ربما يمكن القول إن العولمة تعني أن يكون الشيء عالمياً، بمعنى أن يصبح ذات انتشار عالمي أوسع، وهي عملية اقتصادية نشأت من خلال المؤسسات التجارية على المستوى العالمي، حيث توسع انتشار تلك المؤسسات لتبدأ الدول الرأسمالية الكبرى والمتحكمة في الاقتصاد العالمي في صناعة علاقات مع الدول النامية على الصعيد الاقتصادي،
وذلك بحثاً عن مزيد من المال والأسواق المالية الربحية بدرجة أولى، وبعد ذلك جرَّت تلك العملية خلفها عدداً من العمليات الأخرى ذات البعد السياسي والاجتماعي والثقافي ليكون هناك تدخل حيوي ثقافي وانصهار أدبي يتعلق بالمعتقدات والهويات الثقافية والأنماط الاجتماعية السائدة والقيم والأبعاد التاريخية، وأصبح هناك نوع من عدم الفصل في العلاقات الاجتماعية لتتلاشى المسافات وتتوحد الهويات، ويبدو العالم وكأنه يعيش في قرية صغيرة ذات نمطية واحدة ومتشابهة! وقد انقسمت تلك الأبعاد إلى وجهين متضادين: فالأول وجه يحافظ على هويته وثقافته وسيادته، وهو الوجه الأقوى على المستوى العالمي، ويتمثل هذا الوجه في أميركا والدول الأوروبية، وهم يحاولون نقل ثقافتهم وكامل معتقداتهم إلى الدول النامية، ويرفضون المقاربات الثقافية والعلمية بسبب الفروقات التعليمية والبيئية والمالية وقوة السيطرة العسكرية والسياسية والتجارية كبعد أول وأساسي. أما الثاني فهو وجه المتلقي، ويمثله الدول النامية التي عانت من الفقر والمجاعة وبحثت عن مصدر الرزق في المجال الخدمي واليد العاملة (الرخيصة) مما أدى على المدى البعيد إلى الاندماج الثقافي والاجتماعي، والانصهار في بوتقة صغيرة كل أجزائها متشابهة، فلم يشعر الإنسان بنفسه إلا وهو جزء في هذه البوتقة لا يستطيع الخلاص منها ولا يعرف نفسه، إذ افتقد هويته!
ويعرف المفكر البريطاني رونالد روبرتسون العولمة بأنها «اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش»، كما يعرفها مالكوم واترز مؤلف كتاب العولمة بأنها «كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بدون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد».
وكما أن العولمة أدت إلى مزيد من الحريات الاقتصادية لأصحاب الشركات التجارية والمصانع والإمبرياليين، وأتاحت للجشع أن يمد قدميه، فإنها أيضاً قد أتاحت المجال لانتقال العادات والطبائع والمعتقدات الفكرية والهويات الثقافية للدول التي كانت تحت وطأة الضعف فقبلت بالمفاوضات الاقتصادية لتوفير اليد العاملة مما أدى إلى تشارك اقتصادي بين المال والإنسان، فأسفر ذلك عن تحويل العالم إلى قرية صغيرة تعيش فيها كل الأعراق والأجناس بما تحمله كل بيئة من قيم ومبادئ ومعتقدات وإيمان، بل وإن ذلك أسهم ومن خلال وسائل عدة إلى استحداث تقنيات وإنشاء فروع للشركات سواء كانت مطاعم أو ماركات ملابس عالمية ساعدت بوجودها على أحداث تغيير بطيء في النمط الحياتي. وبطبيعة الحال فإنه ما أن يتغير ذلك النمط حتى يتحول (الوحش العولمي) إلى نمط آخر ويبدأ في محاولة تغييره بشتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة.
ولأن أميركا هي الدولة صاحبة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، فإن الثقافة الأميركية أصبحت هي السائدة في العالم كله، فالأعمال أصبحت تأخذ طابع السياسة الأميركية بشكل ممنهج، وكذلك التعليم على المستوى التنظيري والمستوى العملي، وأصبحت هوليوود وصناعة الأفلام تشكل بعداً خاصاً لزرع الثقافة الأميركية في أوساط الفن ليتم نقلها بأسلوب غير مباشر للمتلقي في الدول كافة، ولم تكتف بصناعة الأفلام وما تنقله من ثقافات وسلوكيات بل بدأت التوسع في نشر الثقافات عن طريق الكتب والثورة الهائلة في وسائل الاتصال والإنترنت وتقنية المعلومات ووسائل الإعلام بكل أشكاله المرئية والمقروءة والمسموعة!
يقول الدكتور جون توملينسون أستاذ علم الاجتماع الثقافي ومدير معهد التحليل الثقافي بنوتنغهام «تقع العولمة في القلب من الثقافة الحديثة، وتقع الممارسات الثقافية في قلب العولمة». وقد تحدث عن المرتبطية والتقارب الثقافي المتجسد في قلب العولمة قائلاً «يمكن أن تؤخذ فكرة المرتبطية للدلالة على تزايد التقارب العالمي المكاني والذي تحدث عنه ماركس في كتابه المعنون (معالم نقد الاقتصاد السياسي) على أنه إفناء المكان بالزمان، والذي أشار إليه ديفيد هارفي على أنه انضغاط الزمان - المكان، والأمر المتضمن هنا هو إحساس بانكماش المسافات من خلال الانخفاض الدراماتيكي في الوقت المستغرق إما بصورة مادية (على سبيل المثال عن طريق النقل الجوي) أو تمثيلية (عن طريق النقل المتواسط إلكترونياً للمعلومات والصور) لاجتيازها، وعند مستوى آخر من التحليل تلقي المرتبطية بظلالها على فكرة التقارب المكاني عن طريق فكرة تمديد العلاقات الاجتماعية عبر المسافة».
إن تحديد تأثيرات العولمة على الثقافة إيجابياً أو سلبياً يتطلب أن يتم تحديد مفهوم الثقافة بشكل دقيق جداً، فالثقافة ليست كما وصفها كليفورد جيرتز حين قال: «نمط كلي للحياة»، إن مفهوم الثقافة يزداد تعقيداً بازدياد تعقيد الوجود الإنساني، ولا يمكن قياس التأثر بالعولمة على أنه تأثر إيجابي أو سلبي بشكل مطلق دائماً، لكن يمكن القول إن البوتقة التي ضمت العالم في محيطها الصغير وجعلت العالم يعيش في مفاهيمية ثقافية لغوية تاريخية جعلت الجميع يتوجس من هذا التشابه الشاذ -إن جاز القول- فالهويات تعني الذاكرة التاريخية بكل ما تحمله من مضامين، والذاكرة لا يمكن أن تتوحد أو تنصهر مع ذاكرة أخرى حتى وإن كانت ذاكرة بيضاء نقية!
إن المعنى الذي يبنيه الإنسان في بيئته لمفهوم الثقافة عن طريق ممارساته التمثيلية الرمزية حتى ترسخت لديه ذاكرة الهدف التي تحفظ مغزاه من العيش في هذا المجتمع تحديداً وإيمانه بمعتقداتهم وعمله في أنساق يعتقد أنها تقوده لأهدافه المختلفة سواء كانت ذات بُعد دنيوي أو بُعد آخري لا يمكن طمسها بسهولة، لذلك بدأت العولمة بشكل اقتصادي قام على قياس طرائق الناس وعاداتهم الاستهلاكية والشرائية، وجاء بعد ذلك البُعد السياسي الذي عمل على قياس القوة المجتمعية وأنماط العيش تحت لواء الديموقراطية أو الديكتاتورية سواء كان ذلك في الجمهوريات أو المملكات، ولذلك أشار هوركهايمر وأدورنو بازدراء للنصوص الإعلانية باعتبارها صناعة الثقافة بالأغراض الوسائلية للرأسمالية! فالثقافة هنا تعد حالة من الصميم الإنساني، وهذا المعنى وإن كان عاطفياً جداً في نظرته لتلك الثقافة إلا أنه نزَّه الثقافة الإنسانية المستمدة من البيئة الاجتماعية عن هوس الرأسمالية بالأوراق المالية وثقافة البيع والشراء والكسب السريع الضخم المتوحشة. فقد كان من الانتقادات التي طالت العولمة هو كونها: استغلالية من الدول الكبرى لدول العالم الثالث بالحصول على المواد الخام، أو تحويل الإنسان البسيط إلى مادة خام باستقطابه كعامل ليس لنفعه ولكن للحصول على الإنتاجية الضخمة بيد عاملة رخيصة، بالإضافة إلى الإسراف في الاستهلاك من خلال صناعة الثقافة بطرق الرأسمالية، وتتمثل في الإعلانات التجارية التي قادت الناس إلى الإسراف المادي وأصابهم توحش الرغبات البشرية والمتمثل في هوس الشراء للحاجة ولغير الحاجة ولرغبة الاقتناء والتفاخر والتباهي، حتى أصبحت أسعار السلع لا تضاهى بما تم استخدامه فيها من مواد!
يقول الدكتور عبدالله الغذامي عن التوحش الثقافي: «هل شدت العولمة الحبل حتى انقطع، أم شدت الحبل حتى انكسرت الجرة، وستكون الجرة المكسورة هي الكرة الأرضية ثقافةً وبشراً..!؟» ثم استرسل قائلاً: «ومصطلح العولمة منذ ظهوره هو مصطلح مثير وحمال لمنظومة من الدلالات السلبية في معظمها، وإن كان الساسة والاقتصاديون قد طربوا للمصطلح وأحسوا أنه لا يمثل لحظة انتصار للرأسمالية والليبرالية فحسب، بل إنه نهاية الإشكال الثقافي البشري في سؤال البشرية عن النموذج والرمزية».
لقد عانت الدول ذات التأصل الثقافي من آثار التخلي عن جلدها، والاندماج في الثقافة الأميركية، فأميركا هي الدولة الأساس في العولمة، فانضمت بعض الدول إلى المنظومة متأخرة بعد أن استوفت الشروط الخاصة بانضمامها، وإن كان بعض الاستيفاء ليس إلا نموذجياً لا يمثل كل الطبقات المجتمعية، فأصبح النموذج هو الشاهد الورقي الدلالي على الاستيفاء للانضمام لتلك المنظومة التجارية المغرية. وحين يتابع الهتم بالاقتصاد، الشأن الاقتصادي اليوناني على سبيل المثال، يجد أن الدول الأوروبية بانصهارها في النموذج العولمي قد ورطت نفسها في مشكلات اقتصادية كبيرة لم تستطع كبرى الدول من الناحية المالية الخلاص منها، وقد أشار لذلك أيضاً الغذامي قائلاً: «لم يسلم من المقتل العولمي، حتى الذين صنعوه، ومشكلة الاتحاد الأوروبي مع اليونان تكشف عن هذا، والاتحاد الأوروبي هو من كان يحرص تكثير الأعضاء طلباً للقوة والاكتساح سياسياً وثقافياً، ولكن هذا الاكتساح انعكس على صانعيه حتى صارت اليونان الضعيفة والمفلسة تجر أوروبا كلها خلفها في مأزق لا يسلم منه أحد بما فيهم أصحاب الاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا». وقد جاء في صحيفة المدينة قراءة لطرح الدكتور جابر عصفور في كتابه (النقد الأدبي والهوية الثقافية)، حيث طرح تصوراً مفاده «أن طريق التنوع الثقافي الخلاق هو السبيل الواعد للخروج من بين شقي الرحى: العولمة الوحشية والأصوليات المناقضة لها. ثم المضي في طريق واعد للإنسانية التي أصبح من الحتمي على مثقفي العالم الثالث أن يعيدوا طرح الأسئلة الجذرية عن الهوية الثقافية والغزو الثقافي والاستشراق والاستغراب ومفهوم الثقافة الوطنية وعالمية الأدب». كان ذلك مثلاً من بين أمثلة عديدة، ولعل الإنسان أصبح لهوفاً بالجري وراء كل حديث حتى تناسى شيئاً من إنسانيته، فأصبح كأنه كائن تقني مادي من غير عواطف، وهذا من نتاج اندماج الثقافات ببعضها، فأنتجت مسخاً لا يعرف شيئاً عن جذوره ولا يستطيع التماشي في ظل غيره، ويشعر بنقص رغم امتلاكه كل شيء، فيظل يهرول هنا وهناك بحثاً عن ذاته المفقودة، فلا يجدها! وإذا آمنا بأن هذا العالم قد أصبح قرية صغيرة، فإنه لا ينبغي لأصحاب القرية أن يكونوا من بناء ثقافي معرفي واحد، لأن التشابه هنا يجر خلفه سائر الجسد الفكري الحضاري بحسنه وسيئه، فالإنسان بفكره وعقله وتوجهاته وجذوره وقيمه ومبادئه وهويته الثقافية وبُعده التاريخي وانتمائه الوطي الجغرافي، أو ما يسمى بانتماء المسافات والحدود يصعب عليه أن يكون كعضو في جسد آخر يجر له أو عليه الويلات من كل اتجاه. إن التحضر مطلب، لكن الاستقلال الثقافي لا ينبغي أن يضيع في ظل وحشية المال والاقتصاد الرأسمالي!
- عادل الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26