كثيرة تلك الاتجاهات التي ترى أن اللغة - أية لغة - ما هي إلا نتاج وإنتاج؟ كل المواد الثقافية والحضارية تعبر عن ذواتها في ماهيتها من حيث الجوهر والوظيفة، ولا أعني هنا تلك اللغات التي مازالت منزوية اجتماعيًا وعلى استحياء في واقعها ومع واقعها.
ويكفي أن نتفق - مبدئيا - على أن الكرسي هو كرسيٌ أيا كان تصميمه إلا أن له أبعادًا وظيفية متعددة بتعدد هيئته وخامته وزواياه إلخ. وكذلك اللغات.
لماذا لا تحظى اللغة العربية بأدنى اهتمام في كل مساقاتها في حياتنا؟ بل لماذا تهتم الأمم المتقدمة صناعيا بلغة مجتمعاتها؟ بل - أيضاً - لماذا كان العرب أفضل منا في الدرس اللغوي العربي؟ وأعني بالعرب هنا الفلاسفة واللغويين والمنطقيين والكلاميين والأصوليين والأطباء والمهندسين والكيميائيين.
الغريب (وفرق بين الغريب والمدهش والعجيب، ولا يكون الغريب إلا باستنكار بعكس المدهش المفاجئ إيجابا أو العجيب المفاجئ إيجابا أو سلبا)، وكل الغرابة هو أن المنتج الاقتصادي أو المنتج المادي أيا كان يكون كثيرًا ملهما أكثر من اللغة في بعض الثقافات، وثقافتنا العربية أولى تلك الثقافات، علما أن اللغات العالمية، وأدناها الألمانية، تتماشى دائما مع أي منتج مادي وثقافي وعلمي.
لسنا هنا بحاجة إلى استعراض التراث العربي الذهبي؛ لأن هذا التراث كان بلغته متفقاً ومنسجماً وصادقًا بالجملة والتفصيل مع مواده الثقافية والحضارية، وأبسط دليل على ذلك الزخم الهائل من الوقائع اللغوية التي تزيد على 1500 معجمًا التي حصرها أحمد الشرقاوي إقبال في كتابه: معجم المعاجم. بل ماذا عن ذلك الكتاب الطريف للثعالبي المعروف بعنوان (فقه اللغة) ومحتواه الذي يعد تصويرا ماديا مسجلاً بالصوت والصورة (تماماً مثل الفيديو) لتفاصيل الواقع اللغوي العربي في تلك العصور!
القضية - ببساطة - طويلة وتستلزم قناعات مشتركة تكون لقاعدتها أساس واحد: أن اللغة ليست هوية وحسب، وليست للتواصل وحسب، وليست نحن وحسب، فكيف يكون ذلك؟ تفسير ذلك يكمن عن التعبير عن أحوالنا وتفاصيلنا، بل يكمن أكثر وأكثر في صدق ذواتنا مع اللغة، وعمق تفسيرنا لتفاصيل حيواتنا فضلاً عن تفاصيل ذاوتنا، وأكبر دليل بسيط على ذلك هو أن متعلم اللغة الثانية من العرب يستحسن تفاصيلها لأنه أحبها، ولو لم يكن يعرف إلا العربية لاستحسن التعبير العامي المستغرق عامية فيما يحب قوله، وهنا نقف مع الفعل (يحب).
إن هذا الفعل الصَّغير (يحب) يصنع الكثير، ويقدم الكثير، ويفعل الكثير، وينتج الكثير، ولو نظرنا إلى تاريخ الاستعمال الشفهي للعربية والمدون في تاريخ اللغة العربية في تلك العصور لاستخلصنا فكرة واحدة هي: إنتاج لغوي اجتماعي صادق بمستويات عربية نموذجية (وليست فصيحة). كثيرا نصدق بلهجاتنا لكن اللهجة - أية لهجة - محدودة التركيب والتوليد ومُفْتَرِقة في الألفاظ التي يزول بعض أو كثير منها بزوال زمنها، وهذا استنتاج آخر على أن المتحدث بلهجته لا يمكن له أن يربط بين العقل والمنتج اللغوي، ولا يمكن له أن يحصر كل اللهجات ليستكمل دوائر هذا التجديد، وهذا عكس المعرفة اللغوية النموذجية التي تُنتج الكثير. ولنقارن بين اللغة والمادة فيما قلناه سابقا: فلو أن اللغة (أو اللغات داخل اللغة) النموذجية - ولا غير النموذجية - مثلها مثل العمران والبنيان، واللهجات مثلها مثل الإكسسوارات - وهي إكسسوارات في نظري - فهل الإكسسوارات هي العمران الأساس؟! بل لنقارن بين اللغة والاقتصاد والمال والأعمال، هل المال اللهجي (أقصد المال الذي ليس له مقابل مالي آخر مختلف عنه) مثل المال النموذجي (أقصد المال الفاعل بسلات وحضور متنوع وممتد جغرافيا)، بل هل اللهجة قادرة على أن تكون معياراً في أقصى دولة في الشرق أو الغرب؟! بالطبع لا، وهنا كان سر نجاح اللغة العربية في العصور الذهبية!
إذن: ماذا نستنتج من هذا كله؟ اللغة ليست هوية أو تواصلًا، بل مركب اجتماعي اقتصادي معرفي، فما مركب العربية العام في عصرنا؟ لقد أثبت علماء اللغة التطبيقيين بأن الطفل قادر على استيعاب أكثر من 10 آلاف كلمة حتى بلوغه سن السابعة، وسؤالنا البسيط لهذا السياق هو: كم كلمة يعرفها طفلنا العربي البالغ من العمر سبع سنوات؟ وأعني بالكلمة العربية هنا تلك الكلمة المستعملة على المستوى النموذجي؛ أي: تلك الكلمة التي لا تتبع لخصائص لهجية في صوتها وصرفها. إذن: ما اللغة؟ اللغة صناعة بشرية متجددة، والتجدد هنا توليد في ذاته، وكل اللغات تتولّد وتتوالد تاريخيا، وبشكل يخصها قد ينتج عنه تحولات تخصها أيضاً. تكونت الصينية عبر 2500 سنة لغات السينيتيك: الماندرين وشنغهاي وتشانغشا ونانتشنج وهاكّا والكانتونيز والأَمُوْيْ، والمفارقات بينها أبسط بكثير من تلك المفارقات بين اللغة الإيطالية والإسبانية مثلا، بل بين الرومانية التي تتحدث بها دولة رومانيا ودولة أسبانيا، ومازالت الصينية تتجدد في دائرة مغلقة متجددة بشكل غير متناه، والفرق بين التجدد المغلق والتجدد الخطي مرهون بمدى استيعاب أهل تلك الفروقات لبعضهم في التواصل! فمعرفة الاسباني لشيء يسير لما يقوله الإيطالي دليل تقارب بين هاتين اللغتين في الدائرة المغلقة المتجددة، ولكن بين الاسبانية والفرنسية يستحيل ذلك مع أنها جميعا من لغة أم واحدة، ولذلك فإنَّ سر اللغة مثل أسرار المواد الثقافية التي تتجدد صناعاتها لكنها تبقى بجوهرها الأساس، وحصر الجوهر والتجدد معا للغة العربية - مثلاً - يتطلب حصرا مستمرا لأي تجدد لا يخرجها عن جوهرها! وعوداً إلى مفهوم الصناعة البشرية للغة، نلحظ أن التجدد المنغلق يُعين أكثر من التجدد الخطي في سبيل الاهتمام باللغة ومثله الاهتمام بأية مادة، فلماذا نجد تلك اللغات المتجددة خطيا عبر القرون أكثر قوة وحظا من لغتنا العربية المتجددة بشكل مغلق! ولماذا نلحظ اللغة الصينية بتجددها المغلق وبلغاتها أو لهجاتها المفترقة والأكثر افتراقا من لهجاتنا العربية قد تنال الحظ الأوفر، وقد تقفز على الإنجليزية في المستقبل؟ السبب - في نظري - هو ارتباط المواد الثقافية الفاعلة والمتجددة بها، ولغتنا العربية محفوظة بإذن الله ولكنها ما تزال منفصلة (بصدق وحب) عن الفعل الاقتصادي والمادي والاجتماعي والسلوكي الفاعل فضلا عن انفصامها الحاد أساسًا عن التطور النموذجي! ومن المهمأن ندرك أن مصطلح (النموذجي) هنا يعني المستوى اللغوي - أو المستويات اللغوية - الذي يمثل خصائص الأصوات المتقاربة، ومجموع القواعد التركيبية المقبولة، والتوليد الجملي المتنوع، والمعجم الذهني المتجدد، وذلك كله لصالح ما (نحب) أن نكون عليه عربياً، وهنا أكبر سر في صناعة اللغات، فهل تستطيع أجيالنا القادمة أن تعبر بالعربية بالمستويات النموذجية بصدق لجوانب حياتها (التي تحب)؟ كلنا يتمنى ذلك.
د.. سلطان بن ناصر المجيول - أكاديمي بجامعة الملك سعود - مختص بالمدونات الحاسوبية