تناولنا في بداية الجزء السابق عدّة فروقات بين عدد من الديمقراطيات، وختمناه بموضوع حقوق الأقليات، وأوردنا في ثناياه بعض آراء أفلاطون حول الديمقراطية، وغير ذلك من النقاط..
وأنقل دفة الحديث في هذا الجزء إلى ضفة أخرى من ضفاف «الديمقراطية» وهي موضوع (الديمقراطية الصحيحة) فالكثيرون يتفقون على أن الديمقراطية مطلب نبيل ومنزلة شريفة ينبغي على كل مجتمع لم يصل إليها أن يحاول الوصول، وعلى كل مجتمع وصل إليها أن يحافظ عليها ويزيد من إتقان تطبيق مبادئها العالية، وأن يجتهد في القضاء على بعض السلبيات التي قد تحدث معها أو منها؛ فكيف نصل إلى هذه الديمقراطية الصحيحة في المجتمعات؟ الجواب ببساطة عندي هو كما ألمح أفلاطون في كلامه الوارد في الجزء السابق، وكما صرَّح غيره من المفكرين..
وهو أننا بحاجة قبل أي شيء إلى الوعيين السياسي والاجتماعي؛ لأن الديمقراطية تلامس المجتمع والاقتصاد وسياسة الدولة بقوة، ومن هنا تحتاج الشعوب والمجتمعات إلى تدريبات مكثفة وممارسات مستمرة، للوصل إلى (الجو العام) المناسب لتطبيق الديمقراطية بشكلها الجميل النافع المحقق للتعايش والاستقرار المنشودين.
إن حاجة الإنسان إلى (التعايش) كانت -في رأيي- النواة الأولى التي انطلقتْ منها الديمقراطية..
وبالمناسبة فلديّ قناعة هي أن لغالب العلوم والمصطلحات الرائجة أسبابًا احتياجية أدّتْ إليها، فقد أكدتُ مثلا في مقالات سابقة، على أن حاجة الإنسان للأمن كانت السبب في ظهور علمي الاجتماع والقانون.
وهذا ينطبق على الديمقراطية والتعايش، فالاختلاف في الآراء ووجهات النظر هو طبيعة البشر في هذه الحياة، والإنسان بطبعه كائن متقلب متردد في كثير من أحواله، ومن هنا قامت الديمقراطية على أساس الحاجة إلى التعايش والتسامح وتوفير المناخات الحرة التي يتقبل فيها الناس آراء بعضهم برحابة صدر.
والخلاصة أن الديمقراطية المثلى في نظري، هي التي تكفل تحقيق ذلك التعايش بين الناس، وتضمن حقوق كلِّ أفراد الشعب وحرياتهم المتعددة، وتعمل على صيانتها وحمايتها، وترفع كرامة الناس إلى أعلى المستويات، وتعزز فيهم الاستقلالية والنضوج الفكري، وبالتالي تجعلهم قادرين على المشاركة الواعية الإيجابية في المناشط والأحداث السياسية والاجتماعية.
وهي التي تجعل من الشعب حاكماً ومحكوماً في آن واحد، بتقوية ثقة الناس في أنفسهم وفي قناعاتهم، وحقهم في تفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكومة بها.
وتزيل الرهبة من قلوب الأفراد وخوفهم من القمع والتنكيل عند رغبتهم في طرح رؤاهم والمطالبة بتطبيقها، ويتم ذلك عن طريق رفع مستوى وعيهم بحقوقهم الإنسانية المختلفة.
وهي التي تزيد من فرص الناس في التأثير على واقع حياتهم، عن طريق العمل السياسي والمدني الحر، فتفتح الأبواب على مصاريعها أمام كل فرد للإدلاء بصوته، وللنقاش العقلاني الهادف إلى إقناع الآخرين بوجهات نظره، وبالتالي الوصول إلى مجتمع يبدع أفراده في التفكير المستقل في كل المجالات، طلبًا للوصول إلى الحياة الأفضل تحت مظلة القانون العادل والمساواة، وسعيًا لوضع الحلول الأنسب للمشكلات التي تواجه الشعب من مختلف الزوايا.
وأختم بأربع نقاط هامة شديدة الارتباط بالديمقراطية، وهي: أ- مفهوم الحرية: منذ عصور ما قبل الفلسفة، أو الفلاسفة ما قبل سقراط، ومشكلة الحرية تُناقش وتُبحث خاصة في عقول المفكرين، كطاليس مثلا الذي بحثها وناقشها منذ تلك العصور..
وفي الديمقراطية اليونانية القديمة، لم يكن للفرد نصيبٌ وافرٌ من الحرية، إذ إنه كان ملزمًا باعتناق دين الدولة، وكل ممتلكاته تقريبًا كانت ملكاً للدولة.
ثم توالتْ الآراءُ في (مفهوم الحرية) حيث أدلى سقراط وأفلاطون وأرسطو بآرائهم فيها، فقد نظر إليها أرسطو مثلا بمنظار المستقبل، حيث كان يرى أن المستقبل ليس محددًا من قبل، بل هو إمكانية مفتوحة يصعب التنبؤ بها، وهذا ينطوي على الإيمان بوجود الحرية.
وغالب الفلاسفة في مختلف العصور يقتربون من الاتفاق على أن الحرية مطلب إنساني رفيع مهم، ولا أعرف مفكرًا إلا ويقول هذا، باستثناء بعض المحسوبين على الفكر من المتطرفين دينياً القلّة في بعض النحل والمذاهب.
فالحرية في الفلسفة هي التي تعطي الإنسان قيمته الحقيقية؛ ولكن غالب الفلاسفة أيضًا يتفقون على أن الحرية بحاجة إلى القانون دائمًا، فالحرية الصحيحة لا يمكن أن تستقل عن العدالة؛ لأن في الحرية بلا عدالة تناقض طبيعي كما يُعبّر بعضهم، فصرح الحرية يتهاوى وينهار في المجتمع إذا وُجد فردٌ أو أفرادٌ لا يطالهم القانون، باعتبارهم خارج سيطرته أو فوقه!.
والحقيقة هي أني بعد بحث وتأمل في كثير من تعريفات الحرية، اخترتُ منها عدّة تعريفات هي الأقرب منّي والأدق في نظري..
الأول هو أن الحرية هي استطاعة الأشخاص ممارسة أنشطتهم المختلفة دون إكراه، ولكن بشرط الخضوع للقوانين المنظمة للمجتمع..
والثاني هو أن الحرية تعني التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودًا مادية أو قيودًا معنوية..
والثالث هو تعريف ابن رشد حيث يرى أن الحرية لقاء بين ضرورتين، ضرورة إنسانية وضرورة طبيعية، وترتكز نظرته إلى الفعل الإرادي الحر على جملة من المبادئ هي: الإمكان، والتقابل، والرؤية، والاختيار، والكمال، والنقص..
ويطول شرح ذلك.
والرابع هو قول جون ستيوارت ميل: «الحرية حق طبيعي يملكه الإنسان بحكم الطبيعة».
والخامس مرتبط بالسعادة، وهو تعريف هارولد سكي، الذي يرى أن الحرية هي «الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تقيّد قدرة الإنسان على تحقيق سعادته».
والسادس مرتبط بالإرادة، وهو تعريف ديفيد هيوم، الذي يُعرّف الحرية بأنها «القدرة على التصرّف طبقا لما تحدده الإرادة».
والسابع مرتبط بالإنسان، وهو قول كامي: «إن الذي يغفر للإنسان كلَّ شيء هو الحرية، الإنسان حرية قبل كل شيء».
والثامن مرتبط بالطبيعة والاستقلال، وهو تعريف أبي الحرية كما يوصف، أعني جون لوك، الذي يقول في كلام جميل جدًا: «الحرية الكاملة هي التحرك ضمن القوانين الطبيعية، وإمكانية اتخاذ القرارات الشخصية والقرارات بشأن الملكية بدون قيود، كما يريد الإنسان، ودون أن يطلب هذا الإنسان الحق من أي أحد، وبدون التبعية لإرادات الغير أيضا».
ب- حقوق الإنسان: ويكفي هنا أن نؤكد على نقطة تختصر كثيرًا من الكلام، وهي أن غالب العالم اتفق اليوم تقريبًا على أهمية حقوق الإنسان نظريًا، فصاغ ووضع كثيرًا من الإعلانات والبيانات النظرية، التي نصّتْ وشملتْ كلَّ ما يدخل تحت حقوق الإنسان، ومن ذلك مثلا حق كل إنسان في الحياة والأمن، وحقه في حرية التفكير والرأي، وحقه في حرية الضمير؛ أي حق كل إنسان في اعتناق ما يشاء من المبادئ والمعتقدات والقناعات والأفكار الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وأن يتصرف الإنسان وفق ما يمليه عليه ضميره وأخلاقه وأفكاره الخاصة..
بالإضافة إلى حق كل إنسان في حرية التعبير وحرية المعرفة، وحقه في حرية الانتظام والانتماء إلى أي منظمة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يريد، وحقه في حرية الديانة، وفي حرية التنقل، وفي حرية مزاولة أي عمل يشاء ما لم يكن من المهن التي تشكل خطرًا على سلامة الناس كبيع المخدرات والتجارة بالأسلحة الخطرة والتهريب..وما شابه.
وأيضًا: حق الإنسان في الكرامة والخصوصية والسمعة الحسنة، وما يدخل في ذلك من المشابهات والمرادفات..
وكذلك حقه في تملك العقارات والسيارات والأموال وغيرها..وحقه في المساواة..الخ، وبذلك نفهم أنه يجب على (الدولة الديمقراطية) التعامل بشكل متساو مع جميع المواطنين دون تمييز عرقي أو ديني أو جنسي أو أيديولوجي..
فالمساواة تفرض التعامل بالمثل مع جميع المواطنين في التشريعات وأمام القانون.
ولكن الإشكال هو في تطبيق تلك البيانات والإعلانات العالمية الكثيرة النظرية في مجال حقوق الإنسان، فالدول تتفاوت في تطبيق ما ورد في تلك الإعلانات والمواثيق العالمية، وبذلك نصل إلى نتيجة مهمة مفادها أن الديمقراطية الصحيحة تكتشف من خلال دراسة حال الشعب على أرض الواقع، وليس على الورق فقط، فالدولة التي لا تهتم بالحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان عامة، وخاصة السياسية منها وفق ما شرحناه، لا يمكن أن توصف بالديمقراطية، مهما تغنّتْ بمبادئها على الورق في إعلاناتها ووسائل إعلامها!.
جـ- زبدة مميزات وخصائص النظام الديمقراطي: تختص الأنظمة الديمقراطية بخصائص أو مميزات عامة، أبرزها (وجود دستور) يضع القواعد الأساسية لنظام الحكم في الدولة، ويوضح كيفية تشكيل السلطات العامة؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية..
ووجود سيادة حقيقية للقانون مهما كان مصدره، بشرط موافقة أغلبية الشعب أو من يمثلهم عليه، ووجود الحريات فعلا كحرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين الأحزاب السياسية، وقبل ذلك كله وجود حرية حقيقية كاملة نزيهة عادلة للشعب في اختيار من يحكمه..وغيرها من الحريات التي مرَّتْ سابقا..
ومن أهمها أيضًا، أي من أهم خصائص الديمقراطية استقلال السلطة القضائية استقلالاً تامًا لا عبث فيه، فلا أحد يستطيع التدخل أو الضغط على القضاة بأي شكل للتأثير على سير العدالة.
د- علاقة الديمقراطية بالفلسفة: هذا موضوع طويل عريض؛ ولكن أبرز ما فيه في نظري هو أن العلاقة تقوم على (الاحتياج المتبادل).
ولذلك فهي علاقة وطيدة جدًا، فقد اهتم الفلاسفة كثيرا بالديمقراطية، وهذا طبيعي عطفاً على اهتمام كثير منهم بتنظيم حياة البشر في مجتمعاتهم، وهذا التنظيم بما فيه الديمقراطية، لا يمكن أن يتم على الأرض إلا على (أسس فلسفية تنظيرية) ترتكز على المفاهيم والمطالب السامية، كالحرص على تحقيق العدل والحرية والمساواة بين الناس.
فالفقرة السابقة تمثل (حاجة الديمقراطية إلى الفلسفة)، أي حاجة الديمقراطية إلى تنظيرات ومنطلقات فلسفية عقلية، لا يمكن للديمقراطية أن تقوم بشكل صحيح في أي مجتمع دون الاستناد عليها.
أما (حاجة الفلسفة إلى الديمقراطية)، فلا تقل عن حاجة الديمقراطية إلى الفلسفة، فالصروح الفكرية الفلسفية الشامخة، يصعب بناؤها على الأراضي التي ينتشر فيها التسلط، فالمفكر أو الفيلسوف لا يمكن لعقله أن يبدع وينتج بالصورة المنشودة، إلا إذا أمن على نفسه من التعرّض لمختلف أشكال القمع والإقصاء والتسلط والوصاية الفكرية.
- وائل القاسم