدير لغة حوار وثقافة جميلة بين أجيال العرب.
فاللائكية الشرسة التي أسمع صداها اليوم في إذاعة مونت كارلو يتكثف كما في منابر إعلام الاستبداد العربي، أو المحرضين على شراكة الإسلاميين في الصالون الإنساني، وهي الصفحة المقابلة للغلو الديني في صورة داعش أو أي نموذج آخر، ولستُ أقصد أن تعرض قضايا إسلامية أو مواقف إسلاميين سياسية فقط، ولكن أيضاً شراكة الرأي وتوقيعات الفكر وقراءة الإنسان في صدى الإسلامي وهو ما يتواجد بالفعل في القهوة التركية.
وفتح مساحة الثقافة ليُدلي العلماني والإسلامي برأيه مع مراعاة المقدسات الكبرى، لا شخوص الإسلاميين واجتهاداتهم، كما هي مع قطعيات علمانيين لم تقطع بها الفلسفة، وهي أحد المسارات التي نحتاجها اليوم في حركة التطبيع بين المثقفين العرب، ممن يؤمن بالشراكة لا الاستئصال، والحياة الواسعة والأمة العظيمة حاملة الرسالة التي رعت رؤى علماء ووعاظ كما مثقفين وفلاسفة ودمجت أقلياتها في أروقتها، وحافظت على رسالة بلاغها.
وقد لا يَستكمل هذا المقال كل زوايا العرض والنقد لقهوة تركية، وصالون هاجر بن الحسين الغني في ثقافته، لكنها تدوينة قلم تسجل لهذا البرنامج الناجح حقه، وتهنئة تي آر تي عليه وحاجتنا لاستنساخه، ولعل من أسرار تميزه أنه يعرض لمرارة الواقع العربي كما هي مرارة القهوة التركية، ويُحلّيها ببعض الأمل وحياة الفكر ومسحة الثقافة كما هو حلقوم تركيا، ولك الشكر يا إسطنبول فخيلنا العربي حول البسفور يضيء مشاعل العقول.
- مهنا الحبيل