(1) افتتاح:
غاب عنا بوجهه السمح نور
أين من فيض نوره النيران
فتعتصى الكلام وامتنع الشعر
فنهر الدموع كالطوفان
أين مني البيان أغمس فيه
ريشة الفن وردة كالدهان
كتب الموت يا حبيبي علينا
كل شيئ على البسيطة فان
أي رزء جديد طبق الكون
أحال الوجود كالبركان
فإذا الأفق لوحة من سواد
وإذا الجو لجة من دخان
يشهق العصر بالتنهد حزناً
ويئن التاريخ بالأحزان
هذا ما قاله -ذات رثاء- شاعر ومؤرخ الجنوب رحمه الله محمد العقيلي في رثاء الشهيد فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله.
أستعيدها اليوم وأنا أرثي رفيق الدرب التاريخي المرحوم -إن شاء الله- الشيخ حسن الفقيه مؤرخ القنفذة ورئيس اللجنة الثقافية وشيخ الآثار في تلك المحافظة الرابضة في صدر التاريخ والعميقة في مفاصل الجغرافيا، والأصيلة في معالمها الآثارية النابضة بالناس والعمل والحياة!!.
(2) خبر وحيرة:
وذات مساء رطيب في شوال الحبيب تلقيت تحية عيدية من صاحب الأيادي البيضاء، والرسائل التواصلية، والكتابات المجتمعية عضو اللجنة الثقافية بالقنفذة الشيخ محمد الناشري، فتسامرنا وتحاورنا حتى أتى الحديث على أب الجميع ثقافياً وتاريخياً في محافظة القنفذة الشيخ حسن الفقيه فقال لي أدع الله إنه اليوم -ومنذ أمد- في العناية المركزة بمستشفى الحرس الوطني بجده.
عندها دارت بي الأرض!! في جدة ولم نعرف بذلك في جدة ولم نزره ونطمئن عليه!! ونحن كل يوم في المشفى نراجع ونتشافى عائلياً!! يا الله ما أقسى الأيام وأصعبها تباعد بين الأخلاء، وتفرق بين القرابات، وتضحك علينا بانشغالات الزمان والمكان!!.
وذات صباح «شوالي 1436هـ» كنت في المشفى، فطلبت الزيارة وسألت عن العناية المركزة فقيل لي أنه خرج وهو في الغرفة (5) جناح (20) وزرته فرأيته مهدوداً لا يعي.. البياض يحيط به وأجهزة الطب والتنفس تملأ الغرفة.. فتذكرت أمل دنقل والغرفة (8) وهو يقول:
«... نقاب الأطباء أبيض/لون المعاطف أبيض/تاج الحكيمات أبيض، الملاءات /لون الأسرة /أربطة الشاش والقطن /كل هذا البياض يذكرني بالكفن».
سلمت عليه، ودعوت له، وأيقظت مرافقه الشاب « أحد أحفاده أو أسباطه « وتبادلنا أطراف الحديث.
وتمضي الأيام أسبوع، أسبوعين -لا أعرف- إلا أن العم حسن في خاطري لا أنساه واتحين فرص مراجعه المستشفى وزيارته، حتى كان.. يوم الثلاثاء 26-10-1436هـ وحوالي الساعة العاشرة والنصف صباحاً. زرته، فتوقفت عند غرفته (5) جناح (20) فإذا هي تنضح بياضاً وإذا بالممرضات يجهزنها لضيف جديد قادم!!.
فسألتهن أين صاحبي؟.. فتلعثمن وارتكبن وقلن لي من أنت؟ وما صلة القرابة؟! فقلت زميل وصديق!! فتناثرن كل في طريقه يبحثن عمن يتحدث العربية من القائمين والقائمات على هذا القسم.
بعد دقائق جاءتني إحدى الممرضات المسؤولات فأعادت السؤال عن صلة القرابة ورأيت في عينيها سراً تريد البوح به ولكنها محرجة!! وأخيراً قالت لي رحمه الله لقد مات الحم حسن الفقيه صباح اليوم ونحن نبحث عن ذويه وأقاربه لنعلمهم الخبر. فسألتها وأين من كان يرافقه!! فقالت قدراً لم يكن معه مرافق هذا اليوم..
تذكرت أن الله عليم رحيم وأن عبده المؤمن آثر أن يخلو للموت مع الملائكة اللذين هم أقرب إليه من حبل الوريد..
تذكرت أن الله عفو غفور كريم إذا حانت ساعة الفراق والتفت الساق بالساق أحاطه بملائكة الرحمة لتخفيف السكرات وقبض الروح بعيداً عن بكاء الأبناء والبنات، في خلوة مع رب الأرض والسماوات...
مات العم حسن «تقول الممرضة» وينتظرون ذويه للتسليم والوداع الأخير!! هنا تلبستني الحيرة هل أكون المبلغ الأول بنبأ الموت؟! وهل أنقل الخبر طازجاً الآن؟! أم أتريث وأترك المهمة للمشفى..
حيرة وحيرة اتصلت على بنه حسين ولم يرد فاستخرت الله وانتظرت حتى المساء لأتملك الشجاعة وأسأل فإذا الخبر قد انتشر وتحدد موعد الدفن والصلاة في حرم الله بمكة ومقابر العدل المثوى البرزخي ثم إلى جنة الفردوس إن شاء الله!!
(3) سيرة ومسيرة:
والشيخ حسن الفقيه رمز تربوي وإداري وثقافي، كان ومازال -رحمه الله- مثلاً في العصامية والتطور والقيادة والإنجاز العلمي والمعرفي. وكان ومازال قدوة في مجتمعه وبين تلاميذه ومحبيه.
لقد قضى جل حياته معلماً وقائداً إدارياً وخبيراً تربوياً حتى وصل إلى عمادة كلية المعلمين بالقنفذة.. ورغم ذلك لم تنته هذه الأعمال الوظيفية عنه ومساره الثقافي. فخدم محافظة القنفذة بكثير من الدراسات والبحوث التاريخية والآثارية التي تشهد له بالمرجعية العلمية لكثير من الدارسين والأكاديميين.
وكان -رحمه الله- حجه علمية ومرجعية اجتماعية وثقافية في كل ما يختص بالقنفذة وما حولها وذلك من خلال محاضراته الأصيلة عن محافظة القنفذة، وكتابه الأول عن مخلاف عشم، وكتابه الثاني عن مدينة السرين. والذين يحفلان بكثير من الغنى المعرفي والأثري والتاريخي لمنطقة تهامة, فوجود القرى الأثرية والمواقع التاريخية والبقايا الآثارية كلها تدل على الجهود التي بذلها الشيخ حسن -رحمه الله- لتوثيقها وتبويبها وإخراجها في هذين المرجعين الأساسيين.
لقد أمضى شطراً كبيراً من حياته -رحمه الله- في تتبع الشواهد القبرية ووقف عليها وصورها ودرسها تحليلاً وتأويلاً وتارخةً وتوثيقاَ.
وأهم ما يميز هذه الجهود العلمية، وقوفه أمام ظاهر الكتابة القبرية - الجنائزية وتوثيقها والتعريف بها وتصويرها في زمن قل فيه من يوثق التاريخ ويهتم به في منطقة نائية كالقنفذة وما حولها.
ولعل وقوفه أمام شاهد قبري والتعريف به يحيلنا إلى هذه الفاجعة الكبيرة بموته -رحمه الله-، يقول عن نقش شاهدي الرقم (115) من قرية عشم وينتمي للقرن الخامس الهجري: أن هذا الشاهد نقش عليه ما يلي:بسم الله الرحمن الرحيم
يا موت ما أنفاك من نازل
تنزل بالمرء على رغمه
يا مخرج الحوراء من خدرها
وسالب الواحد من أمه
لحكم رب في السما قاهر
سبحانه ما جار في حكمه
هذا قبر علي بن بختال، توفي في شهر المحرم سنة ثنتي عشرة وأربع مائة .
ويقول عن نقش شاهدي آخر من مدينة السرين ويحمل الرقم (28) من القرن السادس الهجري وقد نقش عليه ما يلي:
هذا قبر عائشة بنت رشيد ابن سروى بن بركة بن عبدالله بن أبي بكر التقاوي، توفيت يوم الخميس سلخ جمادى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
طلبت من المقابر لي جواباً
وكيف يجيب من سكن الترابا
أناس غيبوا في الأرض عنا
وصار الترب دونهم حجابا
ربائب نعمة جيران دود
دمائهم لها أضحت شراب
وقد كانت لهم فيها يثاب
فأبلا تربهم تلك الثيابا
ولعل في هذه الإشارات ما يحثنا على أن نكتب عنه (رحمه الله) القصائد والأبيات والبحوث والدراسات للتعريف به وذكر مآثره وإنجازاته المعرفية وذلك تطويراً للشواهد القبرية التي كانت رمزاً ودلالة على الشخصية المقبورة في تلك الأزمنة السحيقة.
وبعد... فهذه إشارات متواضعة عن جهوده الآثارية فيما يخص الشواهد القبرية التي سبر أغوارها وبحث عنها ووثقها في أماكنها من المقابر المنتشرة في المنطقة. وهي جهود يشكر عليها -رحمه الله- وجعلها في موازين أعماله، وقد وفقني الله وطبعت كتيباً عن هذه الجهود وتحليلها نشر عام 1432هـ.
(4) مشاعر وذكريات:
رحم الله الفقيد، فقد كانت لنا معه ذكريات ومناقشات فقد شرفنا به في نادي جدة الأدبي عندما تقدم بمذكره يطلب فيها إنشاء لجنة ثقافية تضم المبدعين والأكاديميين المثقفين في محافظة القنفذة وتابع الموضوع حتى تم إقراره من قبل الوزارة وأنشئت اللجنة في عام 1428هـ وترأسها بروحه الأبوية، وكيانه الثقافي التاريخي، ورمزيته الاجتماعية. ولما أنهكه المرض، وحال بينه وبين اللجنة وأعمالها ومشاريعها الثقافية كانت البركة في فريق العمل الذي قاد السفينة وسارت اللجنة بجهود نائب الرئيس الدكتور عبدالله با نقيب وثلة من زملاء الحرف والكلمة سيراً تقدمياً متطوراً حتى اصبحت اللجنة تنافس أفضل الأندية الأدبية عطاءً وفعاليات وأخباراً إعلاميةً طوال الثماني سنوات الماضية!!
وكثيراً ما زرت الشيخ حسن في داره العامرة وتزودنا من مكتبته العامة وما تحويه من أمهات الكتب والمطبوعات والمخطوطات في حقول النحو واللغة والتاريخ والحضارة.. والتي أرجو من ورثة المرحوم إتاحتها للباحثين والدارسين أو إهدائها لمكتبة اللجنة الثقافية بالقنفذة أو لمكتبة الكلية الجامعية هناك حتى تصبح معلماً يدل عليه بعد موته رحمه الله.
كنت التقيه في المناسبات الثقافية واللقاءات الشعرية في الأندية الأدبية جدة، أبها والباحة فأجد فيه روح الشباب وتطلعاتهم وحكمة الشيوخ واهتماماتهم، وبكل روح أبوية يناقش ويحفز ويعزز لإنجاح كل مشروع ثقافي وشعري ونثري وتاريخي. وكان (رحمه الله) ينشر علمه على الجميع وأنا واحد ممن استفاد من علمه ورؤيته في الكون والمجتمع والحياة.
(5) خاتمة:
أيها الشيخ الفاضل رحمك الله.. وأيها الأبناء الأعزاء وذوي الفقيد صبركم الله وأحسن عزائكم، لست أرثيه.. ولكني أقول ما أحس فيه:
راحل صوب المقابر
ذلك الشهم المغادر
كان أنساً ألمعياً
كان نبضاً في الضمائر
كان خلاً يصطفينا
كان فجراً وبيادر
كان زهواً في حياتي
وآذاناً في المنائر
راحلُ صوب المقابر
يحفر الصخر..
يقرأ النقش..
ويدون كل هاتيك المصادر
شاهدوا هذي المقابر
فهي ماكانت لحوداً وحفائر
هي أسفار من التاريخ
هي أحلام وآمال -ذوت- ومشاعر
هي سفر للنبوءات.. ووعي بالمصائر
راحل صوب المقابر
زهد الدنيا وما فيها مظاهر
وسع الله مكاناً هو فيه اليوم صائر
وإلى الروح الندية كل الأماني والمشاعر
رحم الله -أخانا- فهو محبوب المآثر
رحم الله -أبانا- فهو مشكور وشاكر
وإلى جنات خلدٍ.. هذه دعوات شاعر!!»
د. يوسف حسن العارف - خبير تربوي (متقاعد) - عضو النادي الأدبي بجدة - مؤرخ وأديب وكاتب