خالد الدوس ">
* لا شكَّ أن التفكك الأسري الذي يسميه علماء النفس الاجتماعي « التصّدع الأسري».. ويعني في مفهومه الاجتماعي (فقدان أحد الوالدين أو كليهما أو الهجر أو الطلاق أو العنف المنزلي المستمر.. الخ ) يعتبر من الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي أخذت أبعادها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والأمنية حيز الاهتمام على الصعيد الدولي ومنظماته الحقوقية والإِنسانية، فمع التحولات الاجتماعية والتقلبات الاقتصادية والتحديات الثقافية التي يشهدها مجتمعنا اليوم بسبب وتيرة التحديث والمعاصرة.. ألقت بظلالها على البناء الأسري ووظائفه التربوية والنفسية والثقافية والاجتماعية، وبالتالي زادت من معدلات ارتفاع هذا الوباء الاجتماعي ومؤشراته، الأمر الذي تمخض عنه بعض المشكلات الاجتماعية والأمنية ومنها الطلاق وانحراف الأبناء والجريمة والمخدرات والتأخر الدراسي...الخ.
ومع اتساع هذه الدائرة المظلمة بات من الأهمية بمكان الاعتراف بحجم هذه القضية المجتمعية، والاعتراف نصف الحل، والنصف الاخر مواجهتها بالحلول العلمية الناجعة التي تكفل ضبط إرهاصاتها والحد من انتشارها.. خاصة أن النسيج الأسري يعد أكثر المؤسسات الاجتماعية تأثيراً في حياة الطفل، ولا سيما عند استقراره.. فالأسرة هي الوسط الذي ينشأ فيه الطفل ويتلقى المبادئ والقيم والمعايير الاجتماعية الأصيلة التي توجه سلوكه في المجتمع، وهي مصدر الأخلاق والإطار الذي يتلقى فيها الإِنسان أولاً دروس الحياة الاجتماعية، ولكن الملاحظ اليوم ومع شدة رياح التغير الاجتماعي أضحى النسق الأسري يتعرض لكثير من المشاكل الاجتماعية والمثالب النفسية.. وهذا يرجع إلى التغيير الاجتماعي والثقافي السريع.. حيث أدت هذه التغيرات وإرهاصاتها إلى اختلال البناء الأسري ووظائفه.. الأمر الذي تسبب في حدوث الصراع والتوتر والعنف المنزلي وظهور حالات التفكك ومظاهره داخل الكيان الأسري، وخلخلة توازنه العاطفي، والنفسي والانفعالي، والأكيد أن الضحية في هذا السياق هم الأطفال.. فقد تخلق لديهم مشاكل نفسية وعاطفية واجتماعية تمنعهم من التكيف مع الوسط الاجتماعي (المجتمع) من خلال انحرافهم عن قيمة ومعاييره الأصيلة، كما أدَّى هذا التغير في الأدوار الاجتماعية لأفراد الأسرة ووظائفها، خاصة وظيفة المرأة ومكانتها في المجتمع نتيجة خروجها للعمل ، وبالتالي صار لها وظيفة مزدوجة بين البيت والعمل، وقد أدَّى هذا التغير إلى غياب الضبط الاجتماعي وفقدان المعايير الاجتماعية ، وظهور عادات وقيم اجتماعية مستوردة على حساب عادات وقيم المجتمع الأصيلة وبالتالي ظهور فيروسات (التصدع الأسري) في المجتمع السعودي الذي يُعدُّ ضربة قاضية على الاستقرار المنزلي واختلال توازنه البنائي والوظيفي.
* ولا شك أن لظاهرة التفكك الأسري آثارا وانعكاسات نفسية وأمنية واجتماعية خطيرة على البناء الاجتماعي ، فأول ضحايا هذا المرض الاجتماعي هم أفراد تلك الأسرة المفككة ، فالزوج والزوجة قد يواجهان مشكلات كثيرة تترتب على تفكك أسرتيهما فيصابان بالإحباط وخيبة الأمل وهبوط في عوامل التوافق والصحة النفسية، وقد ينتج عن ذلك الإصابة بأحد الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب أو المخاوف المرضية ، و(اجتماعياً) قد تلقي هذه الآثار بظلالها عن واقع الأسرة فتحدث فتورا في علاقات الزوجين ، وبالتالي خلخلة التوازن في الكيان الأسري وانهياره.. !! كما يؤدي إلى نوع من الشحناء والعداوة والكراهية وظهور الطلاق الصامت أو الخرس العاطفي الذي يصيب مشاعر الحياة الزوجية بسكتة قلبية.. !! وربما تنتهي الحياة الزوجية بالانفصال النهائي بعد انفجار بالون الطلاق.. !! وبالتالي اهتزاز واقع العلاقة بين الأقارب والأرحام، وربما حدوث القطيعة، كما يؤدي التصدع الأسري إلى نشر الانحراف بين أبناء الأسرة المفككة من البنين والبنات، ومعروف أن التفكك الأسري يشتت شمل الأسرة، وينتج عن ذلك شعور لدى أفرادها بعدم الأمان الاجتماعي وضعف القدرة لدى الفرد على مواجهة المشكلات ، وبالتالي خروجهم عن قيم المجتمع ومعاييره أصيلة.
وفي دراسة حديثة متخصصة في دار الملاحظة الاجتماعية.. كشفت أن أسباب انحراف «الأحداث» من الذكور والإناث ووقوعهم في سلوك إجرامي وانحرافي نتيجة لتفكك أسرهم ، كما أن للتفكك الأسري أثرا سلبيا على التنمية فهو يشكل أثراً معيقاً في سبيل تحقيق أهداف التنمية، لأن التنمية تعتمد على وجود أسرة قائمة بوظائفها بشكل سليم تحقق الغرض من وجودها وتنتج أفراداً إيجابيين قادرين على تحمل المسؤولية الملقاة عليهم بالمساهمة في رقي المجتمع وتقدمه في كافة المجالات.
لذلك من الأهمية بمكان إيجاد الحلول الناجعة التي من الممكن ان تحد من انتشار هذا المرض في جسد المجتمع الأسري الذي يشبه إلى حد كبير مرض السرطان، فكلاهما ينتشر ويتفشى ببطء وصمت وسرية ولا نشعر بهما وبأعراضهما ألا بعد أن يتفشيا في الحياة الأسرية، ولعلاج هذه القضية المجتمعية الخطيرة قبل استفحالها ينبغي ما يلي:
أولا - تفعيل دور المؤسسات الدينية نحو تكريس مفهوم الوعظ والإرشاد والتوعية الأسرية عبر خطب الجمعة ومنابرها التنويرية الإعلامية، بما يساعد في حماية مكونات النظام الأسري من لوثة التفكك الأسري ، خاصة ان شريعتنا الإسلامية تحث على الترابط والمودة والألفة والتراحم والتسامح والاحترام المتبادل. والإحسان في الحياة الزوجية والعلاقات الإِنسانية ، يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (21) سورة الروم.
ثانيا - فتح مزيد من مكاتب الاستشارات الأسرية (النفسية والاجتماعية) في الأحياء وتوسيع دائرتها التوعوية بالدعم المؤسسي الحكومي كما يحدث في المجتمعات المتيقّظة.
ثالثا - تكوين لجنة وطنية عليا تضم خبراء من أساتذة الخدمة الاجتماعية والاجتماع وعلم النفس والشريعة والتربية لدراسة ظاهرة التفكك الأسري على المستوى الوطني دراسة علمية رصينة، ووضع الخطط والسياسات اللازمة للوقاية من هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية والحد من انتشارها.
رابعا - قيام المؤسسات الإعلامية بمختلف وسائلها وقنوانها بالنهوض بقالب التوعية الأسرية بصورة مكثفة لتوضيح.. آثار وتداعيات هذا الوباء الاجتماعي الخطير على استقرارها ووظائفها، وتنظيم حملات إعلامية متعددة البرامج الثقافية والأنشطة التنويرية من الجهات المعنية توّضح مخاطر مثل هذه المثالب النفسية والعلل الاجتماعية على الفرد والأسرة والمجتمع بوجه عام، وأهمية نشر ثقافة الوعي المنزلي عبر وسائلها المختلفة.
وأخيرا ضرورة إشاعة ثقافة الحوار.. واكرر الحوار.. الحوار داخل النسيج الأسري.. فما أحوجنا إلى الحوار الأسري المتزن بثوبه الديمقراطي الحضاري، فكلنا نحتاج إلى لغة الحوار في حياتنا الأسرية وفي علاقاتنا الاجتماعية.. لغة الحب والحنان والتسامح والاحترام والتعايش والإحسان والسلم الاجتماعي.
- باحث ومتخصص في القضايا الاجتماعية