أقصر حب ">
عائد إلى مقر دراستي بالجامعة في آخر يوم من أيام الإجازة الصيفية، وأمامي طريق طويل يزيد على ثمان ساعات.. لا مفر من سيره متراً متراً.. الجو حار والدنيا عابسة وكئيبة سيارتي مليئة بالأمتعة تكاد تعجز عن الحركة لما فيها من أحمال.. ملابس معلقة في المقعدة الخلفية.. أودّع مدينتي مع كل شارع أقطعه.. ومع كل إشارة أتجاوزها.. كل ركن يذكرني بالأحباب والأصحاب.. أمي أبي.. أخي أختي.. كل شيء يذكرني بهم.. وليس لدي أن أدعو الله أن يسهل سفري وينسيني الفراق.
توقفت في آخر إشارة مرورية بجانب سيارة عائلية كبيرة مليئة بالأمتعة يقودها رجل خمسيني مع عائلته، وبدا أن طريقهم طريقي.. بدا الصمت مهيمناً على الجميع.. أو أن حزناً قد أطبق عليهم.. لم يسمح لي مكيف سيارتي بسماع صوت سيارتهم.. في المقعد الخلفي ومن جهة الزجاج الذي بمحاذاتي فتاة تلبس حجاباً ينم عن أناقة وذوق رفيع.. بدت حزينة وهي تضع رأسها على كفها في تفكير عميق.
أخذت يدها البيضاء عقلي.. وأنستني عيناها كل ما كنت أفكر فيه قبل قليل..
أضاءت الإشارة لونها الأخضر وتحركت السيارة ومع اهتزاز سيارتهم أفاقت الجميلة من تفكيرها.. وانتبهت لنظراتي، فاعتراها حياء بدا في عينيها، ثم زادت المسافة بيني وبينهم.
ظللت أتابع سيارتهم على طول الطريق السريع وقلبي معها يسبق الزمن.. وبعد مضي بعض الوقت حاولت تجاوزهم ببطء وعيني عليها، وما إن صرت بمحاذاتهم حتى ألقت بسلاح لحظها وكأني أعرفها منذ سنين، فنسيت الطريق والسيارة والحزن والفراق وكل شيء، وأخذ قلبي يخفق، وأطرافي ترتجف، والعرق يتصبب مني وكأن مكيف سيارتي توقف عن العمل.
رفعت يدها فبان ذراعها.. وظهرت تلك الحلي الذهبية على الذراع المشع نوراً، حتى كاد أن يأخذ بصري، وهي لا تشح بنظرها عني.. وهنا انتبه السائق لمحاذاتي له، فأسرع حتى صار بيني وبينه مسافة لا تمكنني من رؤية الفتاة.
ترى.. هل وقع قلبي في الحب؟
أهو الحب من النظرة الأولى؟
أنا لست من يحب من أول وهلة.. ولست مراهقاً يتشوق لنظرة.. ولست ذاك الذي يتلصص باحثاً عن شهوة.
إذن ماذا حدث لي وما الذي جرى لي؟ لماذا أهتم بتلك السيارة ومن فيها كل هذا الاهتمام؟ ماذا حدث لي وبعثر كياني؟
لمعت الإشارة اليمنى لسيارتهم ودخلوا محطة الوقود لأداء الصلاة.. انعطفت معهم لأرى تلك الفتاة عن قرب.. وقفت سيارتهم فوقفت بجانبهم.. لاحظت أن عيونها عليّ قبل أن أتوقف.. بدأت أراقبها دون أن أنزل من سيارتي متظاهراً بترتيب ما بداخل السيارة.. نزل الأب والأم والأطفال، يعتريهم التعب من آثار السفر.. لم تنزل وظلت تلقي بنظراتها بين فينة وأخرى.. فتحتُ الباب للنزول ففتحت بابها.. نزلتُ فنزلت.. ارتطم باب سيارتي ببابها.. فقلت:
- عفواً يا آنسة.. آسف.
فرد علي صوت ساحر تمنيت أني لم أسمعه..
- لا عليك.
- أين المسجد؟
ضحكت..
- لا يخفى على أحد مكان المسجد.. انظر إلى منارته تعانق السماء.
- أوه.. نعم.. لقد رأيتها.. اعذريني أحياناً إذا رأت العين جمالاً يفوق الخيال.. لا تستطيع أن ترى غيره.
خرج صوت محمد عبده من سيارتي كأنه يعرف التوقيت المناسب:
«يا ليت العمر يتوقف.. على ساعة أنا جنبك».
هنا ابتسمت في خجل وأغلقت بابها وهي تقول:
- الصلاة الآن.. ليس هذا وقت أبي نوره.
ذهبت نحو مصلى النساء، وما إن انتهت الصلاة.. خرجت وركبت سيارتي وبدأت المسير.. وعيناني ترقبان؟ تراقبان السيارات القادمة من الخلف في المرآة لعل وعسى أن أراهم، وما هي إلا لحظات حتى تجاوزتني سيارتهم، وعيون الجميلة لا تفارقني، فزدت من سرعتي حتى أصبح بيني وبينهم مسافة كافية.
ظللت أتجاوزهم ويتجاوزونني بين فينة وأخرى.. وفي كل مرة أتجرع الحب من نظراتها، ورسائل الحب رائحة غادية بلا مراسل.
يجب أن أتزود بالوقود.. لكن إذا توقفت لن يتوقفوا.. هل سألحق بهم ؟ لا خيار عندي.
توقفت بسرعة عند أول محطة وقود ثم عدت كالبرق إلى الطريق السريع، وزدت السرعة إلى أقصى ما أستطيع لعلي ألحق بهم.. أقطع المسافات ولا أحد.. أين ذهبوا؟
رأيت غباراً كثيفاً يشق السماء فتوجهت نحوه.. يا إلهي.. أكاد لا أصدق.. سيارتهم.. استقرت السيارة بعد انقلابها عدة مرات.. كنت أول من وصل.. ركضت مهرولاً لأرى ما يمكنني عمله.
هذا هو الأب يئن ناطقاً الشهادتين.. بكاء أطفال.. عويل نساء.. هذه هي ملقاة على الأرض بين الحياة والموت.. اللثام منكشف عن وجهها الذي يغطي شعرها الحريري جزء منه سبحانه من صورها.. اقتربت منها ورفعت رأسها على ساعدي، وأزحت الشعر عن وجهها.. وهي تفتح عينيها ثم تغمضها..
- هل تسمعينني.. أنت.. يا..
- أمي.. أمي.. أين أمي؟
- لست أمك.. اسمعيني.. أرجوك.
تغمض عينيها، فقمت مذعوراً من مكاني لا أعرف كيف أتصرف.. توافدت السيارات واجتمع الناس.. لا أحد يحرك ساكناً.. كل ما فعلوه الاتصال على أمن الطرق.. جاءت سيارة الإسعاف.. حملوا أباها وإخوتها وأمها.. وماتت هي.
أظلمت الدنيا.. لم يعد للفرح طعم.. ولا للحزن مرارة.. ولا للأمل مكان.. مات قلبي مع موت قصة حب لم تدم سوى لحظات.
ركبت سيارتي ومضيت في طريقي لا أعرف كيف سأصل.. ماذا سيحدث.. كيف ستكون الأيام القادمات.. مات الحب.
- د. عبدالعزيز النخيلان