د. خالد بن عبد العزيز أبا الخيل ">
هل تصدقون لو قلت لكم إن شباباً من حيِّنا ذهبوا في يوم من الدهر للمشاركة في نصرة جبهة مورو في الفلبين؟ وهل تصدقون أن عدداً كبيراً من شبابنا فاضت أرواحهم على سفوح جبال القوقاز ولم تعرف قبورهم بعد؟ وهل سمعتم خبر أولئك الشباب الذين ذهبوا إلى إرتيريا «للجهاد»؟ وهل جاءكم نبأ الفلوجة وكيف كانت سهولها ووديانها مقابر جماعية لمئات من الشباب السعودي؟ هنا السؤال الصعب: لماذا توزعت عظام شبابنا في أنحاء هذا العالم؟ لماذا يتهافت شبابنا على الموت بهذه الطريقة المروعة؟ لماذا يذهبون إلى هناك؟ ثم لماذا لا يعترفون بتعليمات هذه الدولة التي كفلتهم من أول ما درجوا على هذه الأرض الطيبة؟ لماذا لا يعيرون بالاً لعلاقاتها الدولية وحساباتها السياسية؟ هل تصدقوني لو قلت لكم إن واحداً من هؤلاء الشباب سألته مرة: من أجاز لك الذهاب للعراق؟ فذكر لي أن هناك من أفتاه، وسمى لي بعض من لا يعرف بعلم ولا عقل!!، فقلت له: لماذا تترك دولة كاملة ولا تعبأ بكل تعليماتها، ولا تنظر في أثر ذهابك على دولتك، وتذهب تنقاد - من غير عقل - إلى هذه الفتوى وتستقبلها من شخص هذه حاله؟ كيف هانت عليكم دولتكم؟ فبتم تعاملونها معاملة الأعداء! فإذا ما اختارت الدولة رأياً أو التزمت مسلكاً سلكتم خلافه ومشيتم نقيضه!؛ لأنكم تعتقدون أن الحق دائماً هو الجهة المقابلة لها!! من روَّج لكم هذا الوهم؟ ومن صنع هذه القطيعة؟ لماذا كلما أوقدت نار للحرب تهافتم عليها لتكونوا حطبا لها؟! ثم لا يهمكم أن نسألكم فيما بعد: هل أنتم للإسلام نصرتم أم للعدو كسرتم؟! ثم من يقنع هؤلاء الشباب بأن مشروع الجهاد - طيلة عمر التاريخ - لم ينجح ولن ينجح ما لم يكن مشروع دولة تحميه وتحصنه من غوائل الاختلاف والتفرق؟ وليس مشروع ميلشيات متفرقة وجماعات وأحزاب - كما هو حاصل اليوم - تزهق الأرواح وتدمر الحياة وتستفز الأعداء وتمنحهم الذرائع تلو الذرائع لغزونا والتدخل في شؤوننا! ولأننا لم نقف مع هؤلاء الشباب وقفة حق وصدق - أو لنقل - بكل صراحة - لأن سدنة العنف نجحوا في خداعنا وإقناعنا أن مشروعهم العبثي التدميري هو مشروع جهاد صحيح، ها هم اليوم تجاوزوا هذه المرحلة إلى أن يأتوا إلينا في بيوتنا وحصوننا ويقتلون أنفسهم من أجل أن يقتلونا وينالوا منا! أريتم شؤم خطيئة مجاملتنا لهم؟! كيف صدَّق هؤلاء الشباب أن انتحارهم وقتلهم لأنفسهم جهاد في سبيل الله؟ بأي شريعة وأي دين يجوز للإِنسان أن يقتل نفه من أجل أن يقتل غيره أياً كان هذا الغير؟! أليست حالة الرغبة في الموت حالة استثنائية في الشريعة؟ إِذْ الأصل هي الرغبة في الحياة وليست الرغبة في الموت، وفي الحديث الصحيح الذي يعبِّر عن صوت الفطرة - « يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر « من خنق هذا الصوت؟ لماذا يزهق هؤلاء الشباب أرواحهم وأرواحاً مع أرواحهم بدعوى الجهاد في سبيل الله؟ لماذا يفسدون دنياهم بهذا التدافع الغريب والمخيف؟ ألم تنه الشريعة حتى عن مجرد تمني الموت؟ « (لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب ). فإذا كان هذا في التمني فكيف بمن بادر بإرادته مسرعاً نحو الموت؟
ألم يدرك أولئك أن كل الذين يبادرون إلى الموت المحتم ويقبلون عليه بطوعهم واختيارهم - بقصد الوصول السريع إلى الجنة - متوعدون بنقيض مقصودهم؟، وهو حرمانهم من الجنة!، أي وعيد أعظم من هذا؟، جاء في الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلَّم - : (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكيناً فحزّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه؛ حرّمت عليه الجنة) وقوله «بادرني « من المبادرة، وهي تعني الإسراع إلى الموت من غير أن يأذن الله له بذلك، فكأن الله جل في علاه يقول له: خلقتك للحياة لا للموت، فلماذا تقتل نفسك؟ لماذا تزهق روحك وأنا قد نهيتك عن قتل نفسك نهياً صريحاً: « ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً « كيف تطفئ روحاً وأنا الذي نفختها؟ وكيف تميت نفساً وأنا الذي أحييتها؟
لا بد أن يعلم الشاب أنه لا يوجد في الشريعة رخصة للموت، والذي يتأولون هذه المبادرة المحرمة للموت بتغيير اسمها إلى العمليات الاستشهادية أو الفدائية فإنَّ ذلك لا يغير من حقيقتها الشرعية شيئاً؛ لسبب بسيط، وهو أن الذين يبادرون إلى الموت هم في الحقيقة يعترضون على أصل فكرة الوجود في الحياة، مهما غلفوها بغير ذلك، فلا فرق إذن بين من يطلق مسدساً على رأسه، أو يتردى من شاهق، وبين من يلف حزاماً ناسفاً على بطنه، غير أن الأخير أشد ظلماً وعدواناً من الأول؛ لأنه مع قتله لنفسه فهو قد اعتدى على غيره، وحرمه من حق الحياة الذي كفله الله له، ولهذا كان القتل من أعظم العظائم بعد الشرك بالله؛ لأنه اعتداء على كل حقوق الحياة التي كفلها الله للبشر، فمن قتل إِنساناً فهو قد اعتدى على حقه بعبادة الله؛ لأنه حرمه من أن يحقق الهدف الذي خلقه الله من أجله وهو العبادة، وحرمه من حقه بعمارة الأرض، وحرمه من حقه بالإنجاب والذرية والخلَف الصالح، وحرمه من حقه بالتمتع في الحياة الدنيا، وحرمه من السعي في مناكب الأرض طلباً للرزق، كل هذه الحقوق حرمها القاتلُ المقتولَ، فأي جريرة يلقى الله بها قاتل؟
إن منطق التهالك على الموت يعود بالتأكيد إلى خلل فكري كبير في تصور الشاب ووعيه، واسمحوا لي أيها القراء الكرام إذا قلت إن البناء الفكري لكثير من الشباب لدينا في المجتمع السعودي هش إلى درجة مروعة، ولديه قابلية غير عادية للاستلاب الفكري، فالعقل الذي هو هبة الله لعباده يتم أو تم تغييبه بالفعل، إِذْ المكان كله محجوز للعاطفة، فالخطب عاطفية، والمواعظ عاطفية، والمقاطع عاطفية، حتى الفقهاء تحول خطاب بعضهم إلى خطاب عاطفي تربوي، ونتيجة لهذا تلاشى دور العقل، وأسئلة العقل، وتلاشى دور المنطق، وغابت أسئلته، ونتيجة لهذا التغييب المروع نشأ منطق التهالك والتدافع على الموت، فصار الشاب لا يعبأ بالسنن، ولا بالنواميس ولا يقيم لها وزناً، ولأنه لم يفقهها حقاً فقد صار ضحية لها، فالسنة والناموس عند الشاب شيء واحد فقط؛ وهو أن يهلك نفسه على أية حال وينوي الوصول بهذا الهلاك إلى الجنة! فقط هذا أقصى ما يملك من فهم!
لا بُدَّ إذن أن نعيد تشكيل عقول شبابنا على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - وسنته لا على هدي جماعات وأحزاب تربيهم على التهالك وإزهاق النفوس بدعوى الفداء والنضال والجهاد، لقد كان - صلى الله عليه وسلَّم - يربي أصحابه على المحافظة على الحياة وعلى رفض هذه العنتريات والمراهقات العبثية بإزهاق النفوس، فلم يحفظ لنا التاريخ ولا مرة واحدة أن أحداً من أصحابه بادر بإزهاق نفسه لأجل نصرة هذا الدين، بل بلغ من حمايته - صلى الله عليه وسلَّم - لنفوس أصحابه أن جعل ابن مسعود يرى «سلا الجزور» ملقى على ظهره الشريف - صلى الله عليه وسلَّم - ولم يبادر بإزالته خوفاً على نفسه من الهلاك، فقال قولته المشهورة: (لو كانت لي منعة) - أي لو كانت لي عشيرة تحميني من بطش هؤلاء - (لرفعت هذا السلا من على ظهره - صلى الله عليه وسلَّم - ). وهنا أسأل: لماذا ابن مسعود لم يذهب بنفسه ويحمل سيفه ويرفع الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - بأبي هو وأمي؟ ألا يستحق رسول الله أن تذهب النفوس والأموال والأولاد لأجله؟ بلى والله يستحق هذا وأكثر منه - صلى الله عليه وسلَّم - ، لكن هذه العاطفة ليست محل نظر الشريعة ولا عنايتها، إِذْ هي لا تقدم ولا تؤخر، بل ضررها أكثر من نفعها، ولأنه لو فعل ذلك ابن مسعود لربما ذهبت نفسه وأزهق روحه وهذا ليس مراداً في الشريعة ولا مرغوباً فيه، بل المراد عكسه تماماً وهو أن يبقى ابن مسعود حياً يعبد الله على بصيرة وينصر دينه بالحكمة والموعظة والحسنة لا بمنطق التهالك والمبادرة إلى الموت، ولهذا قال ابن مسعود بكل صراحة: (لو كانت لي منعة لرفعت هذا السلا من على ظهره - صلى الله عليه وسلَّم - .) كأنه يقول: ما الفائدة لو فعلت هذا وأهلكت نفسي؟ ماذا يستفيد رسول الله؟ وماذا تستفيد أمة الإسلام من موتي؟، وقد أصاب - رضي الله عنه - في هذا غاية الإصابة، ولهذا لم ينقل لنا أحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - عاتب ابن مسعود أو ثرّب عليه بعد ذلك، ثم هل يستطيع أحد أن يزايد على ابن مسعود في محبته لرسول الله؟! إذن: ما دام الأمر كذلك فمن أين جاء الخلل؟ وكيف هانت الحياة على شبابنا؟ ولماذا رضوا أن ينتحروا ويمزقوا أنفسهم أشلاء ومزقاً على أن يحيوا حياة طيبة كريمة عامرة بالإيمان؟ باختصار إنه العقل الحزبي البراجماتي الذي يغلب منطق الموت على منطق الحياة، وما لم نتعاف من هذه اللوثة فأعتقد أن أمامنا مشوارا طويلاحتى ترسو سفينتنا على شاطئ النجاة، لكن لا بد أن ندرك أن هذا التباطؤ ليس في صالحنا أبداً فشبابنا اليوم في مرمى السهام حقاً.
- كلية الشريعة - جامعة القصيم
Khaled4321@gmail.com